محمد أمين الشامي
لم تكن شتاءات تلك الَّتي مرَّت عليَّ في السَّنوات الستِّ الأخيرة من عمري. مجرَّد فصول مبتورة، منزوعة الأثر ككلِّ شيء في الغربة. لا لغة الرِّياح أفهمها حين توشوشني، ولا المطر له ذات اللَّهفة حين يعانقني ويهمس في أذني كلمات الخصب. حتَّى المدفأة، هي تدفئ هنا وحسب. كأنَّ تلك الحميميَّة الَّتي كانت تبثُّها شعلتها مع دفئها حين كنَّا نتحلَّق حولها في الأيَّام الخوالي لنسخِّن الخبز عليها، أو لنقوم بشي الكستناء أو البصل داخلها، كانت وقفاً على ذلك المكان، أو الزَّمان.
كلُّ الأشياء فقدت معانيها هنا، ووهنت خيوطها الَّتي تربطها بالنَّفس والذَّاكرة خلال هذه السِّنين. والأهمُّ من هذا كلِّه أنَّ هذه الشِّتاءات مرَّت بدون حكاياته.
اعتدت الإنصات إلى تلك الحكايات الَّتي كان يلقيها على مسامعنا مذ كنت طفلاَ صغيراَ. كثيراً ما أضحكتني أحداثها، كما جعلتني أحفظ أسماء شخوص لا أعرفهم ولن أقابلهم ما حييت لأنَّهم مضوا مع تلك الأيَّام الَّتي مضت إلى غير رجعة.
من خلالها، وطئت خيالاتي أماكن ومناطق تقع على الجغرافية الَّتي اعتاد أن يغطِّيها القطار في رحلته اليوميَّة بين مدينتي حلب وطرابلس؛ كما صرت على دراية بآليَّة عمل القاطرة البخاريَّة منه، وأنا أعيش في عصر القطارات ذات السُّرعات الفائقة.
لقد عيَّشتني تلك الحكايات الجزء الَّذي لم أعرفه من رحلة ذلك العجوز، والَّتي امتدَّت سكَّتها من يوم دخوله محطَّة الخطوط الحديدية للعمل فيها حتَّى وصوله محطَّة التَّقاعد الأخيرة، أي من عام 1942 ولغاية عام 1984.
كلَّما تقدَّم به العمر كلَّما دأب على تكرار تلك الحكايات.
تكرار سردها لم يعد يلهب خيالي كما اعتاد أن يفعل بي في صغري، لكنَّها أبقت على جاذبيَّتها. تحوَّلت متابعتي من الحكاية إلى تعابير وجهه القديم، وحركات يديه المتجعِّدتين، وانفعالاته. ما إن يبدأ الحكاية بمقولته المعهودة “بزماناتو يا جدو …”، حتَّى تتحلَّق انتباهاتنا حوله كما كنَّا نتحلَّق حول المدفأة، لتبدأ حفلة السَّمر الشِّتائية. تتفجَّر الحكاية من فمه شبه الأدرد لتنساب إلى مسامعنا مبلَّلة بزخَّات من ريقه تعمّد كلَّ ما حوله.
في أواخر أيَّام زياراته لنا، وقبل مغادرتنا البلد، رحت أعبُّ كلَّ أثر من آثار التَّوغُّل في العمر الَّتي راحت تغزو ملامحه.
لم أك واثقاً أنَّني سأراه مجدَّداً إن أنا رجعت، لذلك حفظت كلَّ تجعيدة وكلَّ ثنية حفرها الزَّمن على وجهه الَّذي غادرته النَّضرة إلى غير رجعة؛ ورسمت في ذاكرتي كلَّ عرق جحظ على كفَّيه اللَّتين باتت تداهمهما الآن رجفة خفيفة؛ ولا أنسى العينين الغائرتين في محجرين كأنَّهما كهفان تُرِكَت على حيطانهما صور الصِّبا وشقوة الشَّباب كنقوش وحشيَّة، مع اللَّطخة الحمراء في إحداهما، والَّتي خلَّفتها جمرة صغيرة من فحم القاطرة الملتهب.
حتَّى الذَّاكرة منه شاخت هي الأخرى فراحت الأسماء والأماكن تتساقط من ثقوبها المهترئة حتَّى صَعُب عليه تذكُّرها.
لم أعد ألقي بالاَ إلى حكاياته الَّتي يقصَّها على الحضور، ولم أعد أتابع حركات جسده أو تلوُّن صوته حسب الموقف، لكن، بات فكري يسرح وراء ذلك الطِّفل ذي الأعوام الثَّلاثة الَّذي وقف يوماَ أمام قاطرة بخارية عملاقة كانت متوقِّفة في المحطَّة، حيث كان يعمل أبوه، للتزوُّد بالفحم والماء.
يومها، سحرت تلك الآلة العملاقة لبَّ ذلك الطِّفل وأنسته ما حوله وأين هو، ونقلته، وهو المشدوه بأبخرتها المتصاعدة وصوت الصَّافرات الصَّادر عنها، ثمَّ رنين الجرس الَّذي أعلن بدء تحرُّكها نحو وجهتها القادمة، إلى عالم الخيال الطُّفولي. جمد يومها في مكانه ولم يدر بنفسه إلا وأبوه يحمله بعد أن لوَّث ثيابه دون أن يشعر بما فعل.
أعود إليه وهو مستمرٌّ في متعته وإمتاعه، يحدِّثنا عن عبد الله، زميله الحشَّاش الَّذي وجد ميتا فوق كومة زبالة بعد أن هجره الجميع، حتَّى زوجته القبيحة، بسبب مشاكله ومن ثمَّ مرضه الَّذي لا دواء له؛ ومسيو باسكال، الفرنسي الأجرد من الشَّعر بسبب تعرُّضه للغازات الألمانية السَّامة حين كان جندياً في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى، و الَّذي عرض عليه مساعدته في الحصول على الجنسية الفرنسية، لكنَّ والده وقف حينها في وجه هذه المساعي كي لا يضيع ولده البكر في بلاد الزَّندقة والكفر؛ وأبو اسكندر، سائق القطار المسيحي الَّذي نطق الشَّهادتين بعد أن أرعبه أحد أصدقائه في المقبرة الَّتي تفصل بينه وبين الوصول إلى بيته، وجعله ’يعملها تحته‘. شخوص وأماكن وأحداث باتت جزءاً منِّي، من ذاكرتي، من وعيي، ومن المجهول القادم.
على الرَّغم من حفظي لقصصه كلها، إلَّا أَّنني فشلت في تكرارها بنفس الجمالية والجاذبية الَّتي صبغت طريقة إلقائه لها.
فشلت في تقمُّصه كلَّما هفت النَّفس إلى تلكم المساءات الشِّتائية. أيقنت حينها أنَّ الأمر له علاقة كبيرة بالرَّاوي لا الرواية فقط. ما لم تخرج الحكاية من فمه الأدرد متندِّية بزخَّات ريقه تبقى بلا طعم، وما لم ترافقها حركاته وسكنتاه فهي تظلُّ بلا نكهة، وما لم تقاطع ضحكته الرَّفيعة وسعاله استرساله في الوصف، تجفُّ معاني الكلمات، وتبقى مجرَّدة من أي مؤثرات أو تأثير، كزهرة تمَّ تيبيسها.
اتَّصلت به أطمئن عليه كعادتي كلَّ فترة مذ غادرت البلد. بعد تبادل التَّحايا المعتادة، والانتهاء من الطُّقوس المعهودة في مثل هذه المكالمات، طلبت منه أن يسجِّل حكاياته الَّتي كان يقصُّها علينا فيما مضى لأنَّني أريد أن أحوِّلها إلى مجموعة قصصية. تلكم كانت الحجَّة الوحيدة الَّتي خطرت لي حينها لدى سؤاله عن سبب الطَّلب.
وعدني أن يفعل، لكنِّي كنت أعلم أنَّه سينسى. النِّسيان بات السِّمة الأبرز لتمكِّن الشَّيخوخة منه.
أنهي الاتِّصال وأغلق الهاتف. ينساب خيالي وراء تلكم الحكايا وهاتيك اللَّيالي.
لم أستطع إخباره أنَّني أريد حكاياته مكتوبة بصوته كمؤونة لشتاءات طويلة قادمة ببردها، وسأقضيها، مثل سابقاتها الست، وأنا أنصت إلى ريح أحاول تعلُّم لغتها فتستغلق عليَّ، وأتابع هطول أمطار مجرِّباً السَّير تحتها علَّها تعانقني، كما كانت تفعل أمطار البلد، فلا يصيبني منها إلَّا البلل وحسب.
والأهمُّ بالنِّسبة لي أنَّه قد لا يكون موجوداَ فيها كي أجلس قربه وأسمعها منه، بصوته، وأنا أتابع تعابير وجهه العتيق وشيخوخة جوارحه.
مات أبي منذ سنة ولم أستطع البوح بكمِّية الافتقاد والحنين إليه وإلى تلك المساءات المبلَّلة البعيدة الَّتي تدهمني عندما يقرع الشِّتاء أبواب الذَّاكرة ويحتلُّ برده مكانه من جنبات النَّفس.