معتز محمد زين
كان يوم الجمعة 17 كانون الأول/ديسمبر عام 2010 مفصلًا مهمًا في التاريخ العربي المعاصر عندما أقدم الشاب التونسي محمد البوعزيزي على حرق نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجًا على مصادرة عربة الخضار التي يحاول من خلالها أن يكسب قوت يومه وردًا على الصفعة الظالمة التي وجهتها له شرطية الولاية.
لم تكن حادثة البوعزيزي سوى الشرارة التي فجرت بركان الغضب الذي تراكمت نيرانه عبر عقود طويلة في قلب المجتمعات العربية نتيجة الاستبداد والظلم والفشل السياسي الذريع لمعظم القيادات العربية التي بات الحفاظ على موقعها أهم بكثير من تلبية متطلبات شعوبها وتحقيق التقدم لدولها ومجتمعاتها.
أن تشعل حادثة بسيطة في تونس الثورة في معظم البلاد العربية فهذا يعني أن ما يربط تلك الشعوب أقوى بكثير مما يعتقده البعض. لقد عملت الدول الاستعمارية على تقسيم المنطقة العربية وتكريس كل عوامل التفرقة والتجزئة والمناطقية بين مجتمعاتها لكي يسهل السيطرة عليها، ثم أكملت المهمة حكومات وظيفية مستبدة وعملت بشكل مقصود على تعميق الهوة بين الشعوب وإثارة النعرات بينها بهدف قطع الطريق على أي عمل وحدوي ينهي طموحاتها في الحكم حتى الموت وتوريثه لأبنائها في مشهد درامي مضحك وحزين في آن واحد.
لقد أثبتت ثورات الربيع العربي المتنقلة من بلد إلى آخر أن الرابطة القومية والدينية والحضارية والنفسية بين الشعوب العربية قوية وعميقة وعصية على أعداء الأمة. وما أكثرهم.
لم يكن الحراك العربي مجرد ثورات سياسية واجتماعية ومطلبية، وإنما أيضًا – وهو الأهم – ثورات فكرية وثقافية وحضارية، أثبتت من خلالها الشعوب حيويتها ووعيها وحسها الحضاري وصعوبة تدجينها رغم وسائل القمع والقهر الكثيرة الممارسة ضدها، وأجبرت الحكام على توسيع هامش الحريات في البلدان التي لم تشتعل فيها ثورات جذرية خوفًا من غضب الشعوب القابل للانفجار في أي وقت.
أسقطت ثورات الربيع العربي الهالة المقدسة التي حاول الحكام وبعض الرموز السياسية والدينية أن يقدموا أنفسهم للشعوب محاطين بها، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك السقوط الكبير شعبيا لحزب الله اللبناني بعد استخدام سلاحه ضد طموحات الشعب السوري – الذي احتضنه ودعمه ودافع عنه – إرضاء لسيده الإيراني ذو المشروع الطائفي، وقد كان للدور الإيراني عبر أدواته الأثر المهم في إجهاض الثورة السورية باعتراف حسن نصر الله الذي كشف تشكيل غرفة عمليات في طهران لاحتواء الثورة السورية منذ الأسبوع الأول ، وكشف أيضًا الدور المحوري لقاسم سليماني في استدعاء الاحتلال الروسي وتقاسم الكعكة السورية بينهما.
كما أسقط الربيع العربي الأقنعة عن العديد من الأحزاب والشخصيات الثقافية والقومية والفنية والدينية التي كانت تتبنى خطابًا ثوريًا يرفض الاستبداد والقمع والفساد ويقف مع تطلعات الشعوب وحريتها. لتثبت الثورات ارتباط هذه الجهات عضويًا أو تنظيميًا أو مصلحيًا مع الأنظمة المستبدة، وجبنها عن دفع أي ثمن في سبيل القيم التي نادوا بها عبر منابرهم ومسرحياتهم ومقالاتهم السابقة.
يعتقد الكثيرون أن الربيع العربي قد انتهى إلى غير عودة وأن الثمن الكبير الذي دفعته الجماهير الثائرة قد شكل درسا للجماهير – وليس للحكام – جعلها تتمنى العودة فقط إلى الوضع قبل الربيع العربي، وهذا غير صحيح إذا نظرنا للمسألة بعدسة استراتيجية. فالوقائع الميدانية والأحداث الاجتماعية الضخمة هي في الحقيقة مجرد واجهة للتفاعلات الفكرية والتراكمات الثقافية والصراعات الاجتماعية النفسية التي تتشكل وتكبر وتنمو عميقًا في جسد المجتمع لتشكل مع الزمن ذاكرته ومرجعيته وشرارة انفجاره في اللحظة التاريخية المناسبة. ذلك أن العمق الحقيقي لأي تغيير سياسي واجتماعي على الأرض هو تغيير سابق في الفكر الجمعي والثقافة الاجتماعية والمزاج العام للمجتمع يجعله أكثر اندفاعًا لقبول التغيير وأكثر استعدادًا لدفع ثمنه، وهذا ما حصل وعلى أعمق المستويات في العالم العربي نتيجة الثورات التي عمت معظم بلدانه.
لقد نجحت الموجة الأولى لثورات الربيع العربي في ضرب البنية الثقافية والقواعد الفكرية للاستبداد والطغيان في عالمنا العربي وتغيير الفكر الجمعي والمزاج العام الذي تعايش طويلًا مع الاستبداد والظلم حتى بات يقبله كقدر لا مهرب منه. ومع أن تلك الثورات قد فشلت حتى اللحظة في تغيير ثقافة الطبقة الحاكمة أو اقتلاعها بفعل الثورات المضادة والتي جندت لنجاحها مقدرات مالية وعسكرية وإعلامية ضخمة، إلا أن الموجة التالية – والقادمة لا محالة تحت مسميات مختلفة ومبررات متعددة – والتي سيكون الفكر الجمعي الجديد والمزاج العام الذي أفرزته ثورات الربيع العربي المحرك الرئيسي لها ستنجح في اقتلاع الطبقة الحاكمة المستبدة ونسف ثقافة الطغيان من جذورها.
إن الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية منذ قرون تقوم على الإذعان لإرادة الطغاة والمستبدين والظلمة الذين وصلوا للحكم دون إرادة شعبية حفاظًا على وحدة الأمة وكيانها وخوفًا من الفتنة والفوضى المحتملة والتي يلوح بها المستبدون دومًا كبديل عن سيطرتهم. هذه الثقافة التي لها جذور تاريخية وفقهية كانت عاملًا حاسمًا بتدجين الشعوب ودفعها نحو الخنوع والقبول بكل أشكال القهر والظلم وتبرير كل جرائم وتجاوزات وطغيان الطبقة الحاكمة. وقد نجحت ثورات الربيع العربي بضرب قواعد هذه الثقافة وهز أركانها وإضعاف سطوتها على العقل الجمعي العربي والإسلامي وهذا هو الإنجاز الأبرز لهذه الثورات والذي سيؤسس لمراحل قادمة – لا تتجاوز بضعة عقود باعتقادي – أقرب إلى طموحات الشعوب وأبعد عن ثقافة الاستبداد والاستعباد.
إن زوال قدسية الحاكم والتوقف عن اعتباره صاحب القرار الوحيد والسلطة المطلقة والعقدة التي تجتمع عندها كل مؤسسات الدولة والتي يؤدي حلها إلى تدمير الدولة والمجتمع والدخول في نفق الفوضى والتوحش والمجهول، يعتبر الخطوة الصحيحة الأولى بالانتقال نحو نظام سياسي عادل يستلهم قوانينه العصرية من تجارب الشعوب الناجحة ومن روح الحضارة الإسلامية القائمة على الشورى والعدالة والمساواة والحرية المنضبطة.
إن الاجراء الأهم في الوقت الحالي واللازم لمنع قوى الاستبداد والمال السياسي من الاحتواء بعيد المدى لمفرزات الثورات العربية وإخماد الجمرة التي أشعلتها تلك الثورات في وعي الشعوب وذاكرتها يتجلى بالعمل الجاد على تأريخ هادف وتحليلي لوقائع وأحداث الربيع العربي، وأسباب نشوئها وعوامل نجاحها وفشلها بيد خبيرة وعقول مفكرة ومتماهية مع الثورة ومؤمنة بضرورتها، لكي تبقى الثورة على الاستبداد حاضرة في الذاكرة الاجتماعية للشعوب كدافع قوي لرفض الاستبداد وفي ذاكرة الحكام كرادع قوي للمضي قدمًا في طريق الحكم الفردي المستبد المتجاهل لطموحات الشعوب وتطلعاتها.
المصدر : اشراق