أحمد مظهر سعدو
لا يبدو أن العشرية الأخيرة من عمر ثورة الشعوب العربية، قد آتت أكلها كما كان يشتهي ويتمنى الثائر العربي في كل الساحات، حيث انتفض على جلاديه محاولًا الوصول إلى زمن الحرية والكرامة، زمن ينافي وينهي الحالة الاستبدادية الشمولية التي باتت ثقلًا كبيرًا على كاهل الانسان في مجمل الساحات العربية، ويبدو أن عثرات الربيع العربي خلال عشر سنوات خلت، لم تثن هذه الشعوب عن الغوص في وحل المقتلة الطغيانية التي دأبت السلطات العربية على الاستمرار فيها، إذ إن الكثير من التعثر كان لأسباب إقليمية ودولية، أكثر منها داخلية، ناهيك عن فكر الاستبداد الفاشيستي المتأصل داخل السلطات الحاكمة (القروسطية).
صحيفة (إشراق) سألت بعض السياسيين والكتاب عن رأيهم في ما آل إليه وضع الربيع العربي بعد عشر سنوات أفلت. حيث أكد الكاتب اللبناني الدكتور- عبد الناصر سكرية أنه ” لم تكن نتائج ” ثورات الربيع العربي ” كما كان يتمنى المنتفضون، وإذا أدركنا فعليًا ما يعانيه الواقع العربي وما يعيشه شعبنا العربي في الخمسين سنة الماضية من قهر ومعاناة؛ فإننا لا شك نتفهم أسباب بل ضرورات قيام ثورات وانتفاضات مشابهة، لم يكن بالإمكان موضوعيًا إلا أن تقوم ثورات وأن تكون عفوية جماهيرية. فالأحزاب كانت عاجزة عن تفجير الغضب الشعبي أو حتى قيادته حينما انفجر بوجه أنظمة الاستبداد والقهر والتبعية والفساد. هذه العفوية هي ذاتها كانت سببًا في تمكين أدوات السلطة وقوى النفوذ الأجنبي الكثيرة والمتعددة والمنتشرة بقوة وفعالية في بلادنا من الالتفاف على الحركة الشعبية ومنع بلورة قيادات وطنية منظمة تحميها وتوجهها وبالتالي تستثمرها لصالح الأهداف الشعبية. فكان أن نجح تحالف أدوات السلطة وقوى الأمر الواقع مع قوى النفوذ الأجنبي في حرف تلك الثورات عن مساراتها الوطنية المستقلة ثم تشكيل إطارات مزيفة مرتهنة بحجة التعبير عنها. وبسبب خطورة أي تغيير إيجابي في الواقع العربي لمصلحة شعبه العربي؛ فإن النظام العالمي الفاسد برمته قد تصدى لها وما يزال لمنعها من الاستمرار أو تحقيق أية أهداف. حماية لمصالحه ولضمان أمن كيانه الصهيوني وتفوقه.
ولا شك أن قوى ذلك النظام وأدواته المحلية والإقليمية تعمل متشاركة وبتنسيق واضح لمنع أية حركة شعبية من البروز والتقدم.” ثم قال ” إن غياب مشروع واضح متكامل يطرح برنامجًا عمليًا مرحليًا للتقدم والتغيير في كل بلد من بلاد الربيع العربي، بقيادة وطنية واضحة ومستقلة ترسم للجماهير المنتفضة مسارًا نضاليًا واضحًا وفاعلاً؛ كان أحد أهم أسباب الانتكاسات التي أصابت الربيع العربي فضلًا عن غياب أدوات التكامل النضالي بين الأقطار العربية؛ فاستغلته قوى الثورة المضادة والنفوذ الأجنبي لفرض أغراضها الحاقدة الخبيثة المدمرة على الجميع مما دفع البعض للتبرؤ من الربيع العربي واتهامه بالتبعية للقوى المعادية أصلًا.” ثم تابع يقول: “
طالما بقيت القوى الشعبية عاجزة عن بلورة قيادة وطنية مستقلة واضحة تعبر عنها وتقودها فلسوف تبقى مرتهنة للإرادات الأجنبية التي احتلت بلدانًا وأجزاءً عربية إضافية بعد سقوط العراق في حضن المشروع الفارسي – الأميركي. ما لم تبلور الحركات الشعبية ذاتها بقوة تمنحها فعالية ميدانية فقد يستمر التقهقر مدة طويلة، فالوضع الرسمي العربي لن يتخلى عن مواقعه المدعومة بالنفوذ الأجنبي والخطورة أن يتمكن المشروع الفارسي من المشرق العربي ويعبث بمكوناته التاريخية وتوازناته السكانية، بما يهدد هوية المنطقة فعليًا. والحقيقة أن المارد الشعبي الذي انطلق وقدم تضحيات عظيمة لن يتراجع وليس أمامه إلا مواصلة التجدد وتجديد الوسائل حتى تحقيق أهدافه.”
أما الباحث الاقتصادي السوري الدكتور أسامة قاضي فقال لإشراق” العقد الأول من ثورات الربيع العربي هي حركات تحرر حقيقي كشفت زيف أعياد الجلاء واتضح للشعب الذي سئم عيشة العبيد أنه تم تأجيل الثورة الحقيقية من أجل نيل استقلاله وسيادته لعقود. الشعب العربي يخوض ثورة على ثلاث جبهات معًا، ثورة ضد الطغاة والغزاة والغلاة فهي ثورة مفاهيم وثورة ضد الظلم وثورة ضد الاستعمار والظلم والتدخل الخارجي لذلك تكلفتها عالية وجني ثمارها قد يطول”. ثم قال ” لقد كشفت ثورات الربيع العربي أن العالم غير متحمس لسيادة الحرية والديمقراطية وفصل السلطات وامتلاك الشعب العربي لسيادته وحريته في اختيار حكومته.
إن المخاضات التي يمر بها الشعب العربي من أجل الشعور بالمواطنة في إطار حكم رشيد مرت بها شعوب الأرض قبلنا، وإن آلام ولادة دولة الحريات واحترام الانسان لابد بحول الله أنها ستثمر وستعيش الأجيال القادمة في العالم العربي في ظل حكومات وطنية منتخبة قريبة من شعوبها وستبقى التغريبة العربية تاريخ يفتخر به الأجيال القادمة، ويدرس الطلاب في مدارسهم الراقية سيرة الآباء المؤسسين لدولة الحرية والعدل التي تنعم بأعلى معدلات التنمية الاقتصادية التي تعتمد على تنشيط الطبقة الوسطى وتمكينها كونها محرك التنمية.”
كما أكد الطبيب الكاتب وعضو ملتقى العروبيين السوريين الدكتور تغلب الرحبي أنه ” عندما قامت الشعوب العربية بثورات الربيع العربي ضد الاستبداد والديكتاتورية والفساد اعتقدت هذه الشعوب أن الغرب الذي يرفع شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان سوف يدعم هذه الثورات ولكن هذه الشعوب لم تعلم أن حصولها على الديمقراطية والحرية يراه الغرب أو ما يسمى بالنظام العالمي خطر عليه وعلى ربيبته اسرائيل وأن الحرية حرام على هذه الشعوب وان النظام العالمي هو في الحقيقة مستفيد من أنظمة القمع والفساد التي تدفع للغرب ثمن بقائها في السلطة مئات المليارات من الدولارات المسروقة من دماء هذه الشعوب و يودعها المستبدون في بنوكها ولذلك قام النظام العالمي بإيقاع هذه الثورات عبر فخ الدعم العسكري للثورة الليبية مما شجع هذه الشعوب المنزوعة السلاح على مواجهة الآلة العسكري التي لم تتردد أبدًا بارتكاب أبشع المجازر في التاريخ ثم عمل النظام العالمي على محاربة هذه الثورات وعمل جهده لتفريغها من مضامينها ودعم الثورات المضادة وأدار ظهره لآمال الشعوب بالحرية والديمقراطية ووضع الشعوب تحت خيارات إما البقاء تحت حكم الأنظمة الديكتاتورية العميلة لهذا النظام العالمي أو سحق هذه الشعوب بالإبادة وتدمير مجتمعاتها.
ودعم الغرب الثورات المضادة إما بانقلابات عسكرية أو في حالتنا السورية بدعم بقاء النظام المتوحش بطرق غير مباشرة لإعطائه الفرصة لاستكمال حرب الإبادة والتغيير الديمغرافي وحرمان الشعب السوري من السلاح النوعي ومضادات الطائرات وإفساح المجال لإيران وروسيا لاقتراف جرائم ضد الإنسانية بمعية النظام المتوحش نتج عنها إبادة مليون ونصف سوري وتهجير أكثر من نصف السكان ودعم تشكيل فصائل ترفع شعارات (إسلاموية) معادية لثورات الشعوب وأهدافها في الحرية والديمقراطية مثل داعش والنصرة. ” ثم أضاف ” لقد وضع ما يسمى النظام العالمي الشعوب العربية أمام خيارات إما العودة إلى أنظمة الاستبداد والفساد أو تدمير هذه المجتمعات تدميرًا كاملاً كما جرى في سورية والعراق واليمن بالإضافة للغزو الفارسي الروسي لهذه الدول أو دعم الحرب الأهلية بين طرفين أحدهما ديكتاتوري عسكري والآخر (إسلاموي) كما في ليبيا. ما آلت إليه الثورات هو غزو أجنبي من الدول الكبرى وتغيير ديمغرافي ودمار شامل للمجتمعات العربية وديكتاتوريات عسكرية فاسدة.
والثورات نفسها تم احتواءها سياسيًا فتمزقت الثورات إلى منصات تمثل الدول التي تدعمها ولا تمثل شعوبها وتم احتواءها عسكريًا بعدم دعم الجيش الحر ودعم إنشاء الفصائل العسكرية ذات مشاريع لا وطنية تكتفي بإنشاء إمارات إسلامية على أي بقعة تكون ذريعة لسحق أي تحرك ثوري وطني تحت شعار الديمقراطية كفر وتحارب كما تمليه مصالح الجهة الداعمة وتنفذ أوامرها بالانسحاب وتسليم المناطق المحررة للنظام وداعميه والمساهمة بالتغيير الديمغرافي.” ثم قال ” لقد ثبت أن الفصائل العسكرية التي رفعت أعلامًا غير أعلام هذه الثورات كانت فصائل معادية لهذه الثورات وتقف في صفوف الثورات المضادة. ولكي تستمر هذه الثورات وتستفيد من تجاربها يجب عليها ما يلي:
– ان تعيد تشكيل صفوفها وأن تتوحد على أسس وطنية جامعة على المواطنة والمساواة وأن تشكل مؤسساتها التي تمثل ثوراتها وأن تتمتع المؤسسة الثورية بثقة الشعوب التي ثارت من أجلها وتكون مرجعية لها بتأسيس آليات الشفافية والديمقراطية وتداول القيادة وتأسيس آليات الرقابة والمحاسبة والقضاء الثوري.
– مواجهة الفصائل والمشاريع الانفصالية واعتبارها من قوى الثورة المضادة التي ساهمت بتخريب الثورة من الداخل.
– أن توحد هذه الثورات العربية جهودها فيما بينها لأن الهجمة المضادة متوحدة في أدواتها فلا بد للثورات العربية أن تتحد في مقاومتها.
– لقد تطورت استحقاقات هذ الثورات لتجعل تحرير البلاد من الغزو الأجنبي والاستبداد هو في مقدمة أولوياتها وبالتالي فإنه يتوجب عليها نشر ثقافة المقاومة لتحرير البلاد من الغزو الأجنبي ومن الاستبداد. والمقاومة لها أشكال متعددة سياسية وثقافية وإعلامية وفنية وغيرها أما الكفاح المسلح فهو أحد أشكال المقاومة ويمكن أن يمارس إذا توفرت شروطه وإمكاناته.
وأخيرًا أن تتعامل هذه الثورات مع المحيط الدولي على أسس الاستقلالية وأن تقيم تحالفاتها مع محيطها الاقليمي والدولي على أسس الندية وليس التبعية أو العمالة.
فيما أكد الباحث الاقتصادي الدكتور محمد حاج بكري لإشراق قائلًا: ” بعد عشر سنوات من عمر الربيع العربي وبعد سقوط بعض رؤوس أنظمه الاستبداد والفساد تصور الكثير أن فجرًا عربيًا قادم، وقد بدأ يسطع لغد أفضل تسوده الحرية والكرامة والحقوق.
تمكنت قوى الثورة المضادة وبمساعدة قوى مختلفة اجنبية وعربية وخاصة على الصعيد العسكري والامني من السيطرة على زمام الأمور وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء إما بإيجاد أنظمه بديلة مشابهة لمن سقط أو بالحفاظ على من تبقى وإطالة عمر حكمه الديكتاتوري ليصبح أكثر وحشية ودموية وطائفية بالإضافة إلى السعي الحثيث لتحويل الثورة إلى حرب أهلية وسرعان ما تحولت إلى حروب بالوكالة وفق حسابات إقليمية ودولية نتيجة تدخلها في تثبيت أنظمه الحكم ناهيك عن عوامل الفوضى وفقدان السيادة والتبعية والانهيار.” وأضاف” على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية شهدنا زيادة في القتل والدمار والتهجير والفقر وعلى مستوى الوطن العربي كان هناك منعكسات منها استنزاف للموارد وصفقات السلاح الهائلة وتمويل للثورات المضادة وتخلي حقيقي عن معاناة الشعوب ونسب بطالة مرتفعة.
على الصعيد الفكري الحوامل الفكرية والثقافية لثورات الربيع دخلت في مرحلة التخوين وتبادل الاتهامات وأصبحت في معظمها متقوقعة ضمن إطار فكري محدد ومؤدلج ولا تستطيع تقديم مراجعات فكرية حقيقية للاستفادة من الدروس السابقة. دخلنا وبشكل واسع إلى ساحة المستبد الخارجي وأصبحت معظم البلاد العربية ساحة نفوذ، وأبواب بلادنا مشرعة لكل صاحب مصلحة. ” ثم قال: ” هل كان الربيع العربي هو السبب وهل حق الشعوب في حياة كريمة وعدالة هو الاستثناء من هذا العالم. حقيقة الاستبداد متجذر في الوطن العربي وهو ليس طارئ بل متجذر في المؤسسات وأنظمة الأمن والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والثقافة ويستحيل القضاء عليه بضربة واحدة لننتقل إلى الحالة الديمقراطية”.
أما الطبيب اللبناني الدكتور فضيل حمود فقال لإشراق:” أفضل معيار تاريخي لمقاربة حصائل ومآلات ثورات الربيع العربي الشعبية في عقدها الأول هو الثورة الفرنسية؛ التي في الحقيقة والتفاصيل هي مسيرة ثلاث ثورات متلاحقة، ولم تحقق جل أهدافها، كما يتفق الباحثون، إلا مع بداية الجمهورية الثالثة عام 1870، أي بعد مضي حوالي 81 سنة على انطلاقة الأولى.
بعد إخفاقات وانتكاسات الموجة الثورية الأولى ضد أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية، التي دشنها الشاب محمد البوعزيزي من تونس في 17 كانون الأول/ ديسمبر عام 2010، والتي طالت عدة بلدان عربية أهمها مصر وسورية، سارع كثيرون إلى إعلان انتهاء الربيع وهزيمته أمام كبوة المد الشعبي وانحساره، وهول الحروب الأهلية والاحتلالات الخارجية التي استدعتها الأنظمة لاستمرارها في بعض البلدان، في طليعتها نظام الإجرام الأسدي الأقلوي. لكن هذه الردة لم تستمر أكثر من عدة سنوات، لتنفجر الموجة الثانية عام 2019 وتشمل السودان والجزائر والعراق المحتل منذ 2003 ولبنان. ثم مفاجأة أكبر عودة حركة الاحتجاجات الشعبية منذ الأسبوع الماضي إلى تونس. والملاحظ أن الموجة الثانية استفادت الكثير من انحرافات وأخطاء الأولى وتجاوزتها، من أهمها المحافظة على السلمية”. ثم أضاف ” من ناحية أخرى، انتفاضات الربيع العربي إصلاحية، ليست انقلاب عسكري يتحول لثورة (ثورة مصر عام 1952)، ولا ثورة عنفية يقودها حزب أيديولوجي شمولي (البلشفية عام 1917 في روسيا). عالمنا العربي منذ 2010 دخل مرحلة تحول تاريخي تغييري في سيرورة طويلة المدى تراكمية، ما أن تخبو ديناميتها لتنهض مجددًا مسلحة بخبرات أنجع وعيًا وتنظيمًا، كونها بدأت وما زالت شعبية عارية من قوى منظمة سياسية حاملة لمشروع ثوري متكامل؛ باعتقادي كان لا بد من المرور بمرحلة تجربة الإسلام السياسي الذي شكل عماد “الثورة المضادة”، والفاقد على الأقل لاي مشروع تغييري اقتصادي اجتماعي معاصر. وأثناء التحولات الكبرى التاريخية في حياة شعوب لم تنجز انصهارها في دول وطن – مواطنة، كما في عالمنا العربي، من الطبيعي أن تطفوا على السطح ودفعة واحدة كل الأمراض الاجتماعية البنيوية، في مقدمتها كل الانتماءات ما قبل الوطنية، إلى حد الصراع الهوياتي المسلح. وتعلمنا كتب التاريخ أن ما من شعب ثار لقضاياه المحقة والعادلة إلا وكان النصر له في النهاية، مهما طال الزمن وكبرت التضحيات والأثمان؛ وأن الاحتلالات القديمة والجديدة إلى زوال في البلدان العربية التي أصبحت معركة شعوبها مزدوجة، تحررية وتحريرية في نفس الوقت.”
المصدر: اشراق