محمد أمين الشامي
سيكون التّاريخ واحداً من ضحايا التَّطبيع، كما باتت القضيَّة الفلسطينيَّة. هذا ممّا لا شكَّ فيه. فالتَّمهيد الإعلامي والسِّياسي المركَّز والمشين الَّذي سبق عمليَّة توقيع السَّلام بين بعض الدول العربية والكيان الصُّهيوني لتجهيز الرَّأي العام لتقبُّل الأمر يشي بذلك ويؤكِّده. وليس سراً أنني تناولت هذا الأمر منذ فترة، لكنني أحجمت عن نشره مخافة سوء الفهم من البعض. إلا أن ما تابعته من مواقف البعض جعلني أعيد التفكير بأمر النشر.
ربما يكون التمهيد قد بدأ منذ زمن بعيد يصعب علينا تحديده بدقة، لكن، في عام 2019 عرضت قناة العربية لفيلم وثائقي تناول “الجرائم العربيَّة بحق اليهود في فلسطين في عشرينات القرن المنصرم”، أي قبل إعلان قيام الكيان الغاصب. وحين كان المذيع يتلو تعليقه، كانت الصُّور تعرض للتَّخريب الَّذي لحق بالممتلكات والمقدَّسات اليهوديَّة وبيوت العبادة التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية نتيجة الاعتداءات على أيدي “القوميين العرب”.
يقول التَّقرير، وأنا هنا أنقل ما قال المعلِّق: “خرجت التَّظاهرات المعادية لليهود في القدس في عام 1920، ثمَّ في 1921 في يافا والَّتي أدَّت إلى مقتل أكثر من خمسين يهودياً. وقد كان الدّافع الرَّئيس لهذه الأعمال هو الكراهية والتَّعصُّب. ثمَّ تطوَّر الأمر ليتحوَّل إلى أشكال من العنف المسلَّح ضدَّ اليهود مثلما حدث في مدينة صفد على سبيل المثال وأدّت إلى مقتل 133 شخصاً من اليهود. وعندما سرت شائعات عن احتمال دخول اليهود إلى الأقصى للوصول إلى حائط المبكى عام 1929، قام العرب بمهاجمة اليهود وقتلوا 67 منهم في الخليل من بينهم نساء وأطفال، وفي صفد حيث قتل 18 يهودياً”.
سنكتشف ببساطة أنَّ النَّكبة، بحسب التَّقرير، لم تكن فلسطينيَّة بل يهوديَّة، وأنَّ المجازر الَّتي تمَّت بحقِّهم قد وثَّقها تشرشل في كتاب له حول ما يجري في فلسطين وكيف أنَّها كانت نتيجة تبنّي العنف المسلَّح ضدَّهم من قبل من اعتنقوا “القوميَّة العربيَّة ومواقفها المعادية للسّاميَّة” (لم يذكر التَّقرير لقب فلسطيني أبداً) ممّا دعاهم، أي اليهود، في نهاية المطاف إلى تشكيل جماعات مسلَّحة هدفها الدِّفاع عن العزَّل من اليهود وردِّ العنف عنهم.
فهل سنتفاجأ في المستقبل، يا ترى، ممّا قد يطالعنا في كتب توثِّق تاريخ المنطقة بأقلام “التَّطبيع”، وهي ذات الأقلام الَّتي هرول أصحابها إلى إجابة نداء “السَّلم” بعد أن جنح له الطَّرف الآخر على حدِّ زعمهم؟ تعالوا لنتخيَّل ما قد تحتوي النُّسخة التَّطبيعيَّة للتّاريخ. بالمناسبة، قد نجد مَن خطَّها يقول عنها إنَّها الأصدق والأدق من بين كلِّ النُّسخ السّابقات لأنَّها تنسف كلَّ المسلَّمات الماضويَّة الَّتي سجَّلها تاريخ “سلطوي” وتدرج الأحداث بصورتها “الحداثيَّة” بكل شفافية. وعليه، يمكن أن نتمادى في خيالنا ذاك ونقرأ فيها ما يلي:
“في عام 624 ميلاديَّة، الموافق لسنة 4384 العبريَّة تقريباً، شهد التّاريخ الإسلامي أوَّل حالة تغيير ديمغرافي تمَّت بغطاء ديني لَدُني. ففي ذلك العام تمَّ تهجير السُّكّان الأصليين من يهود يثرب عن ديارهم في مناطق إقامة بني النَّضير بحجج نكث العهد في حادثة فرديَّة منعزلة بلا سابق تخطيط، ليلحق بهم بعد فترة يهود بني قينقاع لذات الحجَّة. واستناداً إلى نفس الغطاء الدِّيني العُلوي تمَّت أوَّل مجزرة في تاريخ الإسلام على أسس دينيَّة فكانت مذبحة بني قريظة إذ يعترف المؤرِّخون المسلمون بقتل ما بين ستُّمائة وسبعمائة رجلاً من بينهم زعيم القوم حيي بن أخطب وكبيرهم كعب بن أسد، وبسبي النِساء والأطفال. وقسِّمت أموالهم بين المسلمين (كان هذا حكم سعد بن معاذ فيهم). ثمَّ، بدأ تمدُّد الأعراب يتَّخذ أشكالاً أوسع ليهدِّد مناطق أبعد تحت مسمّى فتوحات.
وقد سبق ذلك التَّغيير الدّيمغرافي وقوع تصفيات ذات طابع سياسي بحسب المفهوم الدَّارج لشخصيات يهوديَّة مؤثِّرة. ويندرج في هذا السِّياق عمليَّة اغتيال الشّاعر كعب بن الأشرف، وهي ما تعتبر مثالاً صارخاً للسُّلوك الَّذي انتحاه المسيطرون الجدد على المدينة ليرسِّخوا دعائم دولتهم الطّارئة ويثبِّتوا وجودها في تلك البقعة من جزيرة العرب. وكلُّنا يعلم، ولا شك، أنَّ المثقَّف دائماً ما يكون الهدف الأوَّل لأيِّ حكومة ذات طابع ديني، أو ثيوقراطي. والشِّعر كان في ذلك الزّمان سلاحاً مؤثِّراً كحال الإعلام في يومنا هذا. لهذا يمكن أن ندرج عمليَّة الاغتيال تلك في ذلك الزَّمان تحت بند استهداف المتنوِّرين والمثقَّفين ذاته في وقتنا الحاضر، بغية إسكات أقلامهم ووأد أفكارهم. ويتتالى، من بعد هذا، مسلسل اغتيال المعارضين من أصحاب الأرض من اليهود بأوامر علويَّة فكان اغتيال ابن سنينة وأبو رافع بن أبي الحقيق. ثمَّ كان الاعتداء والحرب والتَّهجير كما ذكرنا”.
هل صدمكم هذا الكلام؟
أكرِّر أنَّها مجرَّد خيالات لا أكثر. لكن، إن انتقلنا من التّاريخ المرئي الموثَّق، والتّاريخ المكتوب المتخيَّل، إلى الواقع المشهود المعاش سنقرأ عمّا شهدنا أحداثه بالأمس الملاصق ليومنا هذا فصلاً جديداً في التّاريخ الَّذي ستظهر نسخته عمّا قريب، والَّذي سنقرأ فيه عن التَّطبيع بين إسرائيل وبعض الدُّول الخليجيَّة المستعربة وتلك المحسوبة عربية الَّذي أشرنا إليه في البداية. سنقرأ كلمات وزير خارجية دولة الإمارات “العربيَّة” المتَّحدَّة الَّتي تفوَّه بها عشيَّة توقيعه على اتِّفاقيَّة السَّلام بين بلده والكيان الصُّهيوني، وكان معه ضمن الوفد ممثِّل لمملكة البحرين، إذ تحدَّث عن “سلام الشُّجعان”، وعن “الإرهاق” الَّذي لحق بهم نتيجة سنوات الصِّراع الطَّويل في المنطقة! عندها سيدفعنا الفضول إلى التَّنقيب في كتب التّاريخ الَّتي كتبها السُّلطان وأعداء السُّلطان بحثاً عن المعارك الَّتي خاضتها القوات الإماراتية ضد القوات الإسرائيلية في ذلك “الصِّراع الطَّويل” والضَّحايا الَّتي سقطت منهم لنكتشف أن الإمارات وجدت ككيان عام 1970 وأنَّ قواتها لم تدخل حرباً إلّا ضد العراق في حرب الخليج الثّانية عام 1990 عبر طيرانها وفي اليمن فيما عرف بعاصفة الحزم منذ عام 2015. لكنَّ التّاريخ سيفاجئنا ببصماتها الواضحة في تعطيل الديمقراطية في مصر ومحاولة تعطيلها في تركيا وفي دعم المستبدين في سورية وليبيا وفي إرساء الفوضى والتَّقسيم في اليمن والصومال وفي دعم الثَّورات المناهضة لمد الرَّبيع العربي. ولا داعي لذكر “مملكة” البحرين وما قدَّمت في ذلك الصِّراع. لكن، أنبِّهكم، هذا تاريخ كتبته أقلام خشبيٌّ فكر أصحابها ومناهض “للسَّلام” المرجو.
عندما نعلم هذا سنتيقَّن من أنَّ تاريخ الغد لن يكتبه الأقوى أو المنتصر أو صاحب السُّلطان بل سيكتبه “العيال” بعد أن كبروا وأضحوا كتبة مأجورين في خارجيَّة الكيان الصُّهيوني مستخدمين لذلك أقلام التَّطبيع ذاتها.