د. أحمد حمّود
يتميز الوضع العالمي منذ أواسط القرن العشرين، بتوجّه القوى الكبرى والمتوسطة لبناء تكتلات وتجمعات اقتصادية وسياسية كبرى لحماية نفسها واقتصادها ومصالحها ومستقبلها. في حين أن منطقتنا العربية لم يكفِ تعرُّضها للتجزئة تطبيقاً لاتفاقية سايكس-بيكو، فإنها ما زالت تتعرض لهجمةٍ خطيرة تنذر بالمزيد من التفتيت والاستتباع! وقد فرضت سايكس-بيكو حدوداً مصطنعة وأنتجت كيانات صُنِعَ لكل منها تاريخٌ ضاربٌ في القِدَم، كلُّ هَمِّ من صنعوه أن يُبعِدوا هذه الكيانات عن تاريخها المشترك الطويل القريب، كعامل جامع لها يتجسد بالحضارة العربية الإسلامية! وتتواصل الهجمة تحت مُسمّياتٍ تقسيمية مختلفة، مرة باسم الدين ومرة تحت عنوان حماية الأقليات وأخرى باختراع خصوصية عِرقية عربية أُحادية تُقَزّمُ بل تعدُم دور كلّ المكوّنات في تركيب وبناء هوية العروبة. مما يتناقض مع حقيقة أن وحدة هذه الهوية كانت دائماً وما زالت تتميّز بمضمونها الفسيفسائي، كتعدد ألوان الطيف في وحدة الضوء.
من هنا، استنبطنا الخريطة المرفقة كتعبير رمزي بسيط ثنائي الأبعاد، يمكن لأي مقيم في أي نقطة جغرافية منها أن يتبناها لأنه يجد نفسه فيها وفيما تعنيه، حيث أن كل ناظر إليها يجد فيها لونه جنباً الى جنبٍ مع الألوان الأخرى بدون أي تمييز من أي نوع كان. فماذا تعني هذه الخريطة المليئة بالدوائر من كل الألوان، التي نقترحها عَلَماً أو رمزاً لِتَبنّي مفهومٍ محدّدٍ مُنفَتِحٍ “للعروبة”؟
هذه الخريطة هي تجسيد لما نطلق عليه اسم “نظرية الدوائر المنفصلة-المتصّلة” التي نطلق فكرتها هنا ومن خلالها نُعيدُ تأكيدَ أو نُجدّدُ مواقفاً يعتبرها البعضُ أنها “قديمة has been” أو “عفا عليها الزمن” أو “لغة خشبية”…
في علم الرياضيات، تعتبر الدوائر، عندما تتصف بوحدة الشعاع، رمزاً للعدل والمساواة في جميع الاتجاهات وللديمومة والاستمرارية، بشكل يستند الى حقيقة أن الدائرة ليس لها بداية ولا نهاية. والنظرة الأولى البسيطة لهذه الخريطة تراها حيّزاً مكانياً ثنائي الأبعاد، يتضمن مجموعة كبيرة من الدوائر الملونة. لكن الأمر يختلف عندما يدخل عنصر الزمن، وهو داخلٌ شئنا أم أبينا، بحيث تصبح الدائرة رمزاً لأشياء عديدة متنوعة تتحدد طبيعتها بالنظر والناظر وأداة النظر: فرد، مجموعة، منظمة، حزب، إثنية، شعب، دين، مذهب، مدينة، قرية، جهة أو منطقة، الخ، الخ. وعندئذٍ سنجد الانفصال في معرض الاتصال والعكس بالعكس أي الاتصال في معرض الانفصال، أو بكلمة أخرى سنجد مزدوجة الاتصال-الانفصال.
ونستدرك هنا لإبراز نقطتين منهجيتين: أولاً أن هذه النظرية تركّز وترتكز على الجانب الموضوعي. وثانياً انها تشير الى المعنى العام (الكُلِّي) للأشياء. وهكذا فالاتصال قد يكون سلمياً أو صراعياً، تعاونياً أو تناحرياً، سلبياً أو إيجابياً. وفي كل هذه الحالات يبقى الاتصال-الانفصال تفاعلياً طالما أن عناصره يجمعها حيّز زمني-مكاني واحد. إلا إذا دخل الاستئصال في المعادلة.
مثلاً، لنفترض أن الدوائر ترمز الى أفراد، مسلمين ومسيحيين في لبنان (أو عرب وأمازيغ في الجزائر)، وطبعاً باستثناء المتطرفين الاستئصاليين، أي الشواذ الذي يؤكد القاعدة، فكيف تكون علاقة الاتصال التفاعلي بين الأنا والآخر؟
بعيداً عن التحشيد الطائفي أو الايديولوجي أو الفئوي لمصلحة هذا الزعيم أو ذاك، هذه الجماعة أو تلك، لا تختلف مواصفات هذه العلاقة فيما لو كان الأنا والآخر مسلمان أو مسيحيان وليسا مسلم ومسيحي، رغم الحرب بل الحروب الأهلية ومنها بين أبناء الدين نفسه والمذهب نفسه. فالمشكلة تكمن في أن منظومة الاستبداد والفساد والتخلف والتجهيل تُنتِج الأنا الذي لا يقبل أن يكون الآخر مختلفاً عنه. بينما، في ظل نظام ديمقراطي، يعترف كُلّ منهما بحق الآخر الكامل بالوجود وبالاختلاف. وهذا بحدّ ذاته تعبيرٌ عن مزدوجة الاتصال-الانفصال.
فموضوعياً، كل فرد يشكل دائرة لها حدودها وهي منفصلة عن غيرها، لكنه في نفس الوقت، شاء أم أبى، متصّل، متواصل، مشترك، متفاعل، متقاطع… في علاقة أو معادلة بسيطة أو معقدّة مع غيره. فإما أن يسود الوجه الإيجابي السلمي فيصبح الفرد مواطناً يشكّل ويعمل ويشارك في بناء وقيامة الوطن. وإما أن يطغى الوجه السلبي التناحري فيصبح الفرد انعزاليًا جاهزاً حتى للتقاتل والاقتتال فيعمل ويشارك في تدمير الوطن.
وذاتياً، في هذه الخريطة، أي المكان أو الجغرافيا، تعددت وتنوعت الألوان أو الأطياف وتراكمت وتقاطعت وامتزجت وتفاعلت وتنافست واختلفت وتصارعت وتعاونت وتبادلت وتثاقفت و… وبعد قرون طويلة، أي الزمن أو التاريخ، أنتجت هذه الألوان انتماءً حضارياً ثقافياً قيَميّاً مُركبّاً يتجسد في وطنٍ كبير واحدٍ مركّبٍ من مجموعةِ أوطانٍ بحدّ ذاتها مُركّبة. لكنه في حاضره، يعاني من الاستبداد والفساد والتجزئة والتبعية والتخلف. وطنٌ واحدٌ لا معنى لوجوده ولا أمل بتحرره ونهوضه وتقدمه ولا مستقبل له إِلَّا على قاعدة أنه “تتعدد وتتنوع الألوان والعروبة واحدة.”
بكلمة أخرى، في بناء العروبة، تَفاعَل الذاتي مع الموضوعي وشاركت كل الشعوب والحضارات بكل خصوصياتها، التي سكنت هذه الخريطة، سلماً وحرباً، عبر آلاف عديدة من السنين قبل رسالات موسى وعيسى ومُحمّد (عليهم السلام) وعبرها وبعدها. فليس صدفةً أن المؤرّخ الهيليني اليوناني هيرودوت يذكر العرب، وليس صدفةً أن في المأثور إسماعيل تعلم العربية من قبيلة جُرهُم ومُحَمَّد (ص) قال إنما العربية اللسان.
انطلاقا من هذه الفكرة، نظرية “الدوائر المنفصلة-المتصّلة”، واستناداً الى مضمونها نجدّد بعض المواقف فنقول بأن هذه الخريطة هي:
١- تجسيدٌ للانتماء للعروبة الواحدة مهما تعددت وتنوعت ألوان مكوّناتها ومركّباتها وأطيافها، رغم مرور قرن على تقسيم أراضيها بحدودٍ فرضتها المصالح الخارجية ورسّخها الاستبداد الداخلي.
٢- ترجمةٌ لتوفر أكبر عدد من العوامل الأساسية المشتركة التي تشترك وتتميز بها الشعوب والأمم، اجتمع في حيّز جغرافي واحد متواصل تتكامل فيه عناصر العزة بكل أنواعها ومعانيها،
٣- تعبيرٌ عن مفهوم يميّز بين العروبة (Arabité) وبين القومية العربية (Arabisme)، بين انتماء ثقافي قيَميّ حضاري تاريخي جامع وبين انتماء سياسي حزبي ايديولوجي مفرِّق.
٤- فَهمٌ لتاريخ مشترك شارك في صنعه وتركيبه وإغنائه كلُّ من تواجد، فرداً أو جماعةً، وتفاعل مع غيره، سلماً أو حرباً، ضمن هذا الحيّز الجغرافي خلال عشرات القرون،
٥- رفضٌ لواقع التجزئة والتفتيت ولكل عمل أو عامل على تكسير وتخريب كل ما يجمع وكل ما هو مشترك، تحت أي شعار كان،
٦- دعوةٌ للمواجهة انطلاقاً من فهم التاريخ ورفضاً لواقع التجزئة وتطلعاً الى مستقبل مبني على قيم الحرية والتعددية والديمقراطية والعدالة والعيش الكريم وحقوق الانسان،
٧- رؤيةٌ لمستقبلٍ مستهدف لا مكان ولا احترام ولا استقلال فعلي ولا سيادة حقيقية فيه إِلَّا للكتل الكبرى والقوى العظمى.
في منشور لها على الفيسبوك، في ٢٩ حزيران ٢٠١٩، كتبت “غادة الشموري” النصّ التالي الذي يشكل بحدّ ذاته صيغة بارعة في التعبير عن هذه الخريطة:
” هويتي متصالحة مع نفسها. أنا عربية وعروبتي تحتفل كل يوم بكل مكوناتها. أنا عربية وعروبتي ليست عروبة عنصرية، إنها عروبة الثقافة واللسان التي تفخر بكل أبعادها. هويتي تتصالح فيها العروبة مع إسلامها، وإسلامي امتداد ليهوديتي ونصرانيتي. أنا عربية للسريان في لغتي كلمات والآشور والكلدان هم من وضع حجر الأساس في حضارتي. وَإِنِّي أحمل من لون السودان في بشرتي ولي مع الفراعنة في مجرى النيل كلّه تاريخ مشترك. وأن الأمازيغي ساهم في امتداد حضارتي وأن الكردي حمى أرضي وأعاد لي قدسي. وأن قيامتي حتمية كقيام طائر “الفينيق” وأن أجنحتها سينفض عنها الرماد كلّ من أراد لهذه الأمة أن تنهض وتتقدم مهما كانت مشاربه! وأن نهضتي ستكون قوس قزح ينير الأرض فهو يحمل كل ألوان الطيف! وحين ينطلق عرس الضوء لن يبقى مكان للانعزاليين والاستئصاليين وأحاديي الرؤية.”
هذه هي الخريطة وهذا هو مفهوم العروبة الذي يتمحور حول حقيقة أنها انتماءٌ موضوعيٌّ جامعٌ ثقافي اجتماعي تاريخي، وليست جنساً أو عرقاً أو إثنيةً أو عصبيةً أو ديناً أو مذهباً أو إيديولوجيةً أو هويةً حزبيةً أو سياسيةً أو قَبَلية أو جِهَوية. من هنا، مثلاً، لا يستقيم الخلط ولا القطيعة بين العروبة والإسلام من حيث أنه انتماء لدين الله العالمي الذي بدأ مع نوح وخُتِمَ بمُحمّد مروراً بإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الرسل عليهم السلام جميعاً.
وبعد، في أية مواجهة مصيرية، بما أن منطق الأشياء يحرّض على مواجهة الضدّ بضدّه والتخطيط بالتخطيط والتنظيم بالتنظيم والعلم بالعلم، فهل تستقيم محاربة التجزئة بالمزيد من التفتيت، أو معالجة التخلف بغير التربية والتعليم والتنمية، أو مقاومة الاستبداد باستبداد آخر، أو التحرر من التبعية المباشرة بتبعية مقنّعة. وهل من العقل مطالبة إنسانٍ مُكبَّلٍ جائعٍ بالنضال من أجل الوحدة؟ في حين أن الوحدة، بأي صيغة كانت، لا يمكن تحقيقها إِلَّا كخيار حُرّ ديمقراطي تتويجاً لمسار تحرري تحريري نهضوي تراكمي تتقاطع فيه الإرادات الوطنية الحرّة.