حسين عبد العزيز
أن تعمل الدبلوماسية الروسية على إطلاق منصّة جديدة بشأن سورية مع السعودية والإمارات، فهذا قد يبدو طبيعيا، حيث سمع وزير الخارجية الروسي، لافروف، في عاصمتي الدولتين، كلاما مريحا لجهة ضرورة الانفتاح السياسي على النظام السوري، ولجهة ضرورة عودة سورية إلى جامعة الدول العربية بعد انقطاع عشر سنوات. ولكن الغريب أن الروس أرادوا إطلاق منصة حول سورية مع قطر وتركيا، وهما دولتان تتبنيان خطابا سياسيا مناقضا للخطاب الروسي في سورية.
سمع لافروف في الدوحة كلاما قويا من وزير الخارجية القطري ونظيره التركي، فالأول أكد أن الأسباب التي أدّت إلى تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية ما تزال قائمة، بمعنى أن الانفتاح السياسي على النظام مشروط ليس بانطلاق العملية السياسية فحسب، بل بإنهاء الاستبداد والعنف المجتمعي، وهذه لا تكون إلا مع نهاية العملية السياسية، وليس في بدايتها. واعتبر الوزير التركي أن أي انفتاح على النظام السوري سيشجّعه على الاستمرار في العنف والاستبداد والتعنت السياسي.
لماذا اختارت موسكو الدوحة وأنقرة لإطلاق مثل هذه المنصة دون غيرهما؟ وماذا يأمل الكرملين من هذه المنصة؟ الجواب بالنسبة للسؤال الأول بسيط للغاية، لأن قطر وتركيا ما تزالان العقبة الرئيسية في المنطقة التي تقف في وجه النظام، وفي وجه الرؤية السياسية الروسية، وإنْ كانت أنقرة شريكا لموسكو في ملفات كثيرة داخل الساحة السورية. لا تريد روسيا بناء منصّة بشأن سورية مع السعودية والإمارات بسبب تطابق مواقفهم، فمثل هذه المنصّة لن يكون لها أي فائدة، لأن فكرة إنشاء المنصات الدولية تكون بين الأطراف التي يكون بينها تداخلات وتخارجات حيال أزمة ما.
وبالنسبة للسؤال الثاني المتعلق بالمأمول به روسياً من هذه المنصة، فهذا أمر معقد. تستغل روسيا حالة الميوعة في موقف الإدارة الأميركية الجديدة التي لا تضع الأزمة السورية ضمن أولوياتها، مقارنةً بالملف النووي الإيراني والدور الإيراني في العراق واليمن، وهذا يعني أن إدارة بايدن لم تبلور بعد، وربما ليست بصدد بلورة رؤية استراتيجية حيال سورية، تتجاوز اللاءات الأربع المتفق عليها في واشنطن (لا لانسحاب من شرق الفرات، لا لرفع العقوبات الاقتصادية، لا لإعادة الإعمار والانفتاح سياسيا على دمشق قبل التسوية السياسية، لا لعودة اللاجئين قبل نشوء بيئة آمنة).
في ضوء ذلك، وأمام حالة الستاتيكو في المشهد السوري، تعمل روسيا على إعادة تدوير الزوايا والانفتاح على عواصم جديدة في محيط الجغرافيا السوري من خارج البوابة السياسية المغلقة، وهذه المرّة عبر إشراك دولة عربية داعمة للمعارضة وللشعب السوري المتطلّع للحرية.
يعتبر الشق الإنساني والمشاركة الجزئية في إعادة الإعمار مدخلا إلى إشراك الدوحة في الساحة السورية الداخلية، في ضوء تزايد المطالب الدولية بضرورة تخفيف الأعباء الاقتصادية على النظام، بما ينعكس إيجابا على الشعب. وقد كان تصريح المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، قبل أشهر واضحا في ذلك، حين قال “أنا شخصيا والأمم المتحدة توجّهنا إلى الدول المعنية بطلب منح استثناءات إنسانية لاستغلالها في مكافحة جائحة كوفيد 19. وأود أن أشير إلى أنني تلقيت ردا إيجابيا من بعض البلدان في هذا الصدد”، فضلا عن وجود معطياتٍ في الولايات المتحدة لتقديم استثناءات في منظومة العقوبات، بما يخفّف من انعكاسات العقوبات على الشعب السوري.
المسألة الإنسانية مهمة للدوحة وأنقرة، ولكن من غير الممكن فصلها عن البعد السياسي، فأي مشاركة في تقديم المساعدات الإنسانية أو المشاركة في إعادة الإعمار، وإن بشكل جزئي، تعتبر خدمة للنظام السوري. لن تقبل قطر وتركيا بذلك، إلا إذا كان ثمة تنازلات روسية تقدّم للدولتين في الملف السوري، ولا يبدو واضحا أن موسكو قادرةٌ على فعل ذلك، فهي في حالة سكون وجمود منذ أعوام على الأصعدة السياسية والاقتصادية والإنسانية.
قد يكون ثمّة تنازل روسي في هذه المسألة، وهو تمديد قرار إيصال المساعدات عبر الحدود سنة بدلا من ستة أشهر، وتوسيع المعابر الحدودية لإدخال مساعدات إنسانية، بعدما فرضت موسكو موقفها على مجلس الأمن الدولي في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي (2019)، عبر إصدار القرار 2504 الذي قضى بتمديد آلية إيصال المساعدات الإنسانية العابرة للحدود إلى سورية، عبر معبرين فقط من تركيا (باب السلام، باب الهوى) ستة أشهر، وإغلاق معبري اليعربية ـ ربيعة على الحدود العراقية، ودرعا ـ الرمثا على الحدود الأردنية. وفي حال تحقق ذلك، فإنه يعتبر انتصارا للسياسة التركية ـ القطرية في ملفٍّ عجزت الولايات المتحدة عن إحداث خرقٍ فيه، وسيتطلب الأمر انتظار شهر يوليو/ تموز المقبل، موعد انتهاء مدة الستة أشهر الخاصة بإدخال المساعدات، لمعرفة ذلك. ومع ذلك، لا يكون التنازل الروسي في الشقّ الإنساني كافيا لأنقرة والدوحة للهرولة نحو موسكو ومشاركتها في تقديم المساعدات وإعادة الإعمار والخروج من السقف الأميركي الموضوع مسبقا، فليست الدوحة وأنقرة بحاجة إلى روسيا من أجل البحث عن دور في الساحة الإقليمية. بل يبدو العكس هو الصحيح، أن روسيا بحاجة في الملف السوري إلى طرف عربي يكون قادرا على فعل شيء، إذا ما حصل تفاهم بشأن بعض القضايا، ولن يكون هناك أفضل من قطر، بحكم علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا اللاعب الإقليمي القوي في الساحة السورية، وبحكم القدرة القطرية على لعب أدوار مهمة، بحكم شبكة علاقاتها الدولية، وقد خبرت روسيا الدور القطري في أكثر من ملف، وفي مقدمتها الأفغاني، الذي يعتبر من أكثر الملفات صعوبة في الساحة الدولية.
وفقا لذلك، لا يمكن اعتبار منصّة الدوحة مكتملة، وإنما هي منطلق لتفاهمات مستقبلية، لن يكون السياسي بعيدا عنها، مهما حاولت موسكو فعل ذلك، فمن دون حدوث تغيرٍ في الموقف السياسي القطري ـ التركي من جهة، أو تغير في الموقف الروسي من جهة ثانية، فلن تستطيع هذه المنصة تحقيق شيء جدّي.
المصدر: العربي الجديد