محمد حسين أبو الحسن
ذات يوم، قال عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر إن الصينيين في كل الاحتمالات سيكونون قادرين مثل اليابانيين، أو أكثر منهم، على استيعاب الرأسمالية بالشكل الذي تطورت به اقتصادياً وتكنولوجياً، في عصر الحضارة الحديثة… بالفعل تحولت الصين من دولة زراعية إقطاعية قلعة صناعية تكنولوجية، تحوز المرتبة الثانية بين اقتصادات العالم، وتشق طريقها لانتزاع المركز الأول، من غريمتها الولايات المتحدة. فكيف صارت الصين نموذجاً للترقي بعد التردي، تجترح المعجزات، وآخرها القضاء على الفقر المدقع، بينما ما زال ينهش كثيراً من شعوب الأرض؟ وما سر الطريق الثالث الذي جعل بكين تخط مساراً مغايراً للتاريخ على مقاسها وحدها؟!
يتفق كثير من الخبراء على إيجاز سر نهوض الصين وتقدمها في عاملين اثنين: إرادة الانتقام من التاريخ، وبناء الإنسان. تمثل إرادة الانتقام من “الإذلال القومي” عاملاً أساسياً في انهماك الشعب الصيني في مسيرة التحدي التنموي، فـ”المملكة السماوية” أمة أهينت في عقر دارها، تعرضت لاعتداءات واحتلال ومذابح، من جانب البريطانيين واليابانيين؛ قهر المحتلون الصينيين، منعوهم من دخول أحياء ومطاعم معينة في بكين نفسها، تحت لافتة: “ممنوع دخول الصينيين والكلاب”!.
ردّ الإهانة
الصين أمة كانت تظن نفسها سيدة العالم، أو “المملكة الوسطى”، إبان العصور الوسطى، لكنها هزمت وأهينت في العصور الحديثة، حتى نشوب الثورة الصينية بقيادة ماو عام 1949؛ فأخذت ترد على الهزائم والإهانات، من خلال بناء الإنسان الذي كرسه نظام التعليم والثقافة ومواجهة التحديات، بخاصة المجاعات والفقر المدقع الذي جعل بعضهم يقتات على “جثث الموتى” في وقت ما. عندما تقرأ رواية بيرل باك “الأرض الطيبة” (نوبل 1938) تدرك حجم المعاناة الرهيبة وشظف العيش الذي عاشه الصينيون، بيد أنهم ظلوا يبحثون عن سبل الرقي والتقدم، حتى نال بلدهم مكانته بين شعوب الأرض قاطبة؛ أصبح اسم الصين مطبوعاً في الأذهان؛ لما تقدمه من اختراعات وصناعات للعالم، بعدما أدرك قادتها أن لا سيادة لهم إلا بالعلم واليد العاملة المؤهلة.
عشية اندلاع الثورة الصينية كانت غالبية الشعب من الفلاحين الأميين؛ فوجد الحزب الشيوعي، آنذاك، أمامه خيارين: الرأسمالية الغربية أو الاشتراكية الشرقية، فانتهج نهجاً مستقلاً يتناسب مع الظروف الصينية، صحيح أنها تبنت الشيوعية والحزب الواحد، لكن بنكهة صينية، تتسق مع الموروث الثقافي للبلاد. وبمجيء دينغ شياو بنغ بدأت الصين عام 1979 انتهاج رأسمالية الدولة؛ من خلال الانفتاح الإنتاجي والتواصل مع العالم استثمارياً وتكنولوجياً، مع الاحتفاظ بأسلوبها الذي يعتمد إلى حد كبير على الاقتصاد المركزي المخطط، جمعت بين مميزات الرأسمالية والشيوعية، وتجنبت كثيراً من عيوبهما ومضارهما، ونجحت في سلوك “طريق ثالث” بينهما، بواقعية وحرفية، من دون السقوط في أسر “الايديولوجيا”؛ مع إيجاد منظومة قيمية أخلاقية واجتماعية جماعية، تعطي مساحة أكبر للإنسان لا الطبيعة، استلهاماً من التعاليم الصينية، بخاصة “الكونفوشيوسية” و”الطاوية”، فلا تصادم بين العقيدة والطبيعة في العقل الصيني الذي يغلب عليه الطابع العملي؛ ما جعل الصينيين قادرين على هضم الأفكار والايديولوجيات، بغض النظر عن مصدرها، وانتقاء و”تمثيل” أفضلها؛ بما يناسب ظروفهم، كل هذا مكّن بكين من تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة، على مدى العقود الثلاثة الماضية، وها هي تسابق الزمن للوصول إلى زعامة العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا؛ مثل نهر هادر تجري مياهه، رغم ما فيه من عوائق جمة، تصطاد الفرصة تلو الأخرى.
الدرس الأهم
ربما كان هذا الدرس هو ما غفلت عنه دول كثيرة؛ فكان نصيبها الفشل والتقهقر، المثال الأبرز عربياً، مصر التي بدأت مسيرة الانفتاح الاقتصادي في السبعينات من القرن الماضي، قبل الصين، لاجتثاث الاشتراكية واستنبات قيم جديدة، قوامها تشجيع المنافسة الحرة والاستثمار والإنتاج والملكية الفردية. ولعدم نضج الشروط الموضوعية والفساد، فإن الانفتاح في مصر كان “سداح مداح” – “فوضى استهلاكية لا إنتاجية” – زرع بذور الليبرالية الجديدة (المتوحشة) التي عمقت التبعية للغرب وصادرت القرار الوطني، وأسهمت في استفحال الفساد والأمراض الاجتماعية التي قامت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) احتجاجاً عليها ورفضاً لها، وما زال حلم المصريين “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”. ورغم ذلك تظل مصر أحسن حالاً، من الاتحاد السوفياتي السابق، لأن التجربة “الإصلاحية” – في عهد غورباتشوف – من دون تهيئة البيئة الحاضنة أو ضبط السرعات وفق المصلحة الوطنية؛ أفضت إلى انهيار الدولة السوفياتية؛ حتى أن دينغ وصف غورباتشوف بالأحمق، ووصفه قائد صيني آخر بـ “كيس الفضلات الآدمية”.
معجزة المعجزات
ومن دون أدنى مبالغة، يمكن القول إن الشعب الصيني أحدث نقلة نوعية في التاريخ الإنساني المعاصر، تعد مثلاً أعلى لشعوب العالم؛ ففي الوقت الذي تسجل فيه الاقتصاديات العالمية تراجعاً كارثياً في التنمية، بعد جائحة كورونا، أعلنت الصين، الشهر الماضي، انتصارها نهائياً، على جائحة لا تقل خطورة عن كورونا بل أسوأ، إنه فيروس “الفقر”؛ حيث أكد الرئيس الصيني شي جينبينغ، أن 100 مليون صيني تمكنوا من تجاوز خط الفقر، خلال السنوات الثماني الماضية، وشطب 832 محافظة و128 ألف قرية من قائمة المناطق الفقيرة. وقال إنه منذ بداية الانفتاح، في آواخر السبعينات، تم انتشال 800 مليون صيني من تحت خط الفقر، يشكلون 70 في المئة ممن انتشلهم العالم أجمع من الفقر، وأضاف أن الصين خلقت معجزة أخرى ستبقى في التاريخ.
في ظني أن تلك هي “معجزة المعجزات”، والضمانة الكبرى لتقدم الصين وارتقائها مقدمة الصفوف؛ فالفقر قاتل لأحلام الشعوب وطموحاتها؛ ولا مجال مع تفاقم الفقر للتقدم والازدهار… في المقابل، القضاء على الفقر هو خلاص للشعوب ونجاة للأمم من التخلف والانكسار. معجزة الصين “الجديدة” أنها طوت صفحة “الجوع الكافر” والفقر المدقع، ووسعت الطبقة الوسطى التي هي العمود الفقري للمجتمعات، إلى حدود غير مسبوقة في أي بلد؛ هكذا تتمتع بسوق داخلية نشيطة، تضمن لها استمرار النمو؛ حتى في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية المتوالية. كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عام 1978 يضع الصين في المرتبة قبل الأخيرة عالمياً؛ مع معدّل بطالة 19 في المئة، و250 مليون إنسان يعيشون في فقر مُدقْع، بخاصة في الريف، مع كثافة سكانية تصل إلى 3.6 أفراد بالمتر الواحد بالحضر، وكان حلم المواطن الذي لا يرتدي سوى “بدلة زرقاء” شراء دراجة، وظلت التحية المتبادلة بين الصينيين “تش فان لي”، أي “هل تناولت الطعام”!.
النبوءة تتحقق
كل هذا تغير، وحققت الصين نبوءة ماكس فيبر، ولم يكن ذلك مصادفة أو رمية نرد؛ إذ جاء إعلان بكين انتصارها على الفقر ثمرة لخيارات صعبة وإصرار وإرادة، راهنت على ما تحوزه من طاقات بشرية وإمكانات طبيعية؛ وفق مخطط واقعي مدروس ومتواصل تراكمياً من دون انقطاع أو اعوجاج؛ من أجل تغيير الواقع الاجتماعي للبلد الأكثر سكاناً في العالم، وهو أيضاً البلد الذي قال زعيمه ماو إنه يتعين زرع وتقديم حبة طماطم لكل فم قبل أي شيء آخر؛ لذلك بينما كان الآخرون يمشون أو يتعثرون كانت الصين تهرول على طريق بناء المجتمع والتطور وحل المشكلات بطريقة عملية وعقلية منفتحة، لا تكتفي بما تصل إليه؛ بل تؤسس للجديد، من دون جمود على الموجود. ووفقاً لأرقام البنك الدولي، شكّل الاقتصاد الصيني 13،3 في المئة من الاقتصاد العالمي عام 2014. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أفاد مركز الاقتصاد وأبحاث الأعمال (سي إي بي آر) – بريطاني – بأن الصين ستصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2028، متفوقة على الولايات المتحدة، قبل خمس سنوات مما كان متوقعاً في السابق.
ليس معنى ذلك أن الصين دولة بلا مشكلات؛ باعتراف الصينيين أنفسهم، هناك مشكلات جمة كالفساد، والهوة بين الدخول والطبقات وبين الأقاليم، التلوث البيئي، الموزاييك العرقي (56 قومية)، بالإضافة إلى الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة لتشغيل 15 مليوناً يدخلون سوق العمل سنوياً، في ظل أزمة عالمية خفضت معدل النمو من 12 في المئة إلى 6،5 في المئة… لكن القوم لا يستسلمون، شعارهم: نعم للتحديات، لا للمستحيل..!
المصدر: النهار العربي