أرغون أبادوراي*
(مثل كتاب والتر دي مينولو وكاثرين إي والش “عن الديكولونية”، يهتم كتاب أخيل مبيمبي “خارج الليل المظلم” أيضاً بالكيفية التي أقصى بها المشروع الإمبريالي الأوروبي طرق التفكير الأخرى الأكثر تحريرية وقلل من قيمتها. وينصب تركيز مبيمبي على إفريقيا، ولا تُقر استنتاجاته بفضائل عالمٍ ما قبل رأسمالي أو ما قبل استعماري؛ لكنه يسعى بدلاً من ذلك إلى تخيل مستقبل يعتمد على حاضرنا “الأقل-من-مثالي”. ويتطلب هذا المستقبل منا إعادة تشكيل هياكل العرق، والسلطة، والتكنولوجيا، ووضعها في علاقة أكثر تحررًا.
يركز مبيمبي على فترة زمنية أقصر من تلك التي يتناولها مينولو ووالش، حيث يغطي الفترة من أواخر القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، وهو، على العكس منهما، مهتم بالحكم الأوروبي في المستعمرات العديدة التي قُسمت إليها إفريقيا وبالنضالات المناهضة للاستعمار التي أفضت إلى ولادة الدول القومية في إفريقيا اليوم، بقدر ما يهتم بكل من فترات الاستعمار التي سبقتها وفترات إنهاء الاستعمار التي تلت الاستعمار.
وبالمثل، يقترح مبيمبي طريقًا مختلفًا للخروج من المأزق المعاصر لسياسات الدولة القومية والاقتصاد الرأسمالي المعولم. وبالنسبة له، فإن المستقبل الذي يكون متخلصاً من الاستعمار حقًا هو واحد ينظر إلى إفريقيا المعاصرة على أنها الموقع لإجراء إعادة تفكير جذرية في العلاقة بين السيد والعبد، متأسسة في التجربة الأفريقية في الشتات والتنقلية. وبالنسبة لمبيمبي، فإنها هذه العمليات من التمازج، والتدفق والتفاعل، هي التي ستساعد إفريقيا على تحديد مسار نحو إنهاء الاستعمار والذي لا يعتمد بشكل كبير على برنامج الأصلانية. ويصر مبيمبي على أن هذه التجارب تفتح الطريق إلى الأفروبوليتانية، وهي سياسة تستخدم تاريخ وحاضر إفريقيا للتفكير في الانعتاق العالمي.
لهذه الرؤية للانعتاق والتحرير مضامين عالمية أيضاً. وبهذه الطريقة، نواجه ما يمكن القول إنه واحد من أقرب الأشياء التي نمتلكها اليوم تجسيداً لفرانتز فانون. وتتميز أطروحات مبيمبي وتبرز بقوة ادعاءاتها، وجمعها بين التصريحات النقدية والرؤيوية، ونطاقها الانضباطي، وصوته المعاصر بطريقة مميزة. وكان مبيمبي معروفًا للقراء الناطقين بالإنجليزية على الأقل منذ نشر كتابه “عن ما بعد المستعمرة” On the Postcolony في العام 2001، والذي قدم للعالم كله تعريفاً بأطروحاته حول العرق، و”سلطة الحياة والموت” Necropolitics، والفتنة في إفريقيا منذ إنهاء الاستعمار (1). ومنذ نشر كتابه “عن ما بعد المستعمرة”، أنتج دفقًا ثابتًا من الكتب (باللغتين الفرنسية والإنجليزية) التي تشتبك مع الجماليات الأفريقية، والإنتاج الجغرافي لخرائط إفريقيا، والرأسمالية المصطبغة بالعنصرية الموجودة هناك، وتاريخ العبودية، والهجاء السياسي، والتحرر الوطني.
أحد العناصر الأساسية في طريقة تفكير مبيمبي، والذي يتخذ أهمية مركزية في أطروحة “خارج الليل المظلم”، يتعلق برؤيته للدين. والحدس المؤسِّس لفكر مبيمبي، كقارئ وثيق -وإنما ليس متعصباً- لماركس وفوكو، هو أن التهميش الحديث للدين وفقدان الذاكرة الأوروبية للاستعمار يتشابكان بمجموعة غير اعتيادية ومدهشة من الطرق. فلأن المستعمرين نظروا إلى الكوسمولوجيات الأفريقية على أنها عقبات بدائية تقف أمام الحداثة، تمكنوا من إخفاء الاستعمار خلف قناع عملية تمدين وعلمنة -واحدة جلبت المعرفة الحديثة إلى أصقاع نائية من العالم، حتى بينما كان الأوروبيون الذين جلبوها ينتزعون بجشع ثروة المستعمرات ويخضعون شعوبها ويهيمنون عليها. وبالنسبة لمبيمبي، فإن خيبة الأمل التي خلفوها في إفريقيا تربط القارة أيضًا ببقية الكوكب -بعالم يصبح معرّفاً الآن باطراد برأسمالية بلا حدود.
لهذا السبب، فإن إعادة السحر للسياسة هي أيضًا رفض للعنف الذي جاء مع عملية التخلص من الفتنة الاستعمارية، ونتيجة لذلك، تمتلئ أعمال مبيمبي بمفردات التوبة، والتضحية، والفداء والتجديد. ومن المؤكد أن بالوسع تعقب الأصل الديني لهذه المصطلحات إلى خلفيته الكاثوليكية في الكاميرون، لكنها تقوده أيضًا إلى نظرة تختلف عن نظرة مينولو، والتي تميل إلى تقديم أنظمة فكر السكان الأصليين، وحركاتهم وممارساتهم كأمثلة لنموذج أصلي ومرغوب فيه لنماذج تفكير “الديكولونية” وتقديم الأنظمة الدينية الأوروبية على أنها غريبة وقمعية. ويبدو مبيمبي نافد الصبر إزاء أي استزراع للأصلاني، لأن هذا قد يعني إنكاراً للتاريخ العلائقي للمستعمِر والمستعمَر في إفريقيا، والذي يعتبره أيضًا أساسًا لأشكال جديدة من الإبداع الأفريقي، والعيش المشترك، والابتكار الاجتماعي.
في “خارج الليل المظلم”، ينسج مبيمبي هاتين الثيمتين -الاستياء والاستعمار في الماضي، والإبداع والخصخصة الرأسمالية للحاضر- معًا من خلال مجموعة من المقالات المترابطة التي تستكشف تجارب الاستعمار في إفريقيا وتاريخها. ويجادل بأن الاستعمار والإمبريالية كانا شكلين من أشكال العنصرية، بما أن العنصرية هي حرب بين الأوروبيين وما كانوا يرونهم أنواعاً حية أخرى. لكن مبيمبي يقاوم الأطروحات التي تصور إفريقيا على أنها الضحية المعدمة للاستعمار الأوروبي، أو مجموعة من الدول الفاسدة أو الفاشلة التي دمَّرت فرصها في مستقبل صحي لما بعد الاستعمار. بدلاً من ذلك، يجادل مبيمبي بأن إفريقيا هي قارة غنية بالموارد، ونظريات المعرفة، وبأنماط جديدة من الارتباط السياسي، وبأننا نستطيع أن نعثر، من خلال انفتاحها على التداول العالمي للأفكار والناس والثقافات والسلع، على حداثة بديلة عن تلك التي نعيش فيها الآن. وبالنسبة لمبيمبي، فإن ما هو على المحك ليس فقط عيوب إنهاء الاستعمار كما حدث، وإنما المسارات المحتملة لمستقبل كوكبي مستدام تمثله إفريقيا أيضاً.
لدى مبيمبي اهتمام عميق بالرأسمالية، ولكن ليس في مراكزها الاقتصادية بقدر ما هو بهوامشها وأطرافها القصية، حيث تتلاقى أجساد العبيد، والإمكانيات الاستخراجية للمستعمرة، والإفراط في تشويه الجسد. من وجهة نظره، لم يكن تاريخ المزارع والعبودية عبر المحيط الأطلسي شذوذًا في نظامنا الرأسمالي المعولم الحالي، بل كان جزءًا لا يتجزأ من تكوينه، وخلق نظامًا عنصريًا للعمل والتبادل ابتلى جميع الإمبراطوريات الأوروبية منذ القرن السادس عشر وما بعده. من الهوامش والأطراف يأتي مركز جديد.
من وجهة نظر مبيمبي، تمكن رؤية إحجام أوروبا والغرب بشكل عام عن الاعتراف بأهوال هذا التاريخ أفضل ما يكون في فرنسا، حيث درس كطالب دراسات عليا وحيث لا تمتد المطالبات بالقيم العالمية للعقل والمساواة والحرية إلى مواطنيها من السود والملونين، حتى في الوقت الراهن. وحسب مبيمبي، فإن إفريقيا هي المكان الذي تمكن فيه معالجة هذا النفاق من خلال تسخير تلك الأفكار عن الطبيعة، والإنسانية والتحرر التي ولدت من المواجهات بين المستعمِر والمستعمَر وفي العوالم التي أوجدها إنهاء الاستعمار. إن إفريقيا مبيمبي هي المكان الذي يتم فيه اختبار أحدث التقنيات (الرقمية، والإعلامية، والمالية)، بالتوافق مع أشكالها الجديدة من اللغة والفن والفلسفة، وابتكار طرق تهيئ هذه الإفريقيا الناشئة لتكون نموذجًا لإنهاء استعمار الكوكب، من دون الحاجة إلى التخلي عن المواجهة الاستعمارية أو نسيانها.
لأطروحة مبيمبي حول مستقبل تحرري قد ينبثق خارجاً من إنهاء الاستعمار الجاذبية الكبيرة المتمثلة في عدم المطالبة بالتخلي الكامل عن تعقيدات الحداثة. لكنه لا يوفق بشكل كامل بين تفاؤله بشأن المستقبل السياسي والتكنولوجي لأفريقيا وبين ملاحظاته المدمرة عن حاضرها العنصري والقومي والدولاني. وينتج مبيمبي تناقضًا بين التاريخ الأفريقي والمستقبل الأفريقي، والذي لا يستطيع حله بالكامل. وفي المقابل، لا يتعين على مينولو ووالش، الرافضين لعنف ووحشية الحاضر والأقل اهتمامًا بالمستقبل، حل هذا التوتر لأنهما يسعيان إلى ترويج عودة إلى الماضي ما قبل الاستعماري. لكن كتابهما يثير أيضًا بعض الأسئلة المهمة حول فكرة أنهاء الاشتباك المعرفي مع المركز (الديكولونية). ولا تعرض السوق أكثر من وجود شبحي في الغالب في أطروحاتهما، ولا نسمع سوى القليل جدًا عن الاستكشافات البحرية، وتجارة المحيطات، والأرباح الناتجة عن العبيد من اقتصادات المزارع القائمة على البن وقصب السكر والكوكايين، والتي شكلت -ليس المنطقة التي يهتمان بها فحسب، وإنما العالمَ كما نعرفه. وبإعطائهما الأسبقية لنظرية المعرفة وليس الاقتصاد السياسي في تحديد البنية العميقة للحداثة الاستعمارية والغربية، يفوِّت مينولو ووالش أيضًا كيف أن الرأسمالية المعاصرة عملت، بقدر (أو ربما أكثر من) نظريات المعرفة الغربية الحديثة، على تدمير الكوكب، وتعميق اللامساواة الاجتماعية، وتوسيع قوة الأسواق المالية.
وإذن، أين يتركنا هذا؟ يوجهنا أحد الكتابين إلى ماضٍ مرغوب، بينما يأخذنا الآخر إلى المستقبل -ولكن ماذا عن اليوم؟ ليس لدى مبيمبي أي كتاب مقدس، سواء عن الكولنيالية، أو السلطة، أو الحداثة، ونجد في مرونته أيضًا بدايات المستقبل الذي يتخيله لنا. ولعل من أبرز سمات فكر مبيمبي تركيزه على العلائقية. وفي رواياته عن المستعمِر والمستعمَر، والدولة ورعاياها الأضعف، والطاغية والضحية، والسيد والعبد، والجلاد والسجين المحكوم بالفناء، فإنه يهتم أكثر ما يكون بشأن الحيز الذي تظهر فيه العلاقات في تناقضات المجتمع نفسها.
وهكذا، فإن الغرب الأوروبي، وفرنسا على وجه الخصوص، من وجهة نظر مبيمبي، قد انخرطت في جهد هائل لوضع رعاياها الكولنياليين خارج الحيز الذي ينتمي إليه التضامن، والإنسانية والعيش المشترك كما ينبغي. ومع ذلك، فإن هذه السياسة الموسومة بالتطرف، التي تجد المشاريع والرعايا الكولنياليين أنفسهم فيها، خلقت مواقع جديدة للاختراع والتخيل، منتجة مناطق للكريول créolité، حيث تنتج مشاريع التحضر والتمدين التي يديرها السيد الاستعماري، عن غير قصد، مساحات جديدة من الحوار والإبداع. ووفقًا لمبيمبي، فإن مهمتنا هي المساعدة على تحقيق هذه المناطق بالكامل.
بالنسبة لمبيمبي، فإن ظهور عالم هائل من الأفكار الغنية، وأشكال الفكر، والأنماط اللغوية، وتقنيات الذات في إفريقيا الفرنكوفونية، هو بالتالي ثمرة منطوية على التناقض للاستعمار ومناطق “الكريول” التي أنتجها. وسيكون فك الاشتباك المعرفي بالمركز الاستعماري (الديكولونية) بالنسبة لمبيمبي شأنا مستحيلاً وغير مرغوب فيه على حد سواء، حيث لا يمكننا أن نعود إلى فترة ما قبل الاستعمار -ولا يجب أن نرغب في العودة، كما يصرّ. إن ما نحتاجه في النظام العالمي هو شكل بديل للحداثة العالمية. ونحن لم نحقق هذا الهدف بعد، كما يعترف مبيمبي، لكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع المحاولة. وأنا أفضل، مثل مبيمبي، أن أتذكر المستعمرة وأعيد زيارتها، سواء كان ذلك لأننا لا نستطيع الهروب من عنادها وإصرارها، أو لأنها تنطوي على بذور هزيمتها الخاصة.
*Arjun Appadurai: (مواليد 1949) عالم أنثروبولوجيا هندي-أميركي معروف كمنظر رئيسي في دراسات العولمة. يناقش في عمله الأنثروبولوجي أهمية حداثة الدول القومية والعولمة. وهو أستاذ الأنثروبولوجيا ولغات وحضارات جنوب آسيا سابقًا بجامعة شيكاغو، وعميد العلوم الإنسانية بجامعة شيكاغو، ومدير مركز المدينة والعولمة في جامعة ييل، وأستاذ دراسات التعليم والتنمية البشرية في كلية ستينهاردت للثقافة بجامعة نيويورك. من أهم أعماله “العبادة والصراع تحت الحكم الاستعماري” (1981)؛ “الانفصال والاختلاف في الاقتصاد الثقافي العالمي” (1990)؛ و”الخوف من الأعداد الصغيرة” (2006). انتخب زميلاً للأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم في العام 1997.
*نشرت هذه المراجعة تحت عنوان: Beyond Domination: The future and past of decolonization.
(1) سلطة الحياة والموت، Necropolitics هي استخدام القوة الاجتماعية والسياسية لإملاء كيف يمكن أن يعيش بعض الناس وكيف يجب أن يموت البعض الآخر. وكان أخيل مبيمبي أول باحث يستكشف المصطلح بعمق في مقالته “ما بعد المستعمرة” في العام 2003 ، وفيما بعد في كتابه الذي صدر بالعنوان نفسه في العام 2019.
المصدر: الغد الأردنية/ (ذا نيشن)