طارق علي
بدأت القصة حين راجعت الفتاة القاصر (غادة أ. 16 عاماً) قسم شرطة المزة الغربي في دمشق قبل أيام وهي تعاني من آلام وآثار ضرب واضحة على جسدها فضلاً عن آثار حريق ناجم عن سكب الماء المغلي على يدها ورأسها. الفتاة المعنفة وقعت ضحية أمها التي كانت تردد خلال تعذيبها “سأقوم بتربيتك على طريقتي”، بحسب شهادة غادة للشرطة.
ليست هذه المرة الأولى التي تخضع فيها غادة للتعذيب القاسي، فهو أمر درج خلال السنين الماضية بين الأم وابنتها، إلا أنّ الأخيرة امتلكت الشجاعة لتتجه إلى قسم الشرطة وتقدم شكوى ضد أمها التي ضاقت ذرعاً بها. غادة تقول “إنّ تعذيبها لم يكن بأي حال ناجماً عن ارتكابها أخطاء بقدر ما هو تعذيب لأجل التعذيب فقط”.
بيان الداخلية السورية أفاد بأنّها تعاملت مع الحادثة بجدية واهتمام وأرسلت على الفور دورية لاعتقال الأم (رباح ت.)، ليصار إلى التحقيق معها في الواقعة معترفةً بإقدامها على تعنيف ابنتها القاصر نتيجة خلافات عائلية، وأضاف البيان أنّ التحقيقات ما زالت جاريةً وسيتم تقديم الوالدة إلى القضاء المختص بعد انتهاء سير التحقيقات.
قد تبدو قصة غادة عاديةً إذا ما قورنت بمئات وربما آلاف القصص التي تحدث كل يوم وتظل حبيسة جدران المنزل، وتظل هذه القصص حبيسة لاعتبارات كثيرة، ليس أبرزها غياب ثقافة الشكوى من جهة، والعامل العمري الصغير للمعنفين من جهة أخرى، كما هو الحال تماماً في قصة الطفل (موسى ح. 5 سنوات).
موسى الصغير الذي يتعرض للضرب اليومي المبرح حالفه الحظ بوجود جده لينجده من يدي أمه، فادّعى الجد شخصياً في قسم المزة الشرقي في دمشق ضد ابنته (هند) بجرم تعنيف ولدها الصغير وتهديده بالسكين وحرقه بالنار لعام كامل. الشرطة تعاملت مع الشكوى بإرسالها دورية ألقت القبض على الوالدة ولاحظت وجود آثار ضرب وكدمات وحروق على جسد الطفل الصغير قبل عرضه على الطبابة الشرعية التي بتت بالأمر عبر تقرير قالت فيه: “هناك كدمات متعددة واسعة منتشرة على الصدر والظهر والبطن والطرفين العلويين مع كدمات حول العينين وتورم بالشفة العلوية وجرح باطني”، أما الأم، فقد بررت فعلتها بإعاقة ابنها لحركتها في الخروج والعودة إلى المنزل، لا سيما أنّ والده متوفٍ حديثاً.
حالف الحظ موسى ووجد جده خلفه لينقذه من والدته بمعادلة غريبة يطغى فيها الحس الإنساني على الاعتبارات العائلية، خصوصاً أنّ المعنف طفل صغير، وكذلك غادة امتلكت الشجاعة لتدخل إلى قسم شرطة بالتأكيد أنّها لم تدخله مسبقاً، بيد أنّ المشكلة الأكبر في المجتمع السوري هي تلك الحالات التي لا نعرف عنها شيئاً. ومن الإنصاف في مكان القول إنّ مهمة إفشاء ما يحصل في البيوت المغلقة هو مهمة المعنفين أولاً، قبل أن يكون مهمة الجهات الوصائية التي تتحرك ضمن القانون على ثلاثة اتجاهات، الأول شكوى مباشرة وشخصية، الثاني شكوى من الجيران، والثالث حوادث تجد طريقها للنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكل ذلك مجتمعاً لا يكفي، فأعداد ضحايا العنف الاجتماعي في ارتفاع، والمتهم في ذلك غياب الثقافة وتردي المفاهيم الاجتماعية الناظمة للعلاقة بين الأفراد ضمن العائلة نفسها، فضلاً عن تنامي الحس الإجرامي المحاكي لشريعة الغاب في تجسيد واضح للقيم المتهاوية في ظل انهيار مجتمعي أخلاقي خلفته الحرب في المجتمع.
الدراسة الكمية
نشرت الهيئة السورية لشؤون الأسرة حول العنف الأسري (منظمة غير حكومية)، دراسة لها تتحدث عن التعنيف القائم على النوع، وما يعانيه المجتمع السوري في ظل تنامي هذه الظاهرة، وتصف الهيئة بحثها أنه يحظى بأهمية استثنائية “انطلاقاً من كونه الأول من نوعه على صعيد الاستقصاء الوطني المحكم نوعياً وكمياً لظاهرة العنف ضد المرأة”.
وتؤكد الهيئة أنّ دراستها هي واحدة من الدراسات الوصفية التحليلية التي تقوم على استنطاق الواقع عبر الاستبيان، كأداة لجمع البيانات، ويتشكل المجتمع الأصلي للبحث من النساء في مختلف المحافظات السورية، وبلغ حجم العينة (5000) مفردة أو أنثى بعمر 18 سنة فأكثر.
يقول البحث إنّ أكثر أساليب العنف الجسدي انتشاراً هي: “الصفع أو الضرب أو اللكم، وهو ما تتعرض له نسبة كبيرة من النساء المشمولات بالدراسة، حيث قاربت النصف (45.1 في المئة). التهديد بالضرب أو توجيه اللكمات، وهو ما يتعرض له ثلاث من بين كل عشر فتيات، علماً أن أكثر من ثلثهن يتعرضن لهذا الأسلوب من العنف الجسدي في شكل متكرر. والدفع أو الإمساك بقوة، وهو ما يتعرض له 29.6 في المئة من مجموع النساء المشمولات بالدراسة. وأيضاً الهز العنيف أو الدفع بالقوة أو الرمي أرضاً والضرب المبرح والركل بالرجل، وهو ما تتعرض له حوالى خُمس النساء المشمولات بالدراسة (21.5 في المئة) و(19.9 في المئة) و (19.1 في المئة) على التوالي. كذلك يوجد على الأقل امرأة واحدة من كل عشر نساء تتعرض للعنف الجسدي بشكل متواتر يزيد على الـ10 مرات.
ويؤكد البحث أنّ أكثر من ثلث المعنفات تعرضن لاعتداء جسدي للمرة الأولى، وهن في عمر يتراوح ما بين 10-15 سنة، في حين أن أكثر من نصفهن واجهن عنفاً جسدياً آخر مرة في عمر 25 سنة. وأول مرة تعرضت فيها معظم المعنفات إلى اعتداء جسدي كان على يد الأب والأخ والزوج 9.5 في المئة، 8.0 في المئة، 18.6 في المئة، 49.4 في المئة توالياً، أي أن واحدة من بين كل ثلاث إلى خمس معنفات استقبلت هذه التجربة للمرة الأولى من قبل من تعتبره الملاذ الحامي أو المعين أو الشريك أو الحبيب.
وخلص البحث إلى أنّه بالنسبة إلى آخر تجربة عايشتها المرأة مع العنف الجسدي، كانت معظم الأحيان مع الزوج، فحوالى 68 في المئة من حالات العنف التي وقعت على النساء آخر مرة كانت من قبل أزواجهن. وبهذا، يكون الأب والأخ في الأسرة الوالدية والزوج في الأسرة هم المصادر الأساسية للعنف الأسري الواقع على الأنثى.
الإحصاءات الرسمية شبه غائبة
آخر احصائية رسمية صدرت عن قيادة شرطة حلب 2018، قالت إنّها سجلت نحو 280 حالة شكوى نتيجة اعتداء جسدي خلال عامي 2017-2018.
تتوزع الحالات بين اعتداء الزوج على الزوجة 185، اعتداء الشقيق على الشقيقة 23 حالة، 19 حالة اعتداء الأبناء على الأمهات، واعتداء الأبناء على الآباء بلغ 11 حالة، بينما كان اعتداء الأب على أولاده 10 حالات و9 حالات اعتداء الزوج على طليقته إضافة إلى اعتداء الزوجة على زوجها بأربع حالات وأيضاً 6 حالات اعتداء الأبناء على زوجات الآباء.
وبحسب المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي الدكتور”زاهر حجو في العام نفسه، قال إنه تمت معاينة 504 حالات عنف منها 31 ذكوراً و53 إناثاً تحت الثامنة عشرة و420 لنساء فوق الثامنة عشرة، لكن لم يتم تسجيل أي حالة وفاة بسبب العنف المنزلي واقتصر العنف على إصابات وكدمات.
ولا شك في أنّ هذا الرقم يتنامى في المجتمع السوري يوماً بعد آخر ويثبت كم صار متغولاً بين أفراده، وكيف صار الخطر النفسي أولاً، والجسدي ثانياً، يلف أطفالاً ونساءً داخل منزلهم الذي يفترض أنّه ملاذهم من العالم المتوحش في الخارج، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الطبقة غير المثقفة (التي لا تملك شهادات دراسية) هي الفئة الأكثر استخداماً للعنف بالمقارنة مع الفئة العالية الثقافة، وليس من الصعب ملاحظة كمّ العنف المنتشر، وبالكاد يمكن إيجاد شخص لم يتعرض للتعنيف في مرحلة من حياته.
درجت العادة لدى معظم المجتمع تعنيف فتياته لحجج واعتبارات واهية، ليس أهمها التأخر لساعة في العودة إلى المنزل بالمقارنة مع الوقت الممنوح من الأهل، مروراً بخطورة خوض الفتاة لعلاقة عاطفية، وصولاً إلى التعنيف لمجرد تفريغ الغضب والحس الذكوري، وأسباب أخرى كثيرة.
في القانون
حتى اليوم لا يوجد مفهوم مباشر على صعيد المصطلح في ما يتعلق بالعنف الجنسي أو الأسري، إلا أن قانون العقوبات السوري قد تحدث عن السلوك الإجرامي والتحرش والاعتداء والاغتصاب التي ترتكب بالقوة وما سواه.
الخبير القانوني وليد الناصر يقول الى “النهار العربي” إنّه في حال قامت الزوجة المعنفة بتنظيم ضبط شرطة أصولاً تتهم فيه الزوج بالإيذاء المتعمد وحصلت لاحقاً على تقرير طب شرعي يثبت الادعاء ومترافق مع عطالة طبية – شفائية لأكثر من ثلاثة أسابيع وعطالة عمل تزيد على شهر، تحال القضية إلى محكمة (صلح الجزاء)، “قد يتم الصلح مشفوعاً بتعهد خطي من الزوج بعدم تكرار الإيذاء، أو يتم صدور حكم مبرم ونهائي بحقه، وتكون العقوبة إما الغرامة أو الحبس، وتكون الشكوى المنظورة في القضاء ممهدةً لإقامة دعوى تفريق لعلّة العنف الجسدي”.
ويضيف الناصر: “في حال الصلح ومن ثم تكرر الاعتداء خلال ثلاث سنوات من صدور الحكم أو تسجيل الواقعة لدى القضاء، فتتحول الأوراق للقاضي الشرعي لاتخاذ تدابير التفريق بعلّة إلحاق الأذى بالمتضرر، وفي حال نتجت عاهات دائمة سواء وقع الفعل على الزوجة أو الأولاد، فيصدر حكم تجريم بحق الزوج من قبل محكمة الجنايات، وتتمكن الزوجة هنا من إقامة دعوى التفريق من دون أن تضطر لانتظار صدور الحكم القطعي بالقضية، ليتولى القاضي الشرعي إصدار حكم التفريق، خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من الشروع في بدء المحاكمة الفعلية مع الأخذ في الاعتبار مراعاة ضرورة اكتمال الخصومة كما نص المشرع السوري”.
عدالة النوع الاجتماعي من منظور أممي
نفذ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة وصندوق الأمم المتحدة للسكان والإسكوا – إجراء دراسة موسعة قائمة على البحث في عدالة النوع الاجتماعي في ظل الأزمة السورية المستمرة.
وخلصت الدراسة إلى أنّ العنف الأسري، بما في ذلك العنف ضد النساء والفتيات، والمضايقات اللفظية وزواج الأطفال والخوف من العنف الجنسي، ويشمل التحرش الجنسي، ما زال قائماً بقوة في حياة النساء والفتيات في بعض المناطق السورية داخل المنزل وخارجه، “ما أدى إلى وجود عدد قليل جداً من الأماكن التي تشعر النساء والفتيات فيها بالأمان. ويشكل الخوف من العنف الجنسي، المرتبط بالاختطاف في كثير من الأحيان، مبعث قلق تعرب عنه النساء والفتيات بالمناطق المتأثرة بالنزاع، ما يساهم في حدوث ضغوط نفسية اجتماعية وزيادة تقييد تنقلاتهن”.
وتضيف الدراسة أنّ العار والوصم المُحيطين بالعنف الجنسي يساهم في امتناع الناجيات من العنف عن التكلم عندما يحدث العنف. “كما تخشى النساء والفتيات من جرائم القتل بدعوى “الشرف” جراء العنف الجنسي. وترتب الأسر الزيجات للفتيات، معتقدة أنها ستحميهن وتخفف العبء المالي عن الأسرة. وتتزوج فتيات كثيرات في سن صغيرة”. وتؤكد الدراسة الأممية إن “الوضع الاجتماعي الاقتصادي، والافتقار إلى فرص كسب الرزق، وزيادة الفقر، هي عوامل تؤدي في النهاية إلى زيادة عدد النساء اللواتي يلجأن إلى آليات التكيف الضارة، مثل ممارسة الجنس لكسب العيش”.
المصدر: النهار العربي