ساطع نور الدين
لميشال كيلو سيرة لبنانية لم تروَ، تبدأ مع توريث الرئاسة السورية، قبل إحدى وعشرين سنة، ولا تنتهي بالغربة النهائية عن دمشق وبيروت، وعن ربيعهما الذي كان يحلم بأن يكون مشتركاً، فترجم ذلك الحلم الى نص بيان ثم الى مشروع، دار به بحماسة لا توصف، بلغت حد التهور، على الاحياء والمقاهي والمجالس الدمشقية والبيروتية على حد سواء، كما كان يفعل في بدايات عمله السياسي والثقافي.
لا يمكن لأي إستعادة للسنوات الخمس الاولى من عمر التوريث السوري، ومن الترقب اللبناني، ان تغفل دور ميشال كيلو، الذي كان يتردد على بيروت، باحثاً عن أدلة لبنانية على رغبة بشار الاسد بإصلاح نظام والده، فلم يجدها، فعاد أدراجه الى دمشق ليجد ان باب السجن قد فُتح له، ولسواه ممن حاولوا إستكشاف المستحيل.
كان ميشال في بيروت يسأل عما إذا كان اللبنانيون قد لمسوا أي تغيير في سلوك النظام الامني السوري في لبنان، فكان الجواب يأتيه على الفور، بأن ذلك النظام أصبح متوتراً أكثر من ذي قبل، وزاد من تغوله في الهيمنة على القرار اللبناني، وفي رفع قيمة الخوات التي يجبيها من لبنان، وكأن ضباطه ورموزه تفلتوا من قيود سابقة، او لعلهم شعروا بأن الوقت ينفد للحصول على آخر الغنائم من المغارة اللبنانية.
مع ذلك، لم يفقد ميشال الرجاء بأن ربيع دمشق آت لا محالة، وظل متمسكا بالبيان الاول، إعلان دمشق ، ثم إعلان دمشق _ بيروت، كوسيلة لإختبار جدية النظام الاسدي في وعود الاصلاح، لا سيما من خلال المطالبة المباشرة والمتكررة بالمزيد من الحريات، او بالاحرى بتخفيف قبضة النظام الامني على الشعب السوري، فسمع من المسؤولين السوريين تشكيلة واسعة من الردود بينها ان الاسد يحتاج الى المزيد من الوقت لكي يثبت أقدامه، او انه يواجه فيلة النظام الذين لن يسمحوا له بالاقدام على مثل هذه الخطوة..
عبارة “النظام الامني اللبناني السوري المشترك”، التي أطلقت في ربيع بيروت الاول العام 2005، كانت مستعارة من مصطلحات ميشال كيلو السورية المستحدثة، التي كانت تنشد فعلاً إصلاح النظام الاسدي بشكل يحمي سوريا من الخطر، الآتي من الشرق، من العراق الخاضع للإجتياح الاميركي، ومن الغرب، من لبنان الذي طالت معاناته مع التدخل العسكري والاستخباراتي السوري في شؤونه الداخلية. شهد ميشال الكثير من الجدل الذي أثير في لبنان حول الوجود العسكري السوري وما اذا كان “ضروريا ومؤقتا”، حسب الفتوى التي توصل اليها الراحل رفيق الحريري في اعقاب القرار 1559 الشهير لمجلس الامن الدولي، الذي كان جوهره وبنده الرئيسي ينص على المطالبة الصريحة بإنهاء ذلك الوجود.
لكن ميشال كان يومها متوجساً أكثر من شريكه اللبناني في صياغة اعلان دمشق_ بيروت، الشهيد سمير قصير، وكان أشد خوفاً من سلوك النظام الاسدي ومن حلفائه اللبنانيين، الذين رفضوا بشدة خروج سوريا من لبنان، واقترحوا يومها بديلاً هو اعادة الانتشار الى البقاع.. وكانوا مستعدين، حسب النكتة الشائعة في ذلك الوقت، الى رمي أنفسهم أمام الدبابات السورية لمنعها من الانسحاب.
كان إغتيال رفيق الحريري، إيذانا ببدء الانقلاب الامني على القرار 1559، وبدء الحملة المضادة على رموز ربيع دمشق، الذين فتحت امامهم أبواب السجون والمعتقلات السورية، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ النظام الاسدي، الذي كان في ما مضى معنياً فقط بتصفية حركة “الاخوان المسلمين”، الى أن جاء الوريث وشن حملته الخاصة على غير الاسلاميين.
كان الاحساس العام يومها، بأن كل شيء قد إنتهى في بيروت وفي دمشق معاً، وطويت مرة والى الأبد فكرة الاصلاح والتغيير، التي لاحت بشكل عابر في سماء سوريا في السنوات الخمس الاولى من ولاية الوريث، بانتظار فرصة تاريخية أخرى..توافرت بعد ست سنوات في مستهل الربيع العربي، الذي كانت معالمه السورية الاولى ترجمة لما كان ميشال وأترابه يطالبون به من حريات واصلاحات. لكن الشعب السوري سبق جميع التشكيلات والمحاور الداخلية، وبينها محور اعلان دمشق وتجمعه الديموقراطي، ملحاً على مطلب الاصلاح، الذي أرفق هذه المرة بالعبارة الخالدة “إجاك الدور يا دكتور”.. وهو ما رد عليه الدكتور وفريقه بالعودة الى وصايا والده وموروثاته وتجاربه: القليل من الحوار مع رموز المرحلة السابقة، والكثير من البطش بالرموز الواعدة وتنسيقياتها الوليدة.
وما أن بدأ شلال الدم ينهمر بغزارة، حتى شعر ميشال باليأس التام، من مستقبل سوريا ولبنان، من دون أن يتخلى عن دوره كمرشد للتنسيقيات المحلية، وراعٍ لتجربتها الشابة، وعن موقعه في العمل، ولو من داخل السجن، لإنتاج بدائل سلمية مدنية ديموقراطية للنظام.. فكان ورود إسمه في مختلف المجالس الوطنية والهيئات السياسية التي شكلت في السنوات الاولى من الثورة، من لزوميات أي تجربة ثورية جدية..مع العلم بأنه كان من اوائل الذين شعروا بان الاميركيين يكذبون، والفرنسيين يخدعون، والعرب يتناحرون على مصير النظام الاسدي، وكان من أوائل الذين أدركوا أن الروس هم أخطر ما طرأ على المستقبل السوري، ومن أوائل الذين سجلوا أن الايرانيين هم أسوأ ما يمكن أن يحصل لسوريا. وكان هذا التقدير كافياً لاستنتاج ميشال ان النظام الاسدي عاد ثلاثين سنة الى الوراء، متكئاً على حليفيه الأولين.
ما بين السجن والمنفى، ظل ميشال على صلته ببيروت، متمسكاً بإصرار عجيب على فكرة أن الثورة لا تكون إلا على النظامين، اللذين صمدا معا ولن يسقطا الا معا، حتى بعدما ورث حزب الله صلاحيات وأدوار النظام الامني اللبناني والسوري المشترك، وأحال لبنان الى مساحة معادية لكل معارض سوري، مهما كان مسالماً.. ثم الى بيئة خطرة لا يجرؤ أي معارض سوري حتى على زيارتها، ولو في السر.
عندها انقطع ميشال عن بيروت، لم يبق له فيها سوى بعض الذكريات غير المروية، وغير المدونة، التي حاولت “المدن” مطلع الشهر الماضي، اعادة سردها، من خلال دعوته الى كتابة نص اسبوعي، يبدأ بتلك التجربة اللبنانية السورية غير الرسمية الخاطفة التي لم تدم سوى بضع سنوات، ويدخل بل ويتدخل في نقاش الشأن اللبناني الذي لا يجوز ان يغيب الى هذا الحد عن إهتمام رموز المعارضة السورية، مهما تغيرت الاولويات وتباعدت اللقاءات.
طلب ميشال مهلة شهرين فقط لانجاز كتابه عن الثورة السورية، لكنه، للمرة الاولى، أخلف الوعد!
المصدر: المدن