سمير صالحة
لخص وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، تطورات المشهد في العلاقات التركية المصرية، من دون أن يتريث، ليعرف ما الذي سيقوله وزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو. هو يستفيد مما قاله الرئيس أردوغان عن حصيلة اجتماعات القاهرة بين وفدي البلدين “هناك روابط تاريخية تجمع الشعبين، لذلك نسعى إلى استعادة هذه الوحدة ومواصلتها مجدّدا كأشقاء أصدقاء، وليس كأشقاء أعداء. ستتواصل المحادثات وسيتم تطويرها وتوسيعها”. قال أكار “علاقاتنا مع القاهرة تأثرت نتيجة بعض الأسباب، لكن أحدا لن يكون بمقدوره إضعافها. أؤمن من كل قلبي بأن العلاقات التركية المصرية ستعود إلى ما كانت عليه، وعلى أعلى المستويات وفي أسرع وقت”.
توقف أردوغان عند “الأخوة الأعداء” وأكار يراهن على قدرات البلدين في إفشال أحلام المعولين على المواجهة التركية المصرية، والقيادات المصرية لا تتراجع عن تكرار أسطوانة “ليس نحن من بدأ، لذلك نريد أن نرى الأفعال وليس الأقوال في السياسة التركية الإقليمية الجديدة”.
الإعلام التركي نفسه الذي كان يعطي القيادة السياسية ما تريده من دعم في مهاجمة القاهرة ومطالبة العسكر بالتنحي قبل سبع سنوات هو نفسه اليوم الذي يدافع عن العلاقات التاريخية التركية المصرية والمصالح المشتركة، الواجب التنبه لها وحمايتها. القناعة في صفوف أنصار حزب العدالة أن شعارات ميدان رابعة العدوية تعرّضت لمرور الزمن، وأن قيادات المعارضة المصرية في تركيا تتفهم أسباب التحول في السياسات التركية، وأن القاهرة نفسها لن تتأخر أكثر من ذلك، في الاستجابة للرسائل الانفتاحية التركية. ولكن هناك حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها، وهي شبه إجماع الإعلام المصري والعربي على أن تركيا هي من تتحرّك نحو القاهرة، وأن الاستدارة المعلنة في سياساتها الإقليمية تحتاج ترجمة عملية، لأن الأسباب التي قادت إلى التوتر والتصعيد، وبينها التدخل التركي في شؤون دول عربية، والوجود العسكري في أراضي هذه الدول، ودعم تركيا الأصوات والجماعات المعارضة لأنظمة عربية عديدة ما زالت قائمة في معظمها. ولن تتخلى القاهرة بسهولة عن أهم أوراقها الرابحة مع أنقرة، وهي حاجة تركيا لمراجعة علاقاتها مع مصر أكثر مما يحتاجه الجانب المصري، ودعم عربي وإقليمي واسع تملكه أمام طاولة التفاوض مع تركيا، وأن أسباب التوتر التركي الأميركي والتركي الأوروبي تمنح مصر مزيدا من الوقت والفرص، لانتزاع مزيد من المكاسب.
السياسة التصالحية بعد قرار كبسة الزر “ريسيت” على كومبيوتر السياسة الخارجية التركية لا بد أن تكون شاملة، وفي إطار أكثر من دائرة جيو استراتيجية وجيو سياسية محيطة بتركيا، ليس لأن مصر تريد مواقف واضحة وملزمة في إزالة أسباب التصعيد ضدها من أنقرة، بل لأنها، كما تقول القاهرة، قادرة، بدعم عربي، على أن تساعد أنقرة على حل كثير من مشكلاتها في الساحتين، العربية والإسلامية. قد لا يكون السبب هنا الثقل الإقليمي المصري، بل الاصطفاف العربي الواسع وراء مصر ودعمها في أية خطوة تتخذها في مواجهتها الثنائية والإقليمية مع أنقرة، إذا ما تم تجاوز عقبات المرحلة الأولى من الحوار مع تركيا.
قرارات جامعة الدول العربية الصادرة أخيرا، المنتقدة السياسة التركية، الإقليمية والعربية، ومطالبتها بالانسحاب العسكري من سورية والعراق وليبيا، ودعوتها إلى وقف محاولات التأثير في شؤون العالم العربي الداخلية، نتاج مصري بالدرجة الأولى. لذلك تحتاج تركيا دعما مصريا واسعا لتعديل بيانات القمم العربية الجديدة بشأن سياساتها وسلوكها في المنطقة، وهذا ما تلوح به القاهرة أيضا ورقة مساومة، لا يمكن التفريط بها في مفاوضاتها مع أنقرة.
في التوتر التركي المصري، أنقرة هي التي اختارت التصعيد، نتيجة استهداف حليفها، ومنظومة العلاقات الجديدة التي كانت تراهن عليها مع مصر، بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين، وإبعاد الرئيس الراحل، محمد مرسي، عن الحكم. توتر سياسي ودبلوماسي وسحب سفراء يتحوّل إلى اصطفافاتٍ تستهدف عمق المصالح الإقليمية للبلدين. تصعيد تركي ضد القاهرة في العام 2014 يقلب مسار العلاقات رأسا على عقب، لكن الحالة ذاتها لا تعتمد مع اليونان وأميركا وفرنسا والسعودية والإمارات مثلا، على الرغم من كل التصعيد والتوتر في العلاقات، ومع ذلك نرى هذا التقارب والاصطفاف بين هذه الدول، في مواجهة السياسة التركية الإقليمية.
مهمة الدبلوماسية هي إصلاح ما أفسدته السياسة، وتصحيح المسار، وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها. وقد انطلق التحول الإيجابي المهم في التحرّك التركي الجديد نحو القاهرة مع مسؤولي أجهزة الاستخبارات الوطنية، ثم فتح الطريق أمام الدبلوماسية التركية التقليدية، لتدخل على الخط، وتحاول إعادة الأمور إلى مسارها القديم، بعدما اتسعت الفجوة بين أنقرة وعواصم عربية وإقليمية عديدة، وتوليها مهام لملمة كل ما بعثرته السياسة ومنصّات الإعلام وأصوات وأقلام من ركب الموجة، وساهم في تأجيج العلاقات وتوتيرها.
تتشابه خصوصيات السياسة الخارجية المصرية والتركية في أكثر من مكان: دبلوماسية عريقة واسعة متعدّدة الأطراف والجوانب. الجغرافيا السياسية بعيدة المدى باتجاه أكثر من دولة وقطعة ومنطقة، والقدرة على التفاوض، ووضع الجديد من الملفات أمام الطاولة لإقناع الطرف الآخر. ولكن الجميع يعرف أنه من دون تحسن واضح في العلاقات التركية مع السعودية والإمارات، لن تقبل القاهرة إنجاز ملف مصالحتها مع تركيا. وقد انحازت الرياض وأبو ظبي انحيازا تاما إلى الجانب المصري في الأزمة مع تركيا، وكانتا حلقة أساسية في محور الاصطفاف العربي والإقليمي ضد أنقرة.
يذكّر الداخل التركي القاهرة بأن التعاون والتنسيق التركي المصري الأمني والعسكري معروف منذ عقود، وأن كل طرف يعرف جيدا نقاط القوة والضعف في حسابات الطرف الآخر وفرصه. كان يتم جمع مقاتلات إف 16 المصرية وتركيبها في تركيا في إطار خطط التعاون العسكري المصري الغربي. ونقل الطاقة المصرية إلى أوروبا عبر الأراضي التركية واحتمال شراكة مصر في خطط مشاريع الأنابيب التركية الروسية بين الملفات الاستراتيجية التي تناقش اليوم. في المقابل، قد يكون الدور المصري في نقل البضائع التركية من جديد إلى العمق الأفريقي بين المطالب التركية الأساسية. المصالح المشتركة للبلدين ونقاط التقائها مع مشروع خط الحرير الصيني الجديد فرص أخرى موجودة على الطاولة. ومن الممكن الحديث عن وجود ملفات خلافية كثيرة، لكن النيات والتنازلات المتبادلة هي التي سترسم شكل العلاقات التركية المصرية في العقدين المقبلين. مصالحة سياسية بطابع اقتصادي إقليمي وحماية مصالح جيواستراتيجية مشتركة بين أبرز العوامل التي تحرّك طاولة التفاوض التركي المصري الجديدة.
هي، إذن، بداية مرحلة من العلاقات التركية المصرية، لن تكون، في أحسن الأحوال، انطلاقة لتحالف إستراتيجي إقليمي يقلب الحسابات والمعادلات رأسا على عقب. الممكن في الفترة القصيرة المقبلة صفحة جديدة من العلاقات، يشملها تقديم تنازلاتٍ متبادلةٍ في ملفات يحرّكها كل طرف ضد الآخر، بانتظار انجلاء الحراك الإقليمي القائم في أكثر من ملف، ومع أكثر من لاعب مؤثر أيضا.
متى تجتمع الوفود مجدّدا، وهل ستشارك مصر في قمة الطاقة في أنطاليا الشهر المقبل (يونيو/ حزيران) في مؤشّر آخر على التحول في مسار العلاقات، أم هي ستتريث بانتظار انجلاء نتائج الحوار الدبلوماسي بين البلدين؟ يعرف الجميع أن المصالحة مع مصر مهمة، لكن ارتدادات التصعيد ورواسبه ستتحمّل أنقرة الجزء الأكبر منه كما تقول القاهرة. أكثر ما تحتاجه العلاقات التركية المصرية، في هذه الآونة، العصا السحرية، أو ربما آلة الزمن.
المصدر: العربي الجديد