شعب يستبعد كل النقد بوصفه معاداة للسامية، أو يفترض تفوقه الأخلاقي هو شعب لن يخسر المعركة في سوق الأفكار فحسب، بل يستحق ذلك.
بغض النظر عن عدد أميال أنفاق غزة التي دمّرتها إسرائيل، وبغض النظر عن عدد سنوات الردع التي كسبتها إسرائيل قبل أن تستعيد حماس قدرتها العسكرية، هناك شيء واحد جلي هو أن إسرائيل خسرت وأن حماس انتصرت.
هذا ما خلص إليه الحاخام الإسرائيلي الدكتور دونيل هارتمان، في مقال رأي له بصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” (Times of Israel)، حذر فيه من أن أصدقاء إسرائيل في جميع أنحاء العالم يعانون قلقا متزايدا بشأن شرعية قضيتها، ويجدون صعوبة في شرحها للآخرين وبخاصة لأطفالهم.
نظرة المجتمع الدولي
فعلى الصعيد الدولي، يقول الكاتب إن هجمات حماس الصاروخية واستهداف المدنيين الإسرائيليين بمنزلة ضربة مشروعة في وجه الظالم، في حين يُنظر إلى محاولة إسرائيل الحد منها على أنها مظهر آخر من مظاهر إساءة استخدامها السلطة.
وحتى عندما تدان حماس، فإن تلك الإدانة تكون دائمًا مصحوبة بـ”لكن” كأن يقال مثلا “هجمات حماس مؤسفة، لكن هذا لا يسوّغ رد إسرائيل المبالغ فيه وجرائم حربها”.
ولفت الكاتب الذي هو أيضا مدير معهد شالوم هارتمان اليهودي للبحوث والتعليم بالقدس إلى أن العديد من الإسرائيليين يؤكدون أنهم على استعداد لدفع هذا الثمن ما دام المواطنون الإسرائيليون في أمان.
فهم يرون، حسب قوله، أن الرأي العام العالمي والدعم يمثلان أصولًا إستراتيجية إلا أن إسرائيل تحتاج أولًا إلى الوفاء بمسؤوليتها الأخلاقية للدفاع عن سكانها.
وإذا أدينت هذه الأعمال أو أسيء فهمها من قبل الآخرين، فليكن، لأن الخسارة مهما عظمت، ينبغي النظر إليها على أنها ثانوية في طبيعتها قياسًا بأمن وسلامة الإسرائيليين، حسب قول الكاتب.
غير أن هارتمان، وهو حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، يقول إنه كان في الماضي يؤيد هذا الطرح، ولكنه يلاحظ هذه المرة أن شيئًا ما قد تغير، إذ تحولت إدانات طريقة تعامل إسرائيل مع الحرب من التركيز على غزة إلى نقد مبدئي لإسرائيل نفسها قد يمثل نقطة تحول أصبحت معها إسرائيل دولة فصل عنصري “تقريبًا”.
بل أصبح رفض إسرائيل الآن على نطاق واسع في الدوائر التقدمية مسألة عدالة اجتماعية، وضرورة أخلاقية، وفقا للكاتب.
تفسيرات
وأضاف أن بعض مؤيدي إسرائيل سوف يدينون هذا التطور باعتباره مظهرًا حتميًا من معاداة السامية المختبئة وراء ستار مناهضة الصهيونية.
كذلك فإن آخرين، وفقا لهارتمان، سوف يفسرونه على أنه رد فعل عنيف على تحالف إسرائيل مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي كان ينظر إليه معظم منتقدي إسرائيل الحاليين على أنه “رجس أخلاقي”.
وثمة من يرون أن الذي يحدث هو “قضاء وقدر، فهذا هو ما عليه العالم ونحن ببساطة ندفع ثمن قوى خارجة عن سيطرتنا”، حسب قولهم.
إدانات طريقة تعامل إسرائيل مع الحرب تحولت من التركيز على غزة إلى نقد مبدئي لإسرائيل نفسها قد يمثل نقطة تحول أصبحت معها إسرائيل دولة فصل عنصري “تقريبًا”.
ويعلق الكاتب على كل ذلك بقوله إنه بصفته صهيونيًا فهو لا يؤمن بالقدرية، بل يفضل أن يصدق أن الواقع ليس “حتميًا ضدنا”، و”لدينا الحق في الدفاع عن أنفسنا ويمكننا فعل ذلك ليس فقط في ساحة المعركة ولكن أيضًا في سوق الأفكار”، على حد تعبيره.
ويبرز هارتمان هنا أن القيام بذلك يتطلب ألا يفترض الإسرائيليون أن كونهم محقين تحصيل حاصل غير قابل للنقاش، في الوقت الذي ينبغي لهم تقديم حجج أخلاقية للدفاع عن أنفسهم، مع الاستعداد، في الوقت ذاته، للإقرار بالأخطاء التي يرتكبونها وتنفيذ السياسات الضرورية لتصحيحها.
وأوضح هذا الحاخام أن شعبًا يستبعد كل النقد بوصفه معاداة للسامية، أو يفترض تفوقه الأخلاقي -كما في القول الإسرائيلي “لا يمكن لأي أحد أن يعطينا درسًا في الأخلاق”- هو شعب لن يخسر المعركة في سوق الأفكار فحسب، بل يستحق ذلك لأن رفض النقد المبني على أساس أخلاقي يؤدي حتما إلى الهوان الأخلاقي، على حد تعبيره.
انتقادان أخلاقيان
وأهم انتقادين أخلاقيين يوجهان لإسرائيل في حربها الحالية على غزة هما، وفقا لهارتمان، أولاً، التباين الكبير في ميزان القوى بين إسرائيل وحماس، إذ تمتلك إسرائيل جيشًا عرمرمًا ذا قدرات هائلة يتمتع بحماية من صواريخ حماس من خلال قبته الحديدية، في حين لا تتوفر حماس إلا على قدرات عسكرية متواضعة جدا، وذلك يعني أن هذه المعركة غير عادلة إذ لا يوجد فيها تكافؤ في القوة.
أما النقد الثاني فيركز على البون الشاسع في خسائر الأرواح والبنى التحتية، إذ إن نسبة الخسائر البشرية لا تزيد حاليا على 10 إلى 1 لمصلحة إسرائيل، أما عند تقييم مدى الضرر اللاحق بالمباني والبنية التحتية فالفرق أضخم بكثير.
الشرعية تلاشت
ولئن كان رد إسرائيل الأولي على صواريخ حماس شرعيًّا، كما يقول النقاد، فإن هذه الشرعية انتهت منذ مدة طويلة، وكل يوم تستمر فيه إسرائيل في حملتها هو دليل إضافي على فراغها الأخلاقي، حسب الكاتب.
وأضاف “لا يمكننا أن نتوقع أن يتغاضى الآخرون أخلاقيا عن ردنا غير المتناسب إذا كانوا لا يرون أننا نهتم بمعاناة الفلسطينيين وأننا نتطلع حقًا إلى حل سلمي وعادل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
ولكنّ، يقول الكاتب، “هناك سببًا أكثر أهمية لهزيمتنا”، فنحن في صراعنا مع الفلسطينيين، لسنا فقط منتظمين في صراع عسكري، بل في صراع أفكار وروايات، فهل لنا الحق في الأرض وإذا كان الأمر كذلك فأي أرض؟ من الذي كان هنا أولًا، منذ متى، وهل كل ذلك مهم أصلا؟ ومن المسؤول عن الصراع المستمر؟ ومن العائق الرئيسي أمام السلام؟ ومن الذي بدأ هذه الحرب الأخيرة؟ بل وكل الحروب السابقة؟
ولتوضيح الموقف الإسرائيلي من هذه القضايا في سوق الأفكار المفتوح، يقول الكاتب إن على الإسرائيليين أولًا أن يدركوا أنهم لا يستطيعون التحكم في هذه السوق، وعليهم إذن أن يصغوا إلى الآخرين ويستمعوا لانتقادات الناس ومخاوفهم وأن يعلموا أن الآخرين يستحقون الرد عليهم والرد بالبينات الساطعة مع التحلي بالشجاعة الضرورية للاعتراف “عندما نكون مخطئين”، حسب تعبيره.
المصدر: الجزيرة. نت