د- عبد الناصر سكرية
تشهد الجولة الراهنة من المواجهة الشعبية الفلسطينية البطولية ضد العدوان الإستعماري الصهيوني على الأرض والشعب؛ تطورات نوعية جديدة أضافت زخمًا رائعًا لقضية فلسطين التحررية وبعدها الإنساني العالمي.
مما لا شك فيه أن المواجهات الشعبية المدنية والعسكرية حفلت بالكثير من الجوانب الإيجابية التي تشكل دعائم لإنتصار مقبل ينبغي أن تستكمل مقوماته حتى يكون إنتصارا فعليا على صعيد القضية الفلسطينية بكل جوانبها.
بناء على استراتيجية العمل التي يتبعها العدو منذ سنوات والمتمثلة بصهينة القدس وشق الشعب الفلسطيني في الداخل إلى شعبين والغاء صلاتهم بمن في الخارج بإلغاء حقهم في العودة الى فلسطين وفصل غزة عن الضفة ونسف الوحدة الحركية ، ثم ترسيخ ثقة المستعمر (المستوطن) بنظام أمنه المضمون والراسخ وتصوير العرب وقد تخلوا عن القضية الفلسطينية ويلهثون لمصالحة دولة الكيان والإستثمار فيها ثم اعتبارها نموذجا للديمقراطية والسلام والرقي الذي يشجع على التعاون السلمي لبناء المستقبل معا…
كاد الإسرائيلي المعتدي ينجح في تقزيم القضية إلى مستوى أعمال شغب بدائية او أعمال ” إرهابية ” تمارسها هذه الحركة أو تلك..
اعتمد الاسرائيلي المعتدي على نهج المفاوضات مع السلطة كخيار وحيد بالنسبة للفلسطينيين ..وكان يهدف بذلك إلى تركيعهم وتيئيسهم ودفعهم للتنازل التدريجي عن حقوقهم وما يطالبون به وإسقاط أي تفكير بأعمال المقاومة وأساليبها المتنوعة فتكون بذلك نهاية القضية وتخلي اصحابها عنها بعد إنهاكهم كقوى وطنية وانهاك الإنسان الفلسطيني ونسف أية ثقة بين أطرافه وفعالياته ونخبته..
ونظرا لعجز السلطة وفشلها والفساد الذي استشرى في صفوفها الأولى ؛ وعدم نجاح حماس في إدارة شؤون قطاع غزة بشكل وطني توحيدي جامع ، ولأسباب أخرى كثيرة ، كاد ينجح الإسرائيلي في استنبات الكثير من بذور الشك والإنقسام والخيبة والإنهاك التي زرعها في الوسط الفلسطيني بالتعاون مع أطراف فلسطينية مشبوهة وأطراف عربية متواطئة وأطراف إقليمية حاقدة طامعة..
نستطيع القول بموضوعية أن الكثير من هذه الأسس قد نسفت أو تزعزعت كنتيجة للإنتفاضة المقدسية وما صاحبها من مواجهات عسكرية وشعبية ..
١ – إستعادة زخم القضية وحيويتها بعد مرحلة من الإسترخاء تسببت بها عوامل كثيرة أهمها حالة الانقسام الحزبي الفلسطيني وسوء أداء السلطة وتهافت الوضع الرسمي العربي وانبطاحيته المخزية لاهثا وراء التصالح مع العدو التاريخي لكل الأمة .
٢ – الوحدة الشعبية الفلسطينية استعادت حيويتها وفعاليتها النضالية وبلورت موقفا وطنيا رائعا تجاوز كل الأطر الحزبية والدعوات الفئوية والمصالح الخاصة لهذا الطرف أو ذاك..فأصبح هذا الموقف الشعبي هو السيد وهو القائد المحرك وسيبقى او ينبغى أن يكون كذلك معيارا وطنيا يلتزم به الجميع..
٣ – مشاركة فلسطينيي الارض المحتلة سنة ١٩٤٨ بهمة واندفاع وفعالية أيضا تجاوزت كل مشاريع استيعابهم وعزلهم عن شعب فلسطين وقضيته الوطنية ..وهي المشاريع التي راهن فيها العدو على تحويلهم إلى جاليات اسرائيلية تتطبع بالسياسة الرسمية للدولة وتوجهاتها وتشارك في فعالياتها بالقدر الذي يكفي لتذويبهم فيها ولا يحولهم إلى قوة تهديد مستقبلية ..ولعل هذا التحول هو الأبرز على صعيد وحدة الشعب التي تضمن وحدة القضية وقدرتها على الإنتصار..
٤ – تنشيط التواجد الفلسطيني الشعبي في العالم كله ؛ لصالح القضية ذاتها …وهو تواجد متميز مليء بالكفاءات والكوادر والنخب الناجحة في كل صعيد…مما يعني فشل محاولات الدول باستيعاب الفلسطينيين حيث هم وإغراقهم في البحث عن الرفاهية ومستوى المعيشة الجيد أو المتقدم بما يجعلهم ينسون فلسطين ويكفون بالتالي عن المطالبة بالعودة إليها..كانت هذه إحدى المراهنات المحلية والدولية التي تتلاعب بالقضية لإسقاط حق العودة للفلسطينيين الى وطنهم فلسطين..وهو ما سيجعلهم عنصرا مؤثرا وفاعلا في مسارات الدفاع عن القضية والإنتصار لها ..او هكذا ينبغي ان يكون ..
٥ – إعادة الإحساس الفعلي بعدم توفر الأمن والأمان بالنسبة للمستعمر ( المستوطن ) ” الإسرائيلي ” في فلسطين ..فبات لا يثق تماما بإدعاءات حكومته بقدرتها الخارقة على حمايته سيما بعد ما يسمى القبة الحديدية التي استخدمت أحدث تقنيات الصناعات العسكرية والأسلحة الأميركية والعالمية..وبعد مسلسل طويل متكامل الحلقات برعت في إنتاجه وإخراجه الدعاية الصهيونية والذي حاول تصوير وضع ” الإسرائيلي ” في المنطقة وكأنه سيد ومرغوب لا بل محبب ومحبوب مما يجعله آمنا مطمئنا ؛ ليتبين بالأحداث الأخيرة عدم صحته ..
يحتل هذا الإحساس بعدم الإستقرار في فلسطين المحتلة حيزا في غاية الأهمية لأنه سيكون لاحقا أحد أسباب زعزعة الكيان الصهيوني وتخلخله الداخلي ؛ لانه سيفتح الباب لتسارع وتيرة الهجرة المعاكسة والعودة إلى بلادهم حيث أتوا..
٦ – سقوط نظريات التشكيك بالشعب العربي وتخليه عن فلسطين ..وهي النظريات التي دفعت مبالغ خرافية وبذلت جهود تسويقية دعائية جبارة لترويجها وجعل العرب أنفسهم يقتنعون بها فضلا عن الفلسطينيين..
فقد أظهرت الوقائع عكس ذلك تماما .فمظاهر التأييد والتضامن مع فلسطين وأهلها عمت كل الوطن العربي الكبير وحيثما تواجدت جاليات عربية..
٧ – تفاعل الكثير من النخب الفنية والثقافية والأكاديمية العالمية مع قضية فلسطين وحق أهلها في الحياة الحرة ؛ مترافقا بمزيد من وضوح الرؤية عن مدى همجية العدوان الصهيوني وكذب إدعاءاته وتهافت سياساته العنصرية الإجرامية..
وانتقال هذا التفاعل الإيجابي إلى المستويات الشعبية وبعض النخب السياسية …تفاعل ليس جديدا لكنه يتزايد باستمرار ويكسب في كل يوم أنصارا جددا ومؤيدين أكثر..
٨ – إستعادة نهج الصمود والمقاومة كخيار وحيد للتعامل مع المشروع العدواني الصهيوني على فلسطين والأمة..مع ما يعني ذلك من سقوط نهائي لمنطق التفاوض الذي لم يؤد إلا إلى تنازلات تعقبها تنازلات كادت تحبط الإنسان وتنهك مناعته القتالية..
وفي هذا الإستنهاض للروح الوطنية المقاومة كسب مهم لمصلحة القضية ومستقبلها..
٩ – الإجرام الإرهابي الصهيوني وممارساته العنصرية الوحشية ، نسفت جهودا جبارة كانت بذلتها ماكيناته التسويقية والدعائية المتشعبة جدا لتصوير الإسرائيلي كصاحب حق يدافع عن نفسه ؛ وانه هو الباحث عن السلام والراغب فيه وفي التعاون مع كل دول المنطقة وشعوبها من أجل بناء المستقبل الآمن المتقدم..وهي الفكرة التي إنطلت على بعض ” العرب ” الذين راحوا يبخرون لها ويعملون على أساسها..
إن وحشيته هو في التعامل مع شعب فلسطين أسقطت تلك الفكرة إلى غير رجعة..وأعادت إلى الأذهان اللاهية حقيقة الشخصية الصهيونية الحاقدة على جميع البشر وتعتبر كل من عداها خلقه الله ليكون في خدمتها وانه يحق لها قتل الأغيار من غير اليهود الصهاينة فهذا حق إلهي لهم..
١٠ – إن الإيجابيات الكثيرة لهذه الجولة من الصراع تحتاج إلى تثبيت وتطوير إنتقالا إلى مراحل أخرى تتحقق فيها إيجابيات أخرى إلى أن يتم دحر العدوان وتحرير الأرض..الصراع طويل وشاق وشامل..وبإعتباره صراعا وجوديا فهو يشمل جميع جوانب الحياة ، بحيث تكتسب المقاومة مضمونا متكاملا يشمل الكثير من أساليب العمل والمواجهة..
وعليه فإن العدو الذي يتمتع بنفس طويل على العمل وبإمكانيات ضخمة في كل المجالات أيضا ، قد بدأ فورا العمل على إجهاض أي انتصار حصل مهما كان بسيطا ؛ وتفريغ كل إيجابية حصلت من المضمون الحقيقي وصولا إلى منع الشعب الفلسطيني من استثمار ذلك النصر وتلك الإيجابيات لصالح قضيته الوطنية العادلة..
١١ – من هنا وجب السؤال الملح :
– كيف نصون الإنتصار المتحقق ونستثمره لصالح قضيتنا وأهدافنا الإستراتيجية..؟؟
– كيف نحمي تلك الإيجابيات ونطورها وندمجها في صلب العمل الوطني الثوري المقاوم ؟؟
– كيف نمنع أي طرف خارج شعب فلسطين من استثمار النصر والإيجابيات لمصلحته الخاصة حتى اؤلئك الذين ساعدوا وتضامنوا بالإغاثة أو المال أو حتى السلاح..؟؟
١٢ – إستنادا إلى معرفة بتاريخ الصراع وأساليبه والتجارب السابقة للعمل العربي و الوطني الفلسطيني في مواجهة العدوان ؛ ومن واقع المواجهة الراهنة وتداعياتها ؛ فإن جملة من الامور او المطالب تطرح ذاتها بقوة وإلحاح تتطلبه ضرورة تعزيز العمل الوطني وحماية المكتسبات المتحققة :
أولا :
توحيد العمل الوطني الفلسطيني تحت قيادة منظمة تحرير فلسطين بعد تجديد شبابها وتطويرها وتأهيلها لتستوعب وتضم كل قوة عمل وطني ..
ثانيا :
إحياء مؤسسات العمل الفلسطيني الوطنية..من المجلس الوطني الفلسطيني إلى مؤسسة الدراسات إلى كل الإتحادات والروابط المهنية والشبابية والثقافية وإطلاقها وفقا لآليات عمل واختيار ديمقراطية شفافة تسمح بتجديد دمائها وانخراط طاقات شبابية متجددة إليها… لتأخذ دورها الوطني كما كانت في أيام النشاط الثورية الأولى وأكثر من ذلك بما يتلاءم مع المتغيرات الكثيرة والدروس المستفادة من التجارب الغنية الكثيرة…
ثالثا :
وضع استراتيجية واضحة محددة للصمود والمقاومة والمواجهة وفق الثوابت الوطنية الجامعة التي يتفق عليها الجميع..
رابعا :
وضع برنامج عمل زمني مرحلي محدد على أساس ما تتيحه الظروف والإمكانيات بما يؤدي إلى تراكم الإنجازات والمكتسبات حتى التحرير..يدخل في حسابه كل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج..يضع في أولوياته توفير مقومات البقاء والإستمرار لكل فلسطيني في الداخل..
خامسا :
تأسيس إتحاد للفنانين الفلسطينيين وتشجيع أعمال فنية ثورية كتلك الأغاني الوطنية التي ظهرت بعد معركة الكرامة وساهمت في تثوير الجماهير العربية أيضا..واستغلال وسائل ” التواصل ” الاعلامية الحديث بشكل مدروس ومركز يشرح القضية ويوظف الطاقات ويكشف ويرد على جيوش المواقع والأصوات الإلكترونية التي يوظفها العدو للترويج لسياساته التخريبية والتحريضية..
سادسا :
تشكيل مؤسسة تعنى بمتابعة التواصل والتفاعل مع كل الفنانين والأكاديميين والنخب والناشطين الأجانب الذين أبدوا تأييدا لحقوق شعب فلسطين وأدانوا ممارسات دولة الكيان..
سابعا :
تشكيل مؤسسة يكون هدفها الأول والأساس التواصل والتفاعل مع الفلسطينيين خارج فلسطين ؛ وهم كثيرون وفيهم نخبة عالية متميزة متعددة الإمكانيات من كل نوع ويجب توظيفها في خدمة القضية وفق الإستراتيجية المحددة وبرنامج العمل المرحلي المتفق عليه..كل في موقعه وفي مكانه وبإمكانياته..
ثامنا :
تشكيل مؤسسة خاصة لمعالجة ورعاية وتأهيل الجرحى والمتضررين وعائلات الشهداء وأسر المعتقلين..
تاسعا :
التخلص من كل العملاء والمأجورين المتعاملين مع قوات الإحتلال .وكشف ومحاصرة المتخاذلين الفاسدين الذين ثبت فسادهم وصاروا عالة وإعاقة لكل عمل وطني فلسطيني..
عاشرا :
إن البعد العربي لقضية فلسطين يحتم تفاعلا في الإتجاهين بين العمل الوطني الفلسطيني والحركات الشعبية العربية ..التفاعل المؤدي إلى عمل إيجابي ميداني يخدم القضايا الوطنية وقضية التحرر القومي كاملة وفي القلب منها مواجهة العدوان الصهيوني في كل مجال حياتي ..فالأذرع الصهيونية تحارب كل قضية وطنية عربية تحررية في كل مكان..كما تحارب قضية فلسطين وشعبها في كل مكان أيضا وليس فقط على أرض فلسطين ..والتشديد على وحدة المصير والقضية في مواجهة موجات التشكيك بالعرب والعروبة لفصل قضاياهم عن بعضها والإستفراد بكل واحدة على حدة…
# – أما وضع السلطة الفلسطينية فيحتاج حقيقة إلى معالجة ذكية وجريئة معا..إن إسقاط أوسلو بات مطلبا ملحا بعد أن أسقطته دولة الإحتلال لمجرد أنها لم تلتزم بأي حق للفلسطينيين ..فضلا عن أنه كان غطاء مرت من ثقوبه وعوراته الكثيرة تراجعات وانتكاسات في الوضع الفلسطيني لم تعد خافية على أحد..بحيث بات ملحا على الوطنيين الشرفاء فيها وعلى شباب فتح وقادتها المخلصين التخلص بسرعة من كل الفاسدين المرتزقة والمأجورين الذين يتعاونون مع الإحتلال في مواجهة شعبهم وقضيته ومصالحه..أما ما يسمى التنسيق الأمني بين السلطة والمحتل فهو فضيحة الفضائح التي ينبغي وقفها ومنعها مهما كانت النتائج..والفرصة الآن مؤاتية جدا لمثل هكذا خطوات..
# – إن الوضع الشعبي الفلسطيني والعربي الآن يماثل الوضع عقب معركة الكرامة البطولية الرائعة سنة ١٩٦٨..حيث المعنويات العالية والإلتفاف الشعبي وروح الفداء والتضحية عامة…فلتكن القوى الوطنية الفلسطينية على قدر طموحات شعبهم وتطلعاته وتضحياته العظيمة الرائعة..فتستفيد من تجارب تلك الأيام وما كان فيها من أخطاء في الأردن او في لبنان منعت من إستثمار النصر في مكتسبات سياسية ثابتة متراكمة متجددة…
# – إن تحويل أي نصر عسكري إلى مكاسب سياسية عملية يتوقف على قدرة القيادة الوطنية على التحرك الحر ومدى استقلاليتها عن الأطراف الخارجية والتزامها بقضيتها الوطنية معيارا لعلاقاتها وبالارادة الشعبية محفزا وحاميا ودافعا لمزيد من العطاء والإنجاز..
الظرف المؤاتي الراهن يحتم على جميع الأطراف تجاوز عصبياتها الحزبية والفئوية ومصالحها الخاصة لصالح الجماعة المتوحدة خلف قيادة وطنية حرة..
إن توقف المواجهات العسكرية يترك المجال واسعا لمقاومة شعبية مدنية واسعة ومؤثرة وفاعلة يشارك فيها كل مواطن في كل مكان..اللهم إذا توفرت القيادة الواحدة واستراتيجية العمل وبرنامج العمل المرحلي الواضح المحدد..فالصراع شاق وطويل والعدو مجرم شرس.