ياسر علي
الكاتب والباحث الفلسطيني منير شفيق يصدر أولى مذكراته- (مركز دراسات الوحدة العربية)
منير شفيق ضمير الثورة ومفكرها الثابت الذي لم يتزحزح، حتى وهو في العقد التاسع من عمره. الجلوس معه كالجلوس في مكتبة متكلمة. يليق بمستهلّات جلساته أن يملي كتب الأمالي أو الكشكول أو المستظرف..
الجلوس معه يبدأ بالقرآن والحديث وربما التفسير والأحكام الشرعية، ثم المتنبي أو أحد فحول الشعراء، والحكايات الظريفة التراثية والطرائف الحديثة، وبداياته في الثورة ثم الفكر والكتابة، والتجارب العملية الميدانية في بيروت.
منير فلسطين.. فلسطين بوصلته، مساره، هدفه، ميزانه ومعياره الذي يقيس به المواقف والتصريحات والأفعال والفعاليات والأحداث.
بالنسبة إليه، كل ما أدى إلى تحرير فلسطين هو معه.. حتى انتقالاته الفكرية كانت فلسطين معيارها، ثباته وعناده من السجون حتى اليوم، كانت فلسطين سببه.
المناضل المتفائل فوق العادة، الناقد فوق العادة، الشفاف فوق العادة، والعنيد فوق العادة..
احتكّ بعشرات الأفكار، وعايش عشرات التجارب، وكتب عشرات الكتب وآلاف المقالات.
أعلم أن كتابه هذا “من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق” الصادر هذه الأيام عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، كان يمكن أن يكون خمسة آلاف صفحة لو أراد له ذلك. (فهو رجل لا يسرد أي حدث إلا لعبرة أو هدف أو تحليل أو برهان وتعليم). لكنه زاهد في كتابة تجربته، وأعتقد ـ تحليلاً وليس معلومة ـ أن الكاتب الصديق نافذ أبو حسنة رحمه الله، بذل جهداً كبيراً في هذا الأمر، بدءاً من إقناعه بالفكرة حتى طباعة الكتاب. (كتبت هذا قبل أن أقرأ مقدمة أبي فادي، فإذا به يتحدث فيها عن إصرار نافذ على إنجاز هذه الجمرات/ المذكرات، رغم عدم رغبته بذلك).
منير شفيق لا يقبل أن يكون مطواعاً بلا قناعات، لذلك كان رأيه حاضراً في كل أحداث الثورة الفلسطينية، وفي الغالب كان ناقداً لا يقبل أن يسكت على الأخطاء، أو أن يداهن المسؤولين ومصالحهم.
“لذلك لا تعكس هذه المذكرات وجهة نظر قادة الصف الأول في المقاومة الفلسطينية، بل غلب عليها عرض التجربة الشخصية لمنير شفيق، وهي تجربة غنية ومميزة من دون شك، وتقدم الكثير من العبر والدروس النضالية والفكرية والأخلاقية، كما غلب عليها عرض مقاربته للوضع السياسي في كل مرحلة من مراحل مسيرته النضالية، وهي خيارات ربما من المفيد العودة إليها اليوم أمام ما وصلت إليه خيارات قادة الصف الأول من نتائج على القضية الفلسطينية”.
تتوزع أقسام الكتاب (٥٦٠ صفحة من القطع الوسط) على مقدمة وستة أقسام وخاتمة وفهارس أعلام.
القسم الأول بعنوان: القطمون، وفيه البدايات واللجوء إلى الأردن.
القسم الثاني: في مواجهة النكبة، وفيه: العودة إلى القدس الشرقية، تجربتي مع الحزب الشيوعي، التعايش مع تجربة السجن، بداية التحول الفكري، ما بعد الحزب في بيروت، حزيران ١٩٦٧ والتحولات.
القسم الثالث: ما بعد هزيمة ١٩٦٧، وفيه: أيلول ١٩٧٠، العضوية في حركة “فتح”، نحو تشكيل التيار، إرهاصات التسوية، الانشقاق والبقاء، المرجعية الإسلامية، استئناف النقاش.
القسم الرابع: القتال من وراء الحدود، وفيه: اجتياح لبنان ١٩٨٢، مغادرة مركز التخطيط.
القسم الخامس: منعطف أوسلو، وفيه: أوسلو وانعكاساته المدمرة، علاقتي بالوحدة العربية (يتضمن: في عالم الشيوخ).
القسم السادس: الثورات العربية.. نحو مرحلة جديدة، وفيه: الثورات العربية، خلاصات.
يبقى القول إن النكبة التي اقتلعت ٩٣٠ ألف لاجئ، أتاحت لنا ٩٣٠ ألف قصة، تختلف أنواعها بين الشعبي والسياسي والجماهيري والثقافي والفكري. وتختلف مستوياتها بين السطحي والعميق والعميق جداً. ولا شك أن هذه المذكرات من أغنى وأعمق ما كُتب من تجارب القيادات الفلسطينية.
هي حكاية شعب، لم يغب عن أفراده أن يوثقوا تجاربهم لتبقى شهادة على ظلم العالم في أطول قضية لاجئين بقيت حية بإصرار شعبها وبطولات أفراده الذين يفضلون الموت على أن تموت قضيتهم، ويحملونها حيةً لتحملها أجيال تصر على المضي بها حتى التحرير والعودة
المصدر: عربي21