حازم الأمين
شهد لبنان في اليومين الفائتين مأساتان، الأولى انتحار شاب عشريني (ماتيو) بعد تركه رسالة يعلن فيها يأسه من ظروف العيش في بلده في ظل الانهيار الهائل الذي يشهده، والثانية موت عائلة مؤلفة من أم وأربع بنات، أثناء توجههم ليلاً لملء سيارتهم بالبنزين، وفي ظل تعطل إنارة الشارع الذي ابتلعهم فيه طابور سيارات كان ينتظر بدوره البنزين! ترافق ذلك مع خبر نقلته صحيفة سويسرية، يتمثل في أن زيادة في ودائع حسابات لبنانيين في البنوك السويسرية بلغت نحو ٢.٧ بليون دولار أميركي، من شبه المؤكد أنها تمثل المبالغ التي هربها سياسيون ونافذون من حساباتهم في أعقاب تنفيذ المصارف اللبنانية capital controle غير قانوني على ودائع اللبنانيين.
للوقائع الثلاث علاقة وثيقة ببعضها بعضاً. الشاب انتحر لأن لبنان المفلس بفعل سطو سياسييه على مدخرات المواطنين وتحويلها إلى حساباتهم في الخارج، لم يعد يمثل بلده مستقبلاً له، والعائلة قُتلت لأن السياسيين أيضاً أفرغوا خزينة الدولة وحولوا ما نهبوه إلى المصارف الخارجية ولم يعد استيراد البنزين ممكناً بفعل الإفلاس، وصارت تعبئة خزان البنزين مهمة ليلية لعائلة تريد أن تتوجه في اليوم الثاني إلى المطار لاستقبال الأب القادم من أفريقيا!
الجواب جاءنا من سويسرا! لماذا قتل ماتيو نفسه، ولماذا ماتت العائلة عن بكرة أبيها؟ لأن سياسيين ونافذين سطو على ثروات اللبنانيين وحولوها إلى حساباتهم في سويسرا وغيرها من العواصم الأوروبية. هل من معادلة أوضح؟ وهل من جواب أشد بساطة عن سؤال الصحيفة السويسرية المتمثل بـ”لماذا زادت ودائع لبنانيين في مصارفنا بهذه النسبة خلال سنتي الانهيار المالي اللبناني”؟
وللجواب المتمثل بالمأساتين هوامش أخرى لا تقل مأساوية. الودائع زادت لأن حاكم مصرف لبنان السيد رياض سلامة تولى حماية المودعين الكبار من سياسيين وأقارب لهم، فأتاح لهم تحويل ودائعهم الكبيرة، في وقت أطبق فيه على حسابات أصحاب الودائع المتوسطة والصغيرة. هذا الرجل الذي فتحت فرنسا تحقيقاً قضائياً حول ثروته التي قدرها القضاء الفرنسي بنحو بليوني دولار، لا يريد أن يكشف عن هوية أصحاب الحسابات التي تم تهريبها خلال الثلاثة أسابيع الأولى من عمر الأزمة، وهي المرحلة التي أقفلت فيها المصارف أبوابها في وجه المودع العادي وفتحتها للسياسيين. لهذا السبب تماماً ماتت العائلة بأكملها، ولهذا السبب أقدم ماتيو على الانتحار.
إنهم قَتَلة، والأمر لا يقتصر على فساد سبق أن شهدته دول ومجتمعات. هم حاضرون بفعلتهم بوجوههم وأسمائهم وعائلاتهم، يتجولون بيننا ويتباهون بالثروات التي راكموها خلال سنوات حكمهم. جبران باسيل يضاعف استثماراته السياحية في بلدته البترون، ونبيه بري يضيئ قصره في المصيلح بمحاذاة الطريق المظلم الذي يقتل العابرين ليلاً بحثاً عن البنزين. لا أحد بريئاً، والمآسي بدأت بالتمدد. المستشفيات عاجزة عن استيراد البنج والأدوية مفقودة في الصيدليات، وهم بدورهم يظهرون على شاشات التلفزيون من دون أن يرف لهم جفن. لم تخجلهم فعلتهم، ولم يخجلهم ما تم كشفه حتى الآن من وقائع موثقة عن عمليات النهب التي ارتكبوها. تحميهم طوائفهم الحمقاء، ويحميهم حراس يتقاضون رواتب زهيدة، حراس يحولون بينهم وبين شابة غاضبة أرادت شتم جبران في أحد المطاعم، أو أم متحسرة على ابن غادر.
لكن الأشد فداحة من وقاحة الطبقة السياسية اللبنانية هو معرفتنا كلبنانيين بموبقاتهم وجرائمهم ليست بوصفها أخباراً نتناقلها، انما بوصفها وقائع مثبتة. لا بل أننا نعرف أنهم بالإضافة إلى لصوصيتهم ومافياويتهم، تولوا رهن مستقبلنا بإرادات أسيادهم في الخارج. حزب الله وميشال عون يعطلون تشكيل الحكومة بانتظار ضوء أخضر إيراني، وسعد الحريري خائف من غضب السعودية في حال سهل تشكيلها! ليس مهماً أن الموت صار على الأبواب، وأن شباناً ينتحرون، وعُجزاً يقضون على أبواب المستشفيات، طالما أنهم يؤدون المهمة التي انتدبهم إليها سادتهم في دمشق وطهران والرياض. وهم في الوقت المستقطع بين انعقادهم في سلطة وبين موتنا في الطرق، يتولون السطو على ما تبقى من ودائع ومن موازنات.
لم يعد من حدود لخساراتنا. ها نحن في العراء الكامل. الموت لم يعد واقعة تذهلنا. صار حلاً فعلياً، وماتيو اذ اختاره وسيلة للتخلص من هذه السلطة القذرة، دعانا إلى اللحاق به طالما أن العالم كله لم يعد مكترثاً لهذا البلد المضر وغير المجدي الذي اسمه لبنان.
المصدر: الحرة