جمانة دحمان
نور حريري مهندسة وكاتبة ومترجمة من سورية، حاصلة على ماجستير في الفلسفة، وحاصلة على المركز الأوّل في مسابقة القصّة القصيرة لعام 2016. لها عدّة ترجمات منشورة منها: مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية لجوديث بتلر (صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، سُبل النعيم: الميثولوجيا والتحوّل الشخصي لجوزيف كامبل، ولديها عدّة أبحاث منشورة منها: الترجمة تفكيكًا: الخطاب النسوي نموذجًا.
في هذا الحوار تأخذنا نور في رحلة ممتعة في عالم الترجمة وتحدّثنا عن الصعوبات والتغيرات التي واجهتها خلال ترجمة الكتاب الذي صدر مؤخرًا عن دار نينوى للدراسات والنشر، وهو كتاب “الحياة النفسيّة للسلطة” للفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر.
(*) يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، بما معناه، إن مهنة الترجمة هي بحدّ ذاتها محاولة لعدم ترجمة النص، ويضيف أن هناك أصعدة غير قابلة للترجمة مزروعة في النص والتي تجعل من هذه المهمّة مأساة حقيقية ومن تمنّي إنجاز ترجمة جيدة رهانًا يجب كسبه. هل استطعت كسب الرهان في ترجمة “الحياة النفسيّة للسلطة” للكاتبة جوديث بتلر؟ وإلى أي حد تصعب مقاومة المترجم للترجمة أثناء عمله؟
لا أعتقد أن أحدًا يمكنه أن يجيب بثقة عن هذا السؤال. وربما يجدر بنا أن نسأل هنا عن طبيعة هذا الرهان من جهة، فرهانات الترجمة كثيرة، وعن طريقة كسبه من جهة أخرى. فأحيانًا يكون كسب رهان الدقة على حساب فقد المعنى، وأحيانًا يكون كسب المعنى على حساب فقد الدقة، وأحيانًا يكون كسب المعنى والدقة على حساب فقد السلاسة. هناك فقدان لا بد منه تفرضه الترجمة، لكن المترجم هو مَن يحدّد طبيعة هذا الفقدان. أما رهانات هذا الكتاب، فمن نافل القول إنها كثيرة ومتشعبة ويرتبط واحدها بالآخر. بدءًا من عنوان الكتاب الإشكالي والاقتباسات الموجودة في البداية، مرورًا بالمصطلحات والمجازات المعقدة، وليس انتهاءً بالهوامش والملاحظات في نهاية الكتاب. وبمعزل عن لغتها الهيغلية التي يُتفق على صعوبتها وتعقيدها، مارست بَتلر في هذا الكتاب “لعبًا دريديًا” في الكلمات، وجاءت بكلمات وتراكيب غير شائعة، وقد كان ذلك أصعب هذه الرهانات. إن بَتلر تقيم حواجز مختلفة وكثيرة أمام المترجم/ة، ما يجعل الترجمة أشبه بسباق حواجز، لكنني سعيت جاهدةً إلى تلطيف -لا توطين- شحنة اللغة مقابل الحفاظ على ثقل المعنى.
(*) تقول الكاتبة والناقدة الأدبية الفرنسية مرغريت يورسنار في تعريفها للترجمة: إنّ الترجمة كتابة. ما يعني أن المترجم هو كاتب أيضًا، هل فعلًا يجب أن يكون بالضرورة كلّ مترجم كاتب؟
نعم، هو كاتب بطبيعة الحال، فكل قراءة وكل ترجمة هي كتابة جديدة، لكن ليس ضروريًا أن تكون الكتابة الثانية هنا (الترجمة) في مستوى الكتابة الأولى (التأليف). أما عن الكتابة بمعناها الصرف، أي عن قدرة المترجم/ة على الكتابة والتأليف، فلا أعتقد أن الكتابة ضرورية للترجمة، هما حقلان منفصلان ولكل منهما مزاجه وأدواته وعناصره.
(*) كتبت على موقع “فيسبوك” حين صدرت النسخة المترجمة من الكتاب أنّ “الترجمة لحظة جنونية لاتخاذ القرار”، ما الذي جعلك تعتقدين ذلك؟ وأيضًا ذكرتِ أن الترجمة “صراع نفسي”. ما هي أبرز الصراعات التي واجهتك خلال تجربتك الأخيرة في الترجمة؟
فيما يتعلق بالترجمة بوصفها عملية “اتخاذ قرار”، فهذا مصطلح استخدمه جيري ليفي Jiri Levy ليصف فعل الترجمة الذي يتطلب اتخاذ قرار لحلّ مشكلة معينة تبرز أثناء الترجمة، حيث سيؤثر هذا القرار على القرارات اللاحقة ويفتح المجال لخيارات معينة في الترجمة ويغلقه في وجه خيارات أخرى. أجد توصيف ليفي هذا قريبًا جدًا مما أختبره وأواجهه أثناء الترجمة، ولا سيما في ترجمة الفلسفة التي تتطلب أحيانًا اتخاذ غير قرار في الجملة الواحدة، حتى الوصول إلى مرحلة قد تتصادم وتتشابك فيها جميع هذه القرارات وتتطلب اختلاق قرارات وحلول جديدة. وهنا تصبح لحظة القرار هذه جنونية، فتتحول الترجمة إلى معادلة رياضية يتعذر حلّها. يقول الفيلسوف الأقرب إلى قلبي سورين كيركيغارد “إن لحظة اتخاذ القرار هي جنون”، وقد دمجتُ ما قاله كل من ليفي وكيركيغارد في توصيفي لما اختبرته أثناء ترجمة كتاب بَتلر، وجعلته عنوانًا لبحث أعدّه حاليًا في هذا الشأن. لذا اسمحي لي ألا أتوسع في الصراعات النفسية وأن أتركها لمن يودّ الاطلاع على البحث بعد نشره وأن أكتفي بالقول إن ذات المترجم/ة تنخرط في فعل الترجمة، ما يؤدي إلى نشوء صراع نفسي بين المترجِم/ة والنص، وحدوث عمليات تماهي أو مقاومة أو إفراغ توتر داخلي أو انشطار للـ”أنا” من طرف المترجِم/ة أثناء الترجمة، ما ينعكس بشكل واضح على النص المترجَم.
(*) كم من الوقت أخذت منك ترجمة هذا الكتاب؟ وهل فكرت في لحظة ما أن تتوقفي عن ترجمته؟
استغرقتْ ترجمة الكتاب عامًا واحدًا، وكثيرًا ما فكّرت في هذا العام في نفض يديّ منه وقلت في نفسي “هذا آخر كتاب أترجمه في حياتي”، لكن ما إن نُشر الكتاب حتى هرعت إلى ترجمة كتاب آخر لجوديث بتلر، ناسيةً مشقات الترجمة كلها. الترجمة هي طريقتنا الوحيدة، نحن القرّاء، لنقول “شكرًا” لأولئك البعيدين، أقرباء الروح والفكر. هذه الـ “شكرًا” كفيلة بألا نتوقف عن الترجمة.
(*) هل ترجمة الكتب التي تتعلق بالسياسة والفلسفة قد توقع المترجم في فخّ الملل؟
على العكس تمامًا، لا مكان أو وقت للملل، فالقراءة والبحث المزامِنان للترجمة كفيلان بالتهام الوقت والحفاظ على الدهشة وإبقاء الفكر متقدًا.
(*) برأيك هل يحقّ للمترجم بعد كل الجهود التي يبذلها لترجمة كتاب أن يقول: هذا كتابي؟
شخصيًا، لديّ مشكلة مع ياء المتكلم، وأحاول تجنبها قدر المستطاع، وإن اضطررت إلى استخدامها، أقول حينئذ ترجمتي أو مساهمتي. ومن ناحية أخرى، أدافع عن حق المترجم في أن يقول “كتابي”، في أن يكتب إهداء أو مقدمة للكتاب، وأن يقيم حتى حفل توقيع، أي أدافع بشدة عن ذاتية المترجم/ة المخفية والمحجوبة التي لطالما لُصقت بذاتية الكاتب/ة، وأشجع على إظهارها والاحتفاء بها.
(*) رحلة ترجمة كتاب ما، هي رحلة طويلة مليئة بالبحث وبالقراءة المكثفة والغوص في دهاليز كل كلمة، ما هي التغيرات التي تطرأ على المترجم في المرحلة ما بين بداية الترجمة وحين ينتهي من الكتاب ليسلمه؟
أعتقد أن هذه التغيرات هي أهم وأروع ما في عملية الترجمة. ولو كان الأمر في يدي، في عالم آخر مثالي، لكنت قيّدت المعرفة بالترجمة، بسبب هذه التغيرات تحديدًا التي لا يمكن أن تحدث إلا من خلال الترجمة، لكنت قيّدتها بالترجمة حتى من دون نشر المترجَم وتوزيعه، أي كممارسة شخصية بمنزلة القراءة. التغيرات هي أكثر من أن تُحصى هنا، فهناك تغيرات نفسية ومعرفية جذرية، إضافة إلى التغيرات ذات الصلة بالمنطق والتفكير. تظهر هذه التغيرات بوضوح للمترجِم في لحظات مراجعة الكتاب قبل تسليمه للناشر، يتصفح المترجِم ذاكرته على الورق، فيمرّ على الأسماء والأفكار والمصطلحات الكثيرة التي لم يكن يعرف عنها شيئًا قبل الترجمة، يواجه ذاته القديمة قبل الترجمة ويتعرف إلى ذاته الجديدة سريعة النضج ويرى الفرق، يراقب كيفية تحكّم مزاجه بالترجمة، يرى زلاته وهفواته وهناته ويفهم كثيرًا عن نفسه منها. أرى أن ترجمة كتاب واحد تساوي دراسة -لا قراءة- ما لا يقل عن عشرين كتابًا.
المصدر: ضفة ثالثة