بروس ستانلي
يعيق التغير المناخي القوات الأميركية المنتشرة بشكل خاص في دول الخليج. فضلاً عن إضعاف صحة الموظفين، اتضح أن العتاد غير مناسب للعواصف الرملية الشديدة والعواصف الرعدية العنيفة. وعلى الرغم من حجم موارده اللوجستية، يجد الجيش الأميركي نفسه مأخوذاً على حين غرة في مواجهة هذا التهديد غير المسبوق.
في 6 يونيو/ حزيران 2021، وصل مقياس الحرارة إلى 51.7 درجة مئوية في مدينة سويحان، شرق أبوظبي، بدولة الإمارات. وهي أعلى درجة حرارة على الإطلاق مسجلة في يونيو في الإمارات. كذلك تجاوزت خمس دول أخرى في المنطقة الخمسين درجة مئوية في نهاية ذلك الأسبوع، ما يجعل منها أشد موجة حرارة في يونيو في تاريخ منطقة الخليج. وأما الموجة التي ضربت المنطقة في يوليو/ تموز 2020، فقد تكرمت على بغداد بـ 50.8 درجة مئوية، في حين صعدت في كربلاء إلى 52.4 درجة.
انخفاض القدرة على التحمل
بالنسبة للجيش الأميركي، الذي يبلغ متوسط عدد أفراده العاملين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 60 ألف شخص ـ والذي نشر أكثر من 2.7 مليون عسكري منذ 2001 ـ تعد هذه الحرارة الشديدة من ضمن التهديدات الأولى لقدراته القتالية. تعمل حالياً المجموعة الجوية-البحرية، المشكلة حول حاملة الطائرات “دوايت ديفيد أيزنهاور” في المجال القتالي شمال بحر العرب1. في ظل هذه الظروف قد تصل درجات الحرارة في مجال مجنقة إقلاع حاملات الطائرات (أداة تستخدم لإقلاع وهبوط الطائرات) (Aircraft catapult) إلى 65.5 درجة مئوية. يتعين في كل يوم معالجة بحارة من إصابات مرتبطة بالحرارة.
بوجود ما يقارب 7 آلاف فرد يشاركون في عمليات طيران واستطلاع على مدى 24 ساعة في اليوم، ومستعدون على الدوام لمواجهة عمل حربي، من الضروري أن تكون للمجموعة الجوية البحرية إجراءات تسمح بالتقليل من الإجهاد الحراري، وضربات الشمس أو الإرهاق بسبب الحرارة لدى البحارة. ويتعلق الأمر على الخصوص ببرامج الوقاية من الصدمات الحرارية، أو “أيام الراية السوداء” (Black Flag Days) حيث يتم خلالها التقليل من عبء العمل.
خلال معركة النجف في أغسطس/ آب 2004 قاتلت قوات المارينز الأميركية جسداً لجسد في الأنفاق، وعلى أسطح أضرحة مقابر وادي السلام، تحت درجة حرارة 50 مئوية. وعندما كانوا يتكدسون في مركبات “برادلي” القتالية لحماية أنفسهم كان يمكن أن تصل درجات الحرارة في الداخل إلى أكثر من 65 درجة مئوية، ما تسبب في العديد من حالات الجفاف، وفقدان الوعي والإرهاق الحراري ووفيات نتيجة ضربات حَر.
يمكن أن يؤدي ما يسمى بـ”الإرهاق الحراري” عند المجندين الذين يقومون بمهمات المشاة، في مثل هذه الظروف، إلى انخفاض القدرة على التحمل، من خلال اجتماع درجات حرارة قصوى والجهد البدني ووزن المعدات. خلال صيف 2003 عانى 50 من أصل كل 1000 من الأفراد المنتشرين في العراق من صدمات واختلالات وظيفية ناتجة عن الحرارة؛ في صف الجنود البريطانيين، 15 في المائة من حالات العلاج في المستشفى كانت بسبب أمراض مرتبطة بالحرارة، مع 800 حالة في المجموع.
تغييرات في التكتيك
تساهم أيضاً درجات الحرارة هذه، على مدى فترات طويلة، في إصابة المعدات الضرورية لإنجاز المهمة بالأعطال. وكثيراً ما ظهر أن التكييف الهوائي، وأنظمة التحكم في الرمي، وإلكترونيات مركبات “برادلي” غير موثوق بها في درجات الحرارة القصوى هذه. وأفادت المجموعات الجوية-البحرية، المنتشرة لشهور في الخليج، منذ مدة طويلة عن ظاهرة التآكل المتزايد للمعدات، وإلى مشاكل تقنية في سفنها. كما تساهم الملوحة الزائدة أيضاً في تعطل التوربينات. وأصبحت منذ مدة الموثوقية العامة المتعلقة بالطائرات القتالية “أف 35” من الجيل الخامس في ظروف الحرارة الشديدة مصدر انشغال. فهم يجدون صعوبة أكبر في الإقلاع، ونقل الحمولة الضرورية للمهمة، والحفاظ على الاستعداد القتالي، وتثبيت الوقود وتجنب الأعطال الإلكترونية، وإبقاء الطيارين في لياقة جيدة داخل قمراتهم القيادية.
بالنسبة لمخططي الضربات الجوية في مراكز العمليات الجوية المشتركة، فإن قباب الحرارة الممتدة تزيد في عدد الأيام التي يجب فيها التقليل من وزن حمولة الطائرات، ما يتطلب تغييرات في التكتيك وتقليل القدرة على الضربات والحد من نطاق القتال.
ويشكل اجتماع مخاطر الحرارة الشديدة والرطوبة، وحرارة سطح البحر- والتي تنتج درجات قصوى وفقاً لمؤشر TW (درجة حرارة البصيلة الرطبة الكروية)، والانخفاض المقابل للأداء الفردي أو الوفاة، لاسيما بالنسبة لأولئك الذين يعملون في الخارج- “مجهولاً معروفاً2”. أصبحت الاتجاهات المتزايدة في تِكْرَار وحجم درجات الحرارة القصوى، التي تفوق 30 درجة مئوية، جلية اليوم في كل المنطقة؛ تعد درجة حرارة بـ35 درجة مئوية أو أكثر، مقاسة وفق مؤشر TW مستوى يتجاوز حد البقاء البشري.
وسبق أن حدثت هذه الآثار العرضية للحرارة والرطوبة على طول المياه الضحلة لساحل الخليج كل سنة منذ 1979، ومن المتوقع أن تتجاوز بانتظام 35 درجة مئوية حتى 2075. وقد يشهد كل من بحر عُمان والبحر الأحمر تطورات مماثلة لمؤشرات TW القصوى.
خلال أشهر الصيف في قاعدة إنجرليك الجوية بتركيا، والتي تضم نحو 5000 عنصر وأسلحة نووية، وتلعب دور العبور للانتشار في أفغانستان والعراق، هناك عمليات تحديث يومية لمؤشر TW والمعبر عنه بمعيار عسكري بـ5 فئات يسمى (WBGT) “درجة حرارة البصيلة الرطبة الكروية”. والقاعدة معرضة بشكل خاص لظروف WBGT القصوى التي تسبب التعب والجفاف. وظهر أن إجراءات تأقلم الموظفين مع الإجهاد الحراري المرتفع، والتي سبق تنفيذها بالفعل من طرف الجيش الأميركي، ليست فعالة جداً، عندما يتم الاقتراب بانتظام من حدود البقاء.
هشاشة الحرب الكهرومغناطيسية
قد تؤدي القيم العليا لـTW وفترات العواصف الشديدة أيضاً إلى إضعاف قدرات الهجوم، والقدرة على المناورة القتالية والمرونة عبر مجمل الطيف الكهرومغناطيسي (EMS)، فيما تصفه البحرية الأميركية بحرب المناورة الكهرومغناطيسية للأسطول، والتي تعد حيوية جداً لهيمنة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. قد تكون كل من الاتصالات الصوتية والبيانات الأساسية، بما في ذلك الاستعلامات بالصور، والوصول إلى الحوسبة السحابية، والتشويش على اتصالات العدو، وتوصيل بيانات الاستهداف الحساسة للطقس، ومتابعة المستشعرات الأرضية والفضائية، ومراقبة أسراب الطائرات بدون طيار، وأنظمة التحكم والقيادة المستقلة، أو الحفاظ على الدقة المتوقعة للأسلحة “هايبر سونيك” (hypersoniques)، التي تفوق مرحلة ما بعد سرعة الصوت المستقبلية، عرضة لدرجات الحرارة القصوى والأمطار الرعدية المتكررة في المنطقة.
هناك مخاطر فورية أخرى ناجمة عن التكرار والخطورة المتزايدين للعواصف الرملية والترابية. تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأكثر غباراً في العالم، ويتزايد فيها عدد وكثافة العواصف الرملية بشكل كبير. كانت آثارها على القتال واضحة عندما شق مشاة المارينز الأميركية طريقهم نحو بغداد في مارس/آذار 2003. ضربت عاصفة ترابية ضخمة، استمرت 3 أيام، المهاجمين، مقللة القدرة على الرؤية إلى 10 أمتار، ومخترقة الأجزاء الميكانيكية لأنظمة أسلحتهم. بقيت المروحيات رابضة على الأرض، ولكن سلاح الجو تمكن مع ذلك من إلقاء قنابل موجهة بدقة على الحرس الجمهوري العراقي.
تتسبب العواصف الرملية في تأثيرات ميكانيكية قصيرة المدى تمثلت في مشاكل هامة أدت إلى تعطيل أو توقيف بنادق “أم ـ 16” وبندقية “أم ـ 4” المستعملة في العراق وأفغانستان. ويبدو أنه تم التخفيض من هذه الأعطال أخيراً، من خلال تصليحات وتصميمات جديدة. كما أن تعرض محركات الطائرات للغبار، سواء على الأرض أو على حاملات الطائرات في الخليج، له آثار قصيرة وطويلة المدى على الحفاظ على القدرة العسكرية والجاهزية القتالية وعلى العمليات في المطارات. كما تؤدي الرؤية المنخفضة إلى تغيير تخطيط مسار الطيران، وتقلل من القدرة على تحديد مواقع وضرب المدرعات أو القوات البرية المتحركة. بالإضافة إلى ذلك فإن الصدمات الحادة المرتبطة بالربو والإصابات الرئوية على المدى الطويل للجنود المنتشرين تشكل خطراً صحياً كبيراً.
الآثار المدمرة للفيضانات
تعتبر الفيضانات المفاجئة والعواصف الرعدية المدمرة من الأخطار المناخية المباشرة الأخرى التي تهدد الاستعداد القتالي، للمواقع الرسمية وغير الرسمية للولايات المتحدة. في يوليو 2019، شهد الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية وإيران أسوأ فيضانات منذ سبعين سنة، قتل خلالها العشرات من المدنيين وجرح المئات. شهران بعد ذلك، غُمر ميناء الدقم والقاعدة العسكرية بعمُان ـ والتي تستعملها البحرية وسلاح الجو الأميركيان ـ بـ116 مليمتراً من الأمطار وموجات عواصف أتت من الإعصار المداري “حكا”. وتعرضت قاعدة إنجرليك الجوية في ديسمبر/ كانون الأول 2019 إلى فيضانات مفاجئة غمرت محطتها لمعالجة المياه تحت عمق 1.5 متر من المياه. وشهدت “حتسورا” ـ وهي قاعدة لسلاح الجو الإسرائيلي تؤوي طائرات مقاتلة “أف 16” وتشارك في مناورات مع مقاتلات أميركية من قاعدتي العُديد بقطر والظفرة بالإمارات ـ غرق ثماني طائرات في يناير/ كانون الثاني 2020.
تعترف وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وحلف شمال الأطلسي (الناتو) أن الأزمة المناخية لها “تأثير على المهمات والخطط والقدرات” وتولد “إخفاقات في القدرات القتالية” (Climate Action Failures in combat capabilities).
وتأتي الظروف الجوية القاسية على رأس قائمة المخاطر، وهي تضرب بشكل أقوى وأسرع مما كان متوقعًا. وكما يمكن انتظار ذلك من قبل الجيش، فقد تم تسخير جهود وموارد كبيرة لإعادة تحسين نموذج مخاطر المناخ-الأداء: تحسين كبير جداً في البحث والتطوير في مرونة المواد والتصميم الإبداعي؛ ممارسات جديدة للتأقلم مع الحرارة؛ تحسين الهندسة البيئية – الحيوية؛ سيناريوهات مهام ولعب أدوار بديلة؛ ونقل القابلية للتأثر والقدرة على الضرب إلى “ما وراء الأفق”.
منذ عملية عاصفة الصحراء، تم تسخير موارد كبيرة للتحكم في الطقس من خلال وضع نماذج جديدة، وتعزيز وكالة الأرصاد الجوية التابعة للقوات الجوية، واستعمال (حوسبة فائقة/ super-informatique) قادرة على وضع تحديثات الطقس في متناول الجنود وفرق الطقس القتالية المتخصصة (CWT) في الميدان. ويسمح ذلك لهذه التكنولوجيا “ريش-باك reachback” (عودة المعلومة والتجربة) بتسليم البيانات مباشرة إلى فرقة الطقس التشغيلي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومقرها في قاعدة “Shaw” الجوية في كارولاينا الجنوبية. وتسمح أكبر منشأة في العالم لاختبار المناخ – مختبر ماكينلي المناخي (MCL) بقاعدة إيجلين الجوية، فلوريدا – باختبار الطائرات والمعدات العسكرية في جميع حالات الظروف المناخية، لمعرفة مكان وكيفية حدوث الإخفاقات، وبالتالي تحسين القدرة التشغيلية في هذه البيئة ذات المخاطر المناخية.
“عواقب وخيمة على الأمن”
سجلت مجموعة الدول الصناعية السبع وقمة حلف شمال الأطلسي، التي عُقدت في 14 يونيو 2021، على جدول أعمالها نقاشًا حول ذلك “الفيل الخطير داخل القاعة”، والمتمثل في العلاقة المحتملة جداً، وذات التأثير القوي، ولكنها مهملة، بين الأزمة المناخية والأمن الدولي. في 7 يونيو، أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للمجلس العسكري الدولي الخاص بالمناخ والأمن (IMCCS) تقريرها السنوي الثاني حول المناخ والأمن في العالم، محذرة من “العواقب الوخيمة لتغير المناخ على الأمن”. عواقب تتطلب تكييف الأمن الدولي على الفور مع المناخ على جميع المستويات، وأن يتم التركيز بشكل أكبر على دور الجيوش في الاستجابة لمخاطر الأمن المناخي الناشئة.
يجب أن تذهب هذه المناقشات إلى أبعد من الانشغالات الفورية بشأن مخاطر المناخ على القدرات القتالية، والتركيز بصفة أوسع على التخفيف من آثار أزمة المناخ على الأمن، وآثارها المضاعفة، من خلال العمل على الحد من البصمة الكربونية للجيش، وتحويل الجيش الأميركي، وهو أكبر مستهلك للنفط في العالم، إلى “جيش أخضر”، وعلى الاستعداد للتأثير المتزايد لأزمة المناخ على المجتمعات الهشة، من حيث الجغرافيا السياسية والمجتمع والصراعات والحركية، والتقليل من نقاط الضعف التشغيلية في مجالات الطاقة والبنية التحتية والخدمات اللوجستية لتغيير التموين، والتي سرعان ما صارت جلية. كما أصبحت التهديدات بارتفاع مستوى سطح البحر، على مدى العشرين عامًا القادمة، لموانئ البحرية الأميركية وقواعد القوات الجوية، مثل تلك الموجودة في الكويت والبحرين، تتطلب اهتمامًا خاصاً إذا أُريدَ أن تستمر هذه المنشآت في أداء مهامها.
ومع ذلك، توجد نقاط تحول وتأثيرات متتالية و”بجعات سوداء” غير معروفة تماماً في المستقبل القريب لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي لن يسمح “شحذ تقدمنا التكنولوجي” و”التعاون بين العساكر” بحلها. ما تزال محاولات تحسين النمذجة المناخية، والتحديثات الملائمة للأجهزة، وإعادة توجيه مشتريات الدفاع، والتكوين الوقائي، أو التدابير البديلة لتحسين الأداء القتالي ومرونة الأجهزة تؤدي إلى خوض معركة ضد الأحداث المناخية للأمس.
يستعد العالم لمستقبل حرب صارت خلفنا، أو لم يكن لها وجود أبداً. وقد حذرنا الشاعر الأيرلندي ييتس (W.B. Yeats) في 1919 من أن هناك “وحشاً هائجاً، حانت ساعته أخيرًا، وهو يزحف نحو بيت لحم ليولد”. لقد حل عصر “الأنثروبوسين” (عصر البشر)، ذلك الاضطراب الكوكبي الكبير. وهو يجبرنا على إعادة التفكير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أبعد من برامج الوقاية من الأمراض الحرارية وحماية المناخ، أو تحسين حماية الطيف الكهرومغناطيسي. وتتمثل البداية في فهم المخاطر التي تواجه شعوب المنطقة من حيث الأمن الغذائي والمياه والصحة، ووضع حد للتدخلات العسكرية وتعزيز الحكم الرشيد وحقوق الإنسان.
هوامش
1ـ حدّد الجيش الأميركي في 2001 مجال القتال على أنه “البيئة والعوامل والظروف التي يجب على القادة فهمها لتطبيق القوة القتالية وحماية القوة أو إنجاز المهمة بنجاح”. يجمع هذا المفهوم التكاملي المكونات المادية والسلوكية والمعرفية والجغرافية للقتال وتسيير الحرب في مفهوم كلي يمكن للقادة من خلاله اختيار وتركيز أعمال متعددة قائمة على التأثيرات للسيطرة على طيف الصراعات دعماً للمهمة.
2ـ لها أثار معروفة ولكن يصعب علينا فهمها.
ينشر بالتزامن مع “أوريان 21”
المصدر: العربي الجديد