د- عبد الناصر سكرية
في زحمة التحديات الكبرى والمخاطر المحدقة التي تهدد أمتنا العربية في وجودها وليس فقط في دورها ومواردها؛ يخصص كثير من المثقفين جهده وفكره لتشكيل وعي عربي حديث أو محدث متقدم؛ على أساس رؤيتهم للمشكلات التي تعاني منها أمتنا ومجتمعاتنا العربية وأنها ناجمة في جلها عن فقدان الوعي أو ضعفه في عقل وفكر وبنية الإنسان العربي..إنطلاقًا من رؤيتهم هذه يتفرغون لمناقشة أمور ومواضيع متنوعة تتعلق بالتوعية أو صناعة وعي عربي يمكن الأمة مستقبلًا من الصمود والمواجهة والانتصار.
ومما لا شك فيه أن الوعي بما يعنيه من فهم واضح لما يجري من أحداث ومعرفة صحيحة بحقيقة ودوافع وخلفيات ومصالح كل الأطراف المتداخلة في الواقع والمؤثرة فيه؛ يشكل ركنًا أساسيًا هامًا من أركان أي حل لأية مشكلة يعاني منها حاضر الأمة وراهنها.
لا شك أن الوعي بما يقتضيه من معرفة ومتابعة معرفية، ضرورة من ضرورات بقاء الحياة وتحسين ظروفها وتطوير إمكانياتها وما تقدمه للإنسان من معيشة أفضل ورفاهية أعلى ..كما أنه يشكل عاملاً هامًا من عوامل نجاح المواجهات المطلوبة لتلك التحديات والمخاطر.
لا يناقش أحد في هذا أو في أهمية الوعي عمومًا في كل مجالات الحياة. إذ يكتسب الوعي هذا، يصبح ضرورة مستمرة ومتصاعدة أيضًا بمعنى أنه حركة بناء لا تتوقف عن اكتساب المزيد من المعرفة لمزيد من الوضوح والفهم لاكتساب المزيد من المناعة والحصانة الذاتية لنجاح مستمر في اكتشاف المخاطر ومواجهة التحديات وحفظ الحياة وتطويرها.
أمام هذا كله تبرز مشكلات متعددة الرؤوس تتعلق بالزمان والمكان والظروف المحيطة والتقنيات المتاحة للوعي.
– في مواجهة واقع الأمة العربية اليوم ثمة أخطار داهمة تهدد وجودها في أساساته وثوابته.
فما هو موقع الوعي وما هي وظيفته الراهنة قياسًا إلى ما في الواقع من أخطار؟؟
– ما علاقة الوعي بالعمل النضالي المطلوب لرد الأخطار أو رد أي عدوان قائم على الأمة ؟؟
– ويبقى السؤال الأخطر والأهم: كيف يتشكل وعي الإنسان والجماعة ومن يشكله وما هي أدواته ومن يملكها ويؤثر فيها ؟؟
– وعي الإنسان العربي ما هي مقوماته وما هي فرصه في التحقق بما يتناسب مع شخصية الأمة وحضارتها وقيمها؟؟
– لماذا الوعي أصلًا وما هي فوائده وعوائده بالنسبة للإنسان والمجتمع؟؟ هل هو ترف فكري أو رفاهية ثقافية مثلاً أم أنه ضرورة حياتية لها وظيفة معينة؟؟
لا بد من الإجابة على هذه الأسئلة جميعًا حتى نكتسب نحن مقدمًا الوعي اللازم بكيفية تشكيل وعينا العربي وماهو الوعي المطلوب واللازم والمفيد في هذه الظروف الراهنة تحديدًا !!!
١ – إن تشكيل الوعي هو عملية تراكمية تصاعدية مستمرة لا تتحقق بين يوم وآخر…تتطلب خطوات بنائية متعددة الأسس والمنابر والمعالجات المعرفية والنفسية الثقافية والاجتماعية – الإنسانية..فهي لذلك تتطلب ثلاثة مراحل أساسية متكاملة :
الأولى : إزاحة وعي سابق متخلف مستهدف ومعالجة أسبابه القريبة والبعيدة..سواء كانت أسبابًا مادية معيشية أو رواسب نفسية اجتماعية أو مفاهيم معرفية بالية أو مغلوطة.
الثانية : تثبيت المفاهيم المعرفية الجديدة لخلق الوعي المطلوب ..بعد شرحها وبيان أهميتها وضرورتها وفوائدها وصلاحيتها لمستقبل الإنسان والمجتمع وحماية وجوده وحياته وتطويرها.
وذلك عبر طرق ومناهج تعليمية وتثقيفية وتوعوية وإرشادية متنوعة متعددة الوسائل تصب في هدف واحد متكامل ألا وهو : تشكيل الوعي الجديد المطلوب.
الثالثة : حماية الوعي المتشكل الجديد من الإنتكاس والرجوع ..ومن هجمات محتملة متوقعة للوعي القديم المطلوب تغييره واستبداله..كذلك حمايته من هجومات متوقعة وأكيدة من قبل مصادر أخرى للوعي مناقضة، ومن قبل قوى متضررة من الوعي الجديد، ومستفيدة من استمرار الوعي القديم المرفوض.
أجل فإن صناعة الوعي مسألة زمنية طويلة تتميز بمواصفات عديدة أهمها :
أ – إنها عملية تغيير فكرية عقلية ثقافية ممتدة.. تستغرق زمنًا طويلًا من العمل المستمر المتكامل..وحتى لو توفرت لها الظروف المؤاتية وتكاملت في أدائها مختلف المصادر والأدوات؛ فإنها ستأخذ وقتًا طويلًا من الزمن يتم فيه التفاعل الإيجابي المطلوب لإزاحة أسس الوعي المتخلف وغرس الأسس البديلة المطلوبة.
ب – إنها عملية جماعية مجتمعية شاملة وليست جهدًا فرديًا أو عملًا فئويًا يؤدى في نطاق البحث عن خلاص فردي أو تعال حزبي أو غرور شخصاني.
لا يعني هذا إقلالاً من شأن وأهمية الجهود الفردية والحزبية التي تؤدي دورًا ملحوظًا في توضيح أسباب الوعي اللازم ودوافعه ومتطلباته. وإن بنسب متفاوتة النوع والتأثير والإمتداد..فكثير من المثقفين والكتاب والمفكرين والمصلحين أثروا وعينا المطلوب وساهموا بفعالية في تشكيله وتأسيس مقومات فكرية او سياسية له أو حتى حركية وأخلاقية.
مع كل هذا فإن تشكيل وعي جديد يتطلب مشاركة مجتمعية متكاملة تعمل في إطارها كل وسائل التربية والتعليم والتوعية والتثقيف في المجتمع الواحد.
ج – إنها عملية وثيقة الصلة بالمكان أي بواقع الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه..وبالظروف التي يحياها والمعطيات التي تشكل الحياة فيه وبالوعي السائد وطبيعته ومداه وإرتداداته النفسية والأخلاقية المزمنة الكامنة أو الحادة الملحة ..فلا يمكن الحديث عن وعي تجريدي لا يرتبط بإنسان معين..وعلى الرغم من وجود قسمات عامة للوعي الإنساني تتجاوز الإعتبارات المحلية لمجتمع ما؛ إلا أنها تتكامل معها وتغنيها ولا تلغيها أو تطمسها أبدًا..وهذا ما يجعل الوعي مرتبطًا بخصائص كل مجتمع وثوابته وقيمه الأخلاقية وشخصيته الحضارية الإعتبارية..الأمر الذي يستدعي معرفة تامة بها عند التصدي لمهمة تشكيل وعي جديد..سواء من قبل أفراد مثقفين أو نخب حزبية أو جماعات سياسية.
د – إن ارتباط الوعي بالخصائص المجتمعية؛ يجعل منه جزءًا من السياسة فيه..فالسياسة التي هي عمليات إدارة شؤون المجتمع والتصدي لحل مشكلاته المتنوعة بما فيها الإقتصادية وتطوير حياة أبنائه والدفاع قبلاً عن وجودهم ومصالحهم وتطلعاتهم المستقبلية؛ هذه السياسة تحيط بالوعي وتستوعبه وتجعل منه إحدى أدواتها لتحقيق ما تريد..حتى تلك السياسة بمعناها السلبي التي تعاكس مصلحة الإنسان ومجتمعه؛ تستخدم وعيًا من نوع آخر معاكس لهما أيضًا ويخدم توجهاتها ومصالحها..وعليه فإن تشكيل الوعي لا ينعزل عن مجريات السياسة في المجتمع وكل ما فيها من صخب وتدخلات وصراعات وتنافسات وما يجري عليها من أحداث.
كذلك فإن مقتضيات حماية الوعي من مضاداته الثقافية أو السياسية يجعله في صلب أية مواجهة سياسية بكل مضامينها حتى تلك الإقتصادية والإستهلاكية..حيث أن القوى المضادة أو المتضررة من الوعي الجديد ونتائجه المتوخاة تعمل باستمرار لفرض وعي مغاير يخدم مصلحتها هي، سيما تلك التي تعمل للسيطرة على ذلك المجتمع والتحكم بموارده وإتجاهاته المستقبلية. وعليه فإن تشكيل الوعي لا يمكن أن ينفصل عن متطلبات السياسة والعمل السياسي اليومي في المجتمع المعين.
و – تشكيل الوعي مسألة مرتبطة بالزمان أيضًا..فهي متحركة متبدلة غاياتها مع تغير الأزمنة وتبدل الظروف العامة فيها..فما هو اليوم وعي مطلوب قد يصبح وعيا متخلفا بعد عقود من الزمن..لذا فهو يرتبط مجددًا بالظروف السياسية العامة السائدة في المجتمع..وعلى الرغم مما فيه من ثوابت لا تتغير بمرور الزمن، كما هي ضرورة الوعي بالتاريخ وشخصية الأمة والمجتمع وثوابته الحضارية وقيمه الأخلاقية؛ إلا أن بعض مواصفات الوعي متحركة تبعًا للحالة السياسية وتحدياتها ..كما تتغير تقنياتها ووسائلها تبعًا لما يستجد من علوم ومناهج وأدوات ذات صلة بالوعي وصناعته.
خلاصة :
إنطلاقا من هذه الخصائص العامة لعملية تشكيل الوعي المطلوب وتوابعها؛ وتطبيقًا على واقع حال الإنسان العربي وأمتنا العربية؛ وحيث أن أمتنا العربية تواجه حاليًا أخطر عدوان تتعرض له في تاريخها؛ وهو عدوان متعدد المصادر والمشارب؛ يستهدف وجودها القومي من أساسه وفي أساساته عاملًا على تدمير حواضرها وتهجير أبنائها وتغيير طبيعة مجتمعاتها السكانية الديمغرافية وتزييف وعيها بذاتها وبتراثها الحر وتاريخها المضيء؛ وتحويلها إلى كتل بشرية متضاربة متصارعة تفني ذاتها بذاتها؛ فإن الوعي المطلوب والملح والعاجل هو ذلك الوعي بكل تلك الأخطار والتحديات الراهنة وما تحمله من عدوان غادر على الأمة ومستقبلها ..كذلك معرفة كل القوى والأطراف المحلية والخارجية التي تمارس العدوان إياه والوعي بخلفياتها وأهدافها القريبة والبعيدة وأذرعها ووسائلها وتقنياتها جميعًا ومدى الترابط والتلاقي فيما بينها آنيًا أو إستراتيجيًا.
إن الوعي المعرفي التام بكل هذا يمثل أحد أهم مرتكزات أية مواجهة مطلوبة وممكنة لذلك العدوان وتداعياته الكثيرة؛ لا بل يشكل شرطًا من شروط نجاحها في الحفاظ على الهوية المهددة والوجود المستهدف بالإقتلاع.
هذا الوعي المعرفي الشامل بكل ما يحيط بالواقع العربي الراهن وما فيه وما يعانيه هو وحده الوعي المطلوب راهنًا وبصورة ملحة وعاجلة..ومن غير مثل هذا الوعي الشامل لن تستطيع أية مواجهة تحقيق غاياتها وإثبات وجودها وفعاليتها وقدرتها على البقاء والتقدم واكتساب المزيد من القوة لمواجهة متطلبات بناء المستقبل الواعد الحر المتقدم بعيدًا عن السقوط في مطبات المحاور والولاءات المسيئة والخطل الإستراتيجي والفشل الحركي في مصائد القوى المخادعة.
وبمقدار اكتساب مثل هذا الوعي تزداد الحاجة إلى الإنخراط في صلب العمل النضالي لرد العدوان وحماية الوجود ..وعليه فإن الوعي الملح المطلوب هو ذاك الذي يجعلنا أعضاء فاعلين في الحركة الشعبية اليومية للمواجهة..مواجهة الأخطار ليس بالعمل الثقافي والتوعوي فقط، بل بالعمل النضالي الميداني الجماعي المشترك وفق الأسس العلمية الموضوعية لأية مواجهة ضد أي عدوان.
وعليه تصبح التوعية بتلك المخاطر والتحديات وبالقوى التي تمثلها وتديرها أحد أجنحة العمل للدفاع عن الأمة..يكمل أجنحتها الأخرى ولا يحل محل أي منها كما لا يكفي لوحده – على أهميته – إن لم يكن في إطار حركة سياسية شعبية نضالية لردع المعتدين وإفشال مخططاتهم وحماية الأرض والإنسان ومجمل الأمة.
إن تشكيل وصيانة وحماية الوعي جزء من العمل السياسي النضالي اليومي..أو هكذا يجب أن يكون.. فهل تتوفر للإنسان العربي الأدوات والأطر السياسية التي تساعده في بلورة الوعي المطلوب وتمده بالمعرفة اللازمة والرؤى التحليلية التي يحتاجها لتشكيل وعيه الحر؟؟
ومن يصنع وعي الإنسان العربي المعاصر؟ وإلى أي مدى تمارس الأحزاب والنخبة المثقفة مثل هذا الدور المرجو ؟؟
من هي القوى المضادة وما هي أدواتها المشوهة للوعي العربي المطلوب؟؟
هل النظام الرسمي العربي يساهم في تشكيل وعي حر؟؟
يتبع..