د-عبد الناصر سكرية
مرت الذكرى السنوية الأولى لجريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 من دون أن تعلن للناس حقيقة ما حدث، ممّا جعل المواطنين لا سيّما ذوي الضحايا يزدادون نقمة وغضباً وحرقة فيما السلطة الحاكمة تتمادى في عهرها وفسادها وتآمرها على الشعب والوطن.. لا بل تتمادى في إنكارها وجود شعب لبناني.
إن نهج تعاطي المسؤولين في سلطة النظام اللبناني، على جميع المستويات، تجاوز الفساد والاستهتار والاستحمار، فبلغ فعليّاً مرحلة إنكار وجود شعب لبناني يعاني أشد المعاناة؛ وهم في تجاهل تامّ لآلامه ومعاناته التي تجاوزت افتقاده أبسط مقوّمات الحياة البدائيّة حتى.
كانت جريمة تفجير المرفأ بالغة الدلالة والوضوح. وبالرغم من ذلك لم يعلن عنها شيء رسمي بعد. مرفأ بيروت أهمّ مرفأ حيويّ في لبنان، ومعظم تبادلات لبنان التجارية والخدماتية تمرّ من خلاله؛ فهو لذلك أكثرها نشاطاً وحركة… وكلّ ما فيه واضح ومسجّل وموثّق… بحكم الضرورة العملانية المصلحيّة لكلّ الأطراف التي تمرّ عبره أو تتعامل وتتداول من خلاله على أقلّ تقدير.
هذا يعني أن ما كان يجري في المرفأ معروف وموثق… فلماذا التأخير في كشف الحقيقة للناس؟
إن جميع المراكز الحساسة والتقريرية في المرفأ يشغلها مسؤولون من أتباع أطراف السلطة الحاكمة، وبالتالي فمن الطبيعي جداً أنّهم جميعاً يعرفون ماذا يجري في المرفأ… وقد تأكّد هذا بالفعل بعد التفجير من خلال ما كشفه إعلاميون متابعون للحدث – العدوان، وبات ثابتاً أنّ كلّ الجهات الرسمية السياسية والأمنية في الدولة كانت على علم بوجود نترات الأمونيوم ويعرفون خطورتها، ويعرفون أن جهات محليّة تنقل منها كميّات بالتتابع إلى أماكن محليّة أو في أغلب الأحيان سورية… وبالرّغم من ذلك، لم يعلن عن شيء رسمياً، بل تعاطي السلطة وأطرافها مع مجرى التحقيق يُشير بوضوح إلى أمرين أساسيين :
الأول: محاولة السلطة تمييع القضيّة، وتيئيس الناس، وعدم إعلان أيّة معلومات أو أية نتيجة واضحة للتحقيق.
الثاني: أن هناك ضغوطاً محليّة كبيرة للتأثير في مجرى التحقيق، وصولاً إلى إغفال الحقيقة أو تعميتها وتجهيل الفاعل…وهو بات نهجاً ثابتاً لأطراف السلطة في تعاملهم مع كلّ الجرائم التي تحصل في لبنان، وليس فقط في ما يتعلّق بتفجير مرفأ بيروت.
بدءاً من اغتيال الضابط الجمركي جوزف سكاف قبل ثلاث سنوات من التفجير… ثم اغتيال المصوّر إيلي بجاني في وضح النهار… والمخزي أكثر أن كاميرات المراقبة صوّرت عمليّة اغتيال المرحوم البجّاني بأشخاصها وأدواتها…ومع ذلك، لم يكشف عنها شيء… اللافت أن كلّاً من جوزف سكاف وإيلي بجاني كانت لهما صلات ما بالمرفأ وما فيه… سكاف كان موظّفاً فيه، والبجّاني نشر صوراً ذات صلة بالتفجير.
والمعروف أيضاً أن الباحث لقمان سليم اغتيل بعيد مقابلة تلفزيونية له قال فيها إن مادة النيترات المتفجرة كانت تنقل تباعاً إلى سورية ليستخدمها النظام في البراميل المتفجّرة التي كان يُلقيها على المدنيين والأحياء السكنيّة والمستشفيات.
الثابت أن رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب منع من تفقد المرفأ صبيحة يوم تفجيره والمعلومات المتداولة أن مسؤولاً أمنياً في جهة محليّة نافذة منعه من ذلك.
والثابت المعروف أن تهديدات للقاضي صوان أجبرته على التخلّي عن ملف التحقيق، ثم تتوالى التهديدات من أطراف محليّة نافذة في السلطة للقاضي طارق البيطار لتكبيله والتضييق عليه باتهامه بتسييس التحقيق مسبقاً دون وجه حق.
إن تمييع التحقيق وتجهيل الفاعل وتهديد القضاة يُشير بوضوح إلى وجود أطراف محليّة نافذة متضرّرة من إظهار الحقيقة، وهذا يعني أنها ضالعة في التفجير بطريقة ما، أو تتحمّل مسؤوليّة ما في تخزين النترات واستخدامها؛ لذا تضغط وتهدّد بما تملك من ذراع أمنيّة عسكريّة لتكون النتيجة مبهمة لا تُسمي الفاعل المسؤول.
ويبقى السؤال الذي يطرحه كثير من اللبنانيين: أين هي القوى الأمنية الرسمية من كل ما يجري؟
وصف أحد المواطنين عبر الإعلام تفجير المرفأ بأنه عدوان عسكري مباشر على لبنان، وليس هذا قولاً خاطئاً. وحينما يسقط مئات اللبنانيين ضحايا للانفجار، وتدمّر أحياء بكاملها وتراث تاريخي عمراني عريق، وتشرّد مئات العائلات اللبنانية، فهذا يعني أنه أكبر من تفجير محليّ بل عدوان على لبنان الشعب والوطن بكل معنى الكلمة، بل عدوان عسكري مباشر؛ وهذا يعني أن الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية هي المعنية مباشرة بالحدث وقبل غيرها من ألأطراف والأجهزة. فلماذا لم تتحرّك حتى الآن؟ ولماذا لم تبادر إلى تحمل مسؤولياتها المباشرة في الدفاع عن الشعب والوطن وحمايتهما؟
كان الأجدر بها أن تتدخل مسبقاً، ومنذ علمها بالموادّ المتفجرة في المرفأ لمصادرتها ومحاسبة كلّ من له علاقة بها، لا سيّما أن علامات استفهام كثيرة وغموضاً كبيراً كان يلفّ كلّ ما يتعلّق بالباخرة والموادّ المتفجرة، ثمّ تفريغها وتخزينها في مرفأ بيروت!
لا أحد يقبل أن يُقال إنها لم تكن تعلم بقصة الباخرة والتخزين.. أو أن نيترات الأمونيوم المخزّنة غير خطرة، فتلك إهانة للقوى الأمنية ذاتها، فهي أفعل وأقوى من أن تكون كذلك. فلماذا لم تتصرّف حيال موادّ متفجّرة كفيلة بتدمير عاصمة الوطن كلها؟
إن القوى الأمنية التي تداهم مستودعات محليّة تخزّن مادة المازوت مثلاً، وهي مادّة غير متفجّرة ولا تشكّل خطراً على أحد؛ ولا تصادر مادة عسكرية متفجّرة خطيرة مخزّنة في أهمّ مرفأ حيويّ في العاصمة بيروت؛ فهذا يعني احتمالاً وحيداً، وهو أنها تتعرّض لضغوط كبيرة تشلّ إرادتها وتكبّل حركتها، فتمنعها من ممارسة مسؤوليّاتها الأمنية الوطنية…ولا يقبل أحد القول إنها لا تعرف ولا تريد، ولا يتوافر لها الإخلاص لوطنها، بما أعاق ممارستها لمسؤولياتها الأمنية المباشرة.
إنها إذن أمام ضغوط كبيرة منعتها من تلك الممارسة!
فهل لا تزال تلك الضغوط مستمرّة عليها؟
إن إجبار السلطة اللبنانية الفاسدة المجرمة للقوى الأمنية والجيش على مواجهة متظاهرين لبنانيين يحتجّون على انهيار أوضاع البلد المعيشية والحياتية كافة؛ يُشير إلى استمرار تلك الضغوط على الجيش لمنعه من ممارسة دوره الوطني النبيل وإغراقه في مواجهات محليّة ليست من مهمّاته.
فهل هي مجرد ضغوط محليّة أم أن إرادات خارجية ودولية أكبر من لبنان لا تزال فاعلة ومؤثرة بل مهيمنة على أصحاب القرار، إذا كان لا يزال هناك هامش لقرار محليّ؟ وهل تملك الولايات المتحدة المَقدرة على منع الجيش اللبناني من التحرّك الإيجابي المطلوب منه؟
إن ما جرى في شأن التنقيب عن الغاز والنفط في البحر المتوسط ومياهه اللبنانية ثمّ إغفال الموضوع نهائياً لمصلحة العدو الصهيوني الذي باشر التنقيب والاستخراج فيما تخرس السلطة اللبنانية عن أيّ كلام في الموضوع؛ كذلك السكوت التام عن موضوع ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة بعد توقّف مفاجىء لمفاوضات الاعتراف بدولة العدو من دون أيّ موقف وطنيّ واضح من أطراف السلطة كافة، بمن فيها الأطراف التي يلعلع إعلامها بالحديث عن رفض التطبيع، فيما هي تلتزم قواعد الاشتباك المتفق عليها.
إن التخلّي عن الغاز البحري والنفط وترسيم حدود الاعتراف والتطبيع والعدوان على لبنان بتفجير المرفأ قضايا مصيرية، على ضوئها يتحدّد مستقبل ومصير لبنان.
إن المعلومات، التي كشفها إعلاميّون وطنيّون تابعوا قضية الباخرة رودس والموادّ المتفجرة حتى تخزينها في مرفا بيروت، تشير إلى أجهزة أمنية خارجية عالية الخبرة والدقة قامت بترتيب الإخراج الاستخباراتي المأساوي لموضوع الباخرة، بالتواطؤ والتنسيق مع أطراف محليّة لبنانية، وربما هي جهاز الموساد الإسرائيلي.
إن تصريح الرئيس الأميركي ترامب فور وقوع التفجير يشير إلى دور “إسرائيلي” واضح في العملية كلها وصولاً إلى التفجير…إضافة إلى تبنّي “إسرائيلي” للعمليّة بعد قليل من وقوعها، ثمّ التراجع الفوريّ عن أيّ كلام حولها أميركيّاً وإسرائيليّاً.
كل هذا يشير إلى الصّلة المباشرة لما يجري في لبنان بالوضع في المنطقة العربية عموماً، والمشرق المحيط بفلسطين المحتلة تحديداً، حيث المطلوب صهيونيّاً تهجير أكبر عدد من السكّان بعد إنهاكهم بالهمّ المعيشي المرهق، وهو ما يتحقق بأيدي أدوات محليّة من السلطات المحليّة الفاسدة والمأجورة.
إن أغلبية اللبنانيين الساحقة ينظرون إلى الجيش اللبناني بثقة ومحبّة، ويعتبرونه المؤسّسة الرسميّة الوحيدة التي تشكّل أملاً لهم في إنقاذهم وإنقاذ الوطن كلّه من الانهيار التام والسقوط الأخير… وهم لذلك يعلّقون آمالهم على تدخّل منه سريع لاستلام زمام الأمور وإعلان خطة طوارئ إنقاذية سريعة وعاجلة بتشكيل حكومة نزيهة من كفاءات لبنانية شريفة وما أكثرها… وإلا، فإن الانهيار لن يستثني أحداً بمن فيهم القوى الأمنية والجيش الذي لا ينفك قائده الوطني المخلص عن توجيه النداءات إلى أطراف السلطة السياسية منبّهاً ومحذّراً من نفاد صبر المؤسسة العسكرية بعد نفاد مخزونها وميزانيّاتها. ولهذا، سيبقى اللبنانيون الشرفاء يأملون، بل يناشدون تدخّلاً للجيش اللبناني لإنقاذ نفسه ومؤسّسته وإنقاذ الشعب والوطن من سلطة فاسدة وعاجزة، ولا تريد أن تفعل شيئاً بل تتمادى في إنكار وجود الشعب وإسقاط أيّة مصلحة وطنية في كلّ مواقفها وممارساتها وكل ما تقوم به… وفي حقيقتها، هي تمارس عدواناً مباشراً على الشعب اللبناني مستهدفة إيّاه بحياته ووجوده، مما يستوجب تدخلاً إنقاذياً من المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحظى بثقة أغلبية اللبنانيي .
المصدر: النهار