د. أحمد سامر العش
تقاطعاتٌ أدبيةٌ قد تجعلُنا ندركُ تعقيدَ المشهدَ البشريَّ في الثورة السورية، ولعلَّ القارئَ حين يُضيفُ مسحتَهُ الشخصيةَ إليها يستطيعُ أن يخرجَ بصورة أقلَّ غَبَّاشَةً مما نراه الآن. فلنبدأْ هذه الرحلةَ في أعماق النفسِ البشريةِ علنا نجدُ ضالتَنا في الأدب بعد أن أضاعتِ السياسةُ والأيديولوجياتُ قبلتَنا !
يقدمُ أمينُ معلوف في رائعته الأدبيةِ «ليون الإفريقي» قصةَ الحسنِ بنِ محمدِ الوزانِ والمشهورِ بليون الأفريقي، أو يوحنا ليون الأفريقي، أو يوحنا الأسد الأفريقي، الذي اشتهرَ بتأليفِهِ الجغرافيِّ في عصر النهضةِ، ومن أشهر مؤلفاتِه “وصفُ أفريقيا” والذي سبق به رحلاتِ كلِّ الرحالةِ الأوروبيين بل كان ملهمَهم الأولَ. يريدُ أمينُ معلوف أن يصلَ إلى خلاصة دقيقةٍ في الصفحة الأخيرةِ من الرواية على لسان بطلِها حين يقول:
“وحاذرْ أن ترضخَ لرغبة الجمهورِ! فمسلمًا كنت أو يهوديًا أو نصرانيًا عليهم أن يرتضوك كما أنت أو أن يفقَدوك. وعندما يلوحُ لك ضيقُ عقولِ الناسِ فقلْ لنفسك أرضُ اللهِ واسعةٌ ، ورحبةٌ هي يداه وقلبه. ولا تترددْ قطُّ في الابتعاد إلى ما وراء جميعِ البحارِ، إلى ما وراء جميعِ التخومِ والأوطانِ والمعتقدات”.
يطرحُ الكاتبُ الفلسطينيُّ غسانُ كنفاني في مجموعته القصصيةِ “القميصُ المسروقُ” بعضَ القيمِ الجوهريةِ ، ويُلقي الضوءَ عليها بشكلٍ مفصّلٍ، فهي ليست قيمًا ثوريةً فقط، بل قيمٌ أخلاقيةٌ ضروريةٌ لنجاح كلِّ ثورةٍ ، ولا بدَّ منها من أجل حياةٍ مطمئنةٍ.
في قصةٍ ضمنَ المجموعةِ عنوانُها “قرارٌ موجزٌ”- وهي قصةٌ لا تتعدى خمسَ صفحاتٍ – يقدّمٌ كنفاني دروسًا فلسفيةً ونظريةً على لسان “عبد الجبار”، بطلِ القصةِ الذي يهوى الفلسفةَ، وينظرُ إلى الحياة على أنها مجردُ نظريةِ.
فيقولُ “عبدُ الجبار”، أو يقولُ كنفاني على لسان بطلِه، “إنّ ضربَ السجينِ هو تعبيرُ مغرورٍ عن الخوف”، و”إنّ الخيانةَ في حد ذاتِها ميتةٌ حقيرةٌ”.
على هذا المنوالِ تتابعُ المجموعةُ منحَ الدروسِ والعظاتِ التي بدت أشبهَ بخارطة طريقٍ للنضال الفلسطيني، لا سيما بالنظر إلى توقيتِ كتابتِها، بين عامي 1957 و1969، حين كان النضالُ الفلسطينيُّ بحاجة إلى منظرين يحمون القضيةَ من الخطأ، فمعيارُ الهزيمةِ أو النصرِ هو التمسكُ بالقيمِ التي حكى عنها غسانُ كنفاني.
لقد تحولَ القلمُ بين يدي أدباءَ فلسطينيين إلى سلاح لا يقلُّ عن الأسلحة التي يستخدمُها المقاتلُ الفلسطيني في مواجهة إسرائيلَ، ومن هؤلاء كان الكاتبُ الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اغتاله الموسادُ الإسرائيليُّ في 8 من تموز 1972 في بيروت، بعبوة ناسفةٍ وُضعَتْ في سيارته الشخصيةِ.
لقد علّقت رئيسةُ الوزراء الإسرائيليةِ آنذاك على حادثة الاغتيالِ بالقول، “اليوم تخلصْنا من لواء مسلحٍ، فغسان بقلمه يشكلُ خطرًا على إسرائيل أكثرَ مما يشكلُه لواءٌ مسلحٌ”.
في تلك المجموعة المكوّنةِ من ثماني قصصٍ، لا يناقشُ كنفاني القيمَ الأخلاقيةَ للثورات، فالقيمُ الأخلاقيةُ ثابتةٌ وصُلْبَةٌ لا تتماشى مع المرحلةِ بمقدار ما تسعى لتطويعها وإخضاعِها، لتثبتَ أنها أقوى من المتغيرات.
وبالنظر إلى توقيت كتابةِ هذه القصصِ، فهي تحملُ أسلوبَ الوصايا غيرِ المباشرةِ، وتقديمَ العبرةِ بالتلميح، فالحديثُ عن السرقة وسلوكياتِ أخرى وذمِّها، هو نهيٌ عنها، ودعوةٌ إلى تجنبها، دونَ تشكيكٍ بقابلية القارئِ لاتباع السلوكياتِ الخاطئةِ التي ركّزَ عليها كنفاني.
الخيرُ والشرُّ والأمانةُ والخيانةُ والانتهازيةُ والابتزازُ والصبرُ، كلُّ هذه الخلطةِ من القيم وأضدادِها، تبرزُ منذ القصةِ الأولى من قصص كنفاني، فيُجمّلُ الجميلَ، ويذمُّ القبيحَ ويعيبُه.ولكن هل يكفي تقديسُ القيمِ لتغيير المجتمعِ ونهضةِ الأمم؟؟؟؟!!!!!
على الرغم من رفض محمد الماغوطِ إجراءَ مقابلاتٍ صحفيةٍ في كثير من الأحيان، بسبب عدمِ تقبلِه “الاستجواب” من أي شخصٍ، على حدِ تعبيرِه، فإن الروائيَ خليلَ صويلح عام 2002 أصدرَ كتاب “اغتصاب كان وأخواتها” وفيه مجموعةُ حواراتٍ أُجريت سراً مع الكاتب محمدِ الماغوط ومنه نأخذُ هذا المقطعَ:
“في سوريا، “ستُسجنُ وتُهانُ وتُعذبُ بسبب فكرةٍ، هذا ما جعلني أشعرُ أن شيئًا تحطمَ في أعماقي غيرَ الأضلاع، شيئًا أهمَّ من العظام، لا يمكنُ ترميمُه على الإطلاق، إذ لو أنني استعملْتُ عكازًا لكل عضوٍ مُحطَّمٍ في أعماقي لاحتجْتُ إلى منجرة قربَ بيتي”.
الكاتبُ النمساويُّ الشهيرُ ستيفان زفايغ Stefan Zweig( 1881- 1942 )، ضِمنَ روايةِ “السرُّ الحارقُ Burning Secret, 1913” يحاولُ تقديمَ تصويرٍ أنيقٍ ومرتبٍ للعلاقات البشريةِ بفوضويتِها وتناقضاتِها وعدوانيتِها الهادئةِ، وتقريبَ هذه المفاهيمِ الاجتماعيةِ بعاطفتِها والدوافعِ الخفيةِ وراءها، هذه الدوافعُ التي تُكوِّنَ السرَّ الحارقَ أصلًا.
تحملُ العلاقاتُ البشريةُ وأساليبُ بنائِها الكثيرَ من التعقيدات المبنيةِ على طبيعة العلاقةِ القائمةِ أو المنشودةِ، فالعلاقاتُ الندّيةُ التي يتساوى فيها طرفانِ أو عدةُ أطرافٍ تختلفُ ببنيتِها عن العلاقات التي ينقسمُ فيها أطرافُ العلاقةِ بين أقوى وأضعف، وما إلى ذلك من الفوارق التفاضلية.وهذا يعطينا لمحة عن السر الحارق الذي كان ومازال يجمع الطبقة الحاكمة في سوريا مع باقي الأفراد المحرومين، وكيف تعثر هذا السر الحارق عندما تحول الأمر إلى علاقة ندية بين أبناء الثورة الواحدة.
العالمُ ليس ورديًا في رواية “السر الحارق” ذلك أن المجتمعَ البشري لا يلقي بالًا للمبادئ دائمًا، وأن شيئًا وحشيًا قد يستيقظُ داخلَ الفردِ في وقت ما ليحوله إلى شخص آخرَ، ويدفعَه لتحقيق أهدافِه بمعزل عن القيم الأخلاقيةِ ، خاصة حين يتحولُ الشخصُ من قائد لهدفه إلى أداة لتحقيقِ الهدفِ، ما يعني سموَّ ما هو غيرُ بشريٍّ على البشري.
تُعَدُّ روايةُ “المعطف “The Overcoat- التي كتبها الروائي الروسي نيكولاي غوغول (Nikolay,Gogol,1809-1852) والتي صدرت عام 1842 ، واحدةً من أبرز القصصِ الواقعيةِ في الأدب الروسي، والتي أسهمَتْ في تعزيز لقبِ “خالق الواقعية الأدبية” لغوغول.
يركزُ غوغول في الفكرة والتفاصيلِ على المظاهر الماديةِ وعلاقتِها بالشخص، والمحيطين به، والأحكامِ التي يطلقونها بناءً على ما يبدو أمامَ عيونهم من مظاهرَ قد لا تعبرُ عن الحقيقة كاملةً على الأقل، إن عبرت عنها أصلًا.
أكاكي أكاكيفيتش، بطلُ هذه القصةِ وصاحبُ المعطفِ وضحيةُ الأحكامِ المسبقةِ التي تُبنى على النظرة فقط، موظفٌ في إحدى الدوائرِ الرسميةِ، يعاملُه زملاؤه بأسلوب لا ينمُّ عن احترام، بمقدار ما فيه من تصغير وتحقير.
يعاني أكاكي من هذه النظرةِ التي تغذيه بالضعف أكثرَ، وتبقيه في دوامة نفسيةٍ غيرِ مريحةٍ، إلى أن يأتيَ المعطفُ، فحتى يتخلصَ أكاكيُّ من نظرة الشفقةِ والتحقير، تلك النظرةُ التي تخلو من الندّية، يشتري معطفًا ثمينًا وأنيقًا ويذهبُ إلى العمل في اليوم التالي مرتديًا المعطفَ الأنيقَ، فيلاحظُ دونما جهدٍ فارقَ المعاملةِ والأسلوب، بين الأيامِ والسنواتِ الماضيةِ، وبين اليومِ الذي ارتدى فيه المعطفَ.
الكثيرُ من الاحترام والتعاملُ الراقي والنظراتُ المريحةُ، والكثيرُ أيضًا من السلام في التعامل، كلُّ ذلك جاء بفضل المعطفِ وعلى شرفه.
والمعطفُ هنا أبعدُ من قطعة قماشٍ مصنوعةٍ بمقاساتٍ محكمةٍ ومتوازنةٍ، فهو مرآةٌ لأفكارِ الآخرينَ عن غيرهم، وهو ملجأُ أكاكي الذي أخفى داخلَه ضعفَه وقلةَ ثقتِه بنفسِه، وشخصيتِه المسحوقةِ.
لقد أشار الكاتبُ إلى هذه الفكرةِ من خلال التنويهِ إلى أن ما يرتديه أكاكي تحت المعطفِ هو عبارةٌ عن ملابسَ باليةٍ، ولكن الناسَ اكتفوا بالمظهر ليبنوا أحكامَهم، فحين يعودُ أكاكي لارتداء زيِّه القديمِ مجبرًا، وحين تجرّدُه الحياةُ من معطفه الذي يقيه نظراتِ الناسِ القاسيةَ، تعودُ المعاملةُ القديمةُ والتحقيرُ والإهانةُ إلى ما كانت عليه قبلَ المعطف.يُذكرنا معطف أكاكي أكاكيفيتش بالمناصب والوظائف والامتيازات التي حازَها من عمل بالثورة السورية ،عندما أصبح المعطف هو الهدف! ضاع كل شيء.
واخيراً روايةُ الأميرِ والفقيرِ في الأدب الأمريكي من تأليف الكاتب مارك توين: Mark Twain)) والتي تحكي عن ولدٍ من طبقة العامة ِويشبهُ الأميرَ إلى حد كبيرٍ وفي يوم من الأيام يلتقي الفقيرُ مع الأميرِ ويأخذُ كلٌّ منهما مكانَ الآخرِ فيذهبُ الفقيرُ إلى القصر ويحلُّ الأميرُ محلَّ الفقيرِ الذي عادة ما يقومُ بالتسول , لقد كرست تلك القصةُ ذهنيةَ الليبراليةِ الغربيةِ وعكست سيكولوجيةَ الامبراطوريةِ الغربيةِ التي بنيت على فكرة السيدِ والتابعِ وركزتْ على ضرورة نقاءِ الدمِ الملكي وخضوعِ البشرِ لذلك الدمِ المصطفى بقرار إلهي . هذا ما نجده في باطن العقلِ اليهودي , والملكي الغربي , وحتى النخبوي الأمريكي فكما ذكرنا سابقاً أنه حتى بالنسبة للاباء المؤسسين كان الشعبُ الأمريكي يتمثل في الرجل الأبيض المتعلم فقط وليس الهنديَّ الأحمرَ أو أصحابَ البشرةِ السمراءِ, وكذلك الشيعةُ الاثني عشرية , بل وحتى بعضُ المدارسِ السنية التي تضفي القدسيةَ على بعضٍ دون بعضٍ.قصة الغني والفقير عشناها قبل الثورة السورية وأثناءها وبعدها في عقلنا الباطن وفي تصرفاتنا وعلاقاتنا البشرية حين يكون أحد الأسئلة المحورية التي تشكل اساس علاقاتنا الإنسانية ومحدتاتها: أين تسكن؟ وهل أنت ابن مدينة أم ريف ؟ وهل رمتك الأقدار لتكون الأمير أو الفقير في القصة!
قد لا يعطي هذا البحثُ أجوبةً شافيةً للمشهد السريالي السوري, ولكنه يعطي وقفةً تأمليةً الى أين , ومتى , وكيف ,ولماذا علينا أن نعملَ ؟ حتى نستوعبَ الدرسَ ,لنأخذَ كلامَ جيفري لانغ Jeffrey Lang في تحليله للقرآن حيثُ يقولُ: إن 3% من القرآن يتحدثُ عن أوامرَ ونواهيَ,لكن 97 % من القرآن يتحدثُ عن الأخلاق والعلاقةِ بين اللهِ والإنسانِ, الهدفُ من الحياة , الفضيلة,تاريخ الأمم السابقة, وكذلك يعلمُنا كيف نحاسبُ أنفسَنا, وكيف نستخدمُ العقلَ والإيمانَ. يقول جيفري عندما دخلتُ الإسلامَ انهالوا علي بالقواعد ولو أني لم أدرسْ هذا الدينَ بنفسي لتركته من اليوم التالي! يقول جيفري إن علينا أن نبدأَ باتباع النموذجِ الذي وضعَه الله بنفسِه من خلال الرسولِ الأكرمِ صلى الله عليه وسلم وهو أن لا نبدأَ بالقواعد الصارمةِ بل بالاستيعاب والفهم العميق للمشاعرِ الإنسانيةِ . ويستشهدُ جيفري بقِصَّة الأَعْرابِيُّ الذي بَالَ في المَسْجِد فهمَّ الصحابةُ بقتلِه فقال لهم رسولُ الله “دعوهُ لا تُزرموهٌ وأريقوا على بوله سجلاً من ماء فإنما بعثتُم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (رواه البخاري ) “. قد يكونُ الأدبُ وفنُّ صناعةِ الحياة وتفكيكُ النفسِ البشريةِ وعلاقاتُها المزدحمةُ هي مايحتاجُه المشهدُ السوريُّ أكثر من القواعدِ والأيديولوجيات وبرأي جيفري لانغ -وهو محق في ذلك- لو اتبع الصحابةُ منهجَ اليومِ في فرض القواعدِ لما رأيْنا مسلمينَ في هذه الأيام.