عدنان علي
لم تثمر المفاوضات التي تجري منذ نحو شهرين برعاية روسية بين اللجنة الأمنية الممثلة عن النظام السوري وممثلي اللجان المركزية التي تضم وجهاء عشائر وشخصيات محلية من درعا البلد، عن أية نتائج بسبب إصرار وفد النظام على تحقيق كامل مطالبه وأهمها تسليم كامل السلاح، وتهجير المطلوبين للنظام إلى الشمال السوري، إضافة إلى نشر حواجز أمنية للنظام داخل درعا البلد.
والواقع أن ما يجري في درعا يلخص إلى حد بعيد طريقة تفكير النظام، وفلسفته في الحكم، القائمة على سطوة القوة، ثم محاولة تفتيت المجتمعات التي يحكمها ليضمن هيمنته عليها، فضلا عن “العقيدة الثأرية” التي تتحكم ببعض مفاصله، حيث شكلت درعا بشكل عام، ودرعا البلد بشكل خاص، ومسجدها العمري بشكل أخص، تحديا لسطوة النظام منذ انطلقت منه شرارة الثورة عام 2011 وصولا إلى المسيرات الرافضة لانتخابات بشار الأسد الأخيرة.
وبسبب موقعها الجغرافي المحاذي لكل من الأردن وإسرائيل، فإن روسيا سعت حين سمحت لقوات النظام بالتقدم إلى محافظتي درعا والقنيطرة عام 2018، إلى تجنيبهما حملات عسكرية دموية وتدميرية كما فعل النظام في ريف دمشق وحلب وحمص ومجمل المناطق التي استعادتها قواته من فصائل المعارضة مستخدمة الطيران الحربي والبراميل المتفجرة وحتى الأسلحة المحرمة دوليا. وكان من شأن حملة عسكرية مدمرة أن تتسبب في موجات نزوح كبيرة من المحافظتين، ستكون وجهتهما بالتأكيد نحو الأردن وإسرائيل، وهو الوضع الذي لم يكن يرغب به أي طرف. ولذلك جاءت حملة النظام العسكرية “ملطفة” وتحت إشراف روسي مباشر، وأفضت إلى تسوية 2018 التي أبقت السلاح الخفيف بيد المقاتلين السابقين، وسط شكوك من النظام بأنه لم يتم أصلا تسليم كامل السلاح الثقيل والمتوسط، بل جرى دفنه في أماكن سرية.
كما أن بنود التسوية منعت قوات النظام من الدخول إلى المناطق التي خضعت للتسوية، مثل درعا البلد، وهو ما حرمها من التفتيش والتحري عن الأماكن المفترضة لإخفاء السلاح.
وخلال المفاوضات الجارية حاليا، طالبت لجنة التفاوض الممثلة لأهالي درعا الجانب الروسي بقيادة العماد أندريه بالعودة لاتفاق 2018، الذي ينص على تسليم السلاح الثقيل والمتوسط فقط، مقابل عودة الجيش إلى ثكناته، وإطلاق سراح المعتقلين وبيان مصير المفقودين والمغيبين قسرا، ورفع المطالب الأمنية عن كل من أجرى تسوية، وهي أمور لم يلتزم النظام بأي منها.
ومن خلال تجارب الماضي، سواء في درعا نفسها، أم المناطق الأخرى، فإن القائمين على التفاوض، ومن خلفهم معظم الأهالي في درعا، باتوا يدركون أنه لا يمكنهم تسليم كل أوراقهم للنظام حتى مع وجود وعود وضمانات روسية، لأن الروس سوف ينحازون في النهاية للنظام، كما حصل عدة مرات.
ولذلك، ثمة إجماع على رفض تسليم السلاح الخفيف، خشية وقوع مجازر وانتقام من ميليشيات النظام التي سوف تقتحم المنطقة، مطالبين بضمانات دولية لخروج جميع الأهالي والمقاتلين نحو الشمال السوري، في حال إخفاق جهود الحل.
ويحاجج النظام، ومعه روسيا، بأن الوضع الطبيعي هو أن يكون السلاح بيد “الدولة” فقط، وليس أية أطراف أخرى حفاظا على الأمن والاستقرار في المنطقة، لكن هذا يكون صحيحا فقط حين يكون هناك دولة حقيقية، وليس نظاما له تاريخ متكرر في الغدر والإجرام، وباتت تهيمن عليه الميليشيات الطائفية، فضلا عن القوى الخارجية، ولا يمكن تاليا الاستسلام الكامل لرغباته والتي لن ترتوي إلا بإذلال السكان الذين يعتبر أنهم بادروا بالثورة والتمرد عليه، وما زالوا بعد عشر سنوات يحافظون على هذه الروح المتمردة.
أضف إلى ذلك، فإنه يتضح من خلال المفاوضات التي جرت في الفترة الماضية أن هناك أجنحة وتيارات داخل النظام بين صقور وحمائم، حيث تعمل “الفرقة الرابعة” والمخابرات الجوية المقربتان من إيران على إعاقة المفاوضات، فيما لا ترغب روسيا والمخابرات العسكرية باستمرار التوتر في المحافظة. وحسب عدنان المسالمة، عضو لجان التفاوض المركزية مع النظام السوري، الناطق باسمها، فقد اتضح أن هناك بالفعل صراعا واضحا بين أكثر من جناح داخل النظام، حيث تبادر الفرقة الرابعة إلى القصف والهجوم كلما تحقق تقدم في المفاوضات ليتوقف كل ما تم الاتفاق عليه، معتبرا أن هناك تخبطا لدى أجهزة النظام السوري.
ولفهم الموقف الروسي حيال ما يحصل في درعا، لا بد من ملاحظة أنه في الأيام الأولى من التصعيد، كانت روسيا متوارية عن المشهد، وأعطت الفرصة للفرقة الرابعة والميليشيات التي تقاتل معها مثل “قوات الغيث” بقيادة العميد غياث دلا لفرض الحل بالقوة، لكن مع “النكسة” التي تعرضت لها قوات النظام بعد سيطرة مسلحي المعارضة على معظم حواجزها في ريفي درعا الشرقي والغربي، تقدمت روسيا للبحث عن حل سلمي مستعينة بمقاتلي “اللواء الثامن” التابع للفيلق الخامس المدعوم من قبلها، وهي قوة مشكلة من أبناء المنطقة، لكن النظام لا يستريح لها ولا يثق بها، ويرفض إعطاءها دورا رئيسا في الترتيبات الأمنية المقترحة للمنطقة.
والواقع أن ما يجري اليوم في درعا يثير الشكوك بشأن قدرة موسكو على لعب دور الوسيط بشكل فعال، حيث يحاول نظام الأسد إخضاع جنوب سوريا بالكامل لسيطرته، بدعم من إيران والمليشيات الموالية لها، وهو ما يهدد بتقويض مصداقية روسيا كوسيط بين النظام وخصومه، وكراع للحل السياسي في سوريا ككل. ومن هنا، فإن موقف روسيا يبدو دقيقا، فهي لا تستطيع دعم عمل عسكري مدمر في درعا عملت على تجنبه عام 2018، لكنها ترغب في الوقت نفسه في التمكين للنظام في هذه المحافظة، بعيدا عن التأثير الإيراني، حيث التزمت لكل من إسرائيل والأردن بإبعاد إيران وميليشياتها مسافة 80 كلم عن حدودهما، ولذلك من المرجح أن تتواصل الجهود الروسية على صعيدي لجم رغبة النظام، أو بعض القوى فيه، ومواصلة المساعي في الوقت نفسه للتوصل إلى حلول ترضي جميع الأطراف.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا