روبين نيبليت
حين قررت إدارة الرئيس جو بايدن في أبريل (نيسان) أن تسحب القوات الأميركية من أفغانستان قبل تاريخ 11 سبتمبر (أيلول) 2021، الذي يصادف الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، قوبل إعلانها باستياء أقرب إلى الغضب من المسؤولين الأوروبيين، الذين اعتبروا أنه لم تتم استشارتهم بشكل ملائم في هذه المسألة. ومع ذلك، شكّل التعاطي بتفرّد واستبداد أحياناً تجاه الحلفاء الأوروبيين سمة من سمات الإدارتين الديمقراطيتين الأخيرتين وليس الإدارات الجمهورية الأخيرة فحسب. وأقلّه، يمكن أن يجد واضعو السياسات الأوروبيون العزاء في أن الكادر الموجود في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون الآن يتألّف من مسؤولين كبار شديدي المهنية، يعرفون معظمهم لأنهم تقلّدوا مناصب أخرى سابقاً، وهؤلاء المسؤولين سيضمنون التوصّل إلى خاتمة ملائمة للتدخل الذي خاضته الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين منذ عقدين من الزمن في أفغانستان.
ثم حلّت الهزيمة الخاطفة للجيش الأفغاني على يد “طالبان”، وانهارت حكومة البلاد، وعمّت مشاهد الفوضى في المطار الدولي في كابول. ولم تكشف هذه الأحداث إساءة فهم واشنطن البالغة للوضع في أفغانستان فحسب ولكنها وضعت كذلك علامات استفهام حول الثقة الأوروبية بكفاءة إدارة بايدن. وما يثير القلق أكثر أنها أدّت إلى تشكيك المسؤولين الأوروبيين السابقين والحاليين وكبار كتّاب الأعمدة في قدرة الحكومات الأوروبية وحلفاء آخرين للولايات المتحدة على إيلاء أي إدارة أميركية، سواء كانت إدارة بايدن أو إدارة جمهورية مستقبلية، الثقة لكي تحترم التزاماتها الأمنية الخارجية في المستقبل.
من حسن الحظ أنّ خروج واشنطن المنقوص [المليء بالشوائب] والمُستعجل من أفغانستان لا يُنذربمفاقمة الشقاق في العلاقات بين ضفتي الأطلسي ولا بتقويض التزام واشنطن بتحالفات أساسية. ففي زمن تنامي المخاطر العالمية، سوف تواصل الولايات المتحدة وأوروبا تعميق التعاون المتجدد عبر الأطلسي الذي أتت به إدارة بايدن.
في الاتحاد قوة
أوضح بايدن منذ البداية أنّه سيعطي الأولوية لما سمّاه مستشار الأمن القومي جايك سوليفان وزملاؤه، عندما كان في مركز كارنيجي للسلام الدولي، سياسة أميركية خارجية للطبقة الوسطى- أي سياسة خارجية تدعمها مصالح غالبية الناخبين الأميركيين، أو تنسجم معها، وليس فقط مع الآراء المتوارثة للنخبة الأميركية في مجال السياسة الخارجية. وقد انعكست بعض جوانب هذه المقاربة الأميركية الجديدة من خلال الانضمام مجدداً إلى اتفاق باريس للمناخ مع الإبقاء على الرسوم الجمركية المفروضة على الصين، وبدرجة أقل، على أوروبا. أمّا إنهاء التدخّل الأميركي “الأبدي” في أفغانستان، فشكّل اختبارها الحقيقي واستمرارية منطقية لما بدأ مع إدارة الرئيس دونالد ترمب.
قد تُعتبر هذه المقاربة للسياسة الخارجية الأميركية التي تركّز بشكل أكبر على الداخل منطقية في ظلّ المناخ السياسي الحالي. لكن ما الذي قد يدفع بالحكومات الأوروبية وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة إلى الافتراض بأنّ الطبقة الوسطى الأميركية معنيّة بأمن لاتفيا وليتوانيا، أو تايوان حتى، أكثر من أمن أفغانستان؟ وطالما استطاع بايدن أن يسارع إلى إلقاء اللوم على قادة أفغانستان لعدم مقاومتهم “طالبان”، فما الذي يمنعه من القيام بالمثل والتقليل من أهمية مخاوف الحكومات الأوروبية التي تنفق بالمعدّل ما يزيد على واحد في المئة من إجمالي ناتجها المحلي في سبيل الدفاع عن نفسها أمام روسيا وتهديدات أخرى في جوارها فيما ما زالت تعتمد بشكل مفرط على المظلة الأمنية الأميركية؟ وهذه الأسئلة هيمنت على العناوين منذ سقوط كابول المذهل، لكنها تُخطئ الهدف لثلاثة أسباب.
أولاً، لن تحوّل الأحداث التي وقعت في أفغانستان حتى اليوم تركيز إدارة بايدن عن مجابهة التحدّي الأول في السياسة الخارجية بالنسبة لها: وهو إدارة [تدبر ما ينجم عن] صعود الصين. وفي الواقع، يشكّل الانسحاب من أفغانستان محاولة واعية وقاسية لإعادة تركيز أولويات الولايات المتحدة الاستراتيجية بعيداً من الشرق الأوسط الأوسع، وباتّجاه المحيط الهادئ. والأهم بالنسبة للأوروبيين هو إدراك إدارة بايدن خلافاً لإدارة ترمب أنّه لا يمكن التعامل مع التحدّي الصيني بنجاح سوى بالتعاون مع الحلفاء. ولحلفاء واشنطن أهمية جوهرية في هذه الاستراتيجية- طبعاً، ليس بسبب موقعهم الجغرافي، إنما بسبب العلاقات الحيوية التي تربط الصين بالاقتصادات الأوروبية وبسبب الصوت القوي الذي تملكه الدول الأوروبية في المؤسسات المتعددة الأطراف حيث تحاول الصين إعادة صياغة القوانين الدولية التي تحكم التجارة والاستثمار وحوكمة التكنولوجيا. والانقسام بين ضفّتي الأطلسي يُضعف سياسة الولايات المتعلقة بالصين، بينما يساعد التزام الولايات المتحدة بالعلاقة مع الضفة الثانية من المحيط الأطلسي في كسب الدعم الأوروبي.
إنّ بعضاً من الثمن غير المعلن الذي تطلبه أوروبا لقاء مساعدتها الولايات المتحدة في معالجة مسألة [جبه خطر] الصين هو استمرار الانخراط الأميركي مع أوروبا في موضوع إدارة [تولي ملف] روسيا، أي التهديد الأقرب والأكثر استدامة على مصالح حكومات أوروبية كثيرة. ولم يعترض بايدن على هذه المقايضة. بل على العكس، فقد استغلّ لقاءه بقادة آخرين في حلف الناتو ضمن اجتماع القمة المنعقد في 14 يونيو (حزيران)، إضافة إلى اجتماع منفصل مع قادة دول البلطيق، بهدف التشديد على التزام الولايات المتحدة بالأمن الأوروبي وبالبند الخامس من ميثاق الناتو الذي يُلزم الدول الأعضاء باعتبار الهجوم على أحد الحلفاء هجوماً على الجميع، فيما اتّفق الزعماء الأوروبيون للمرة الأولى على تسليط الضوء على الصين في البيانات الصادرة عن الناتو وعن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ثانياً، عوض أن تنذر بحصول شرخ في التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها، وانكفائها إلى ما وراء حدودها، من الأرجح أن تُلزم طبيعة الكارثة العلنية في كابول- مع ما تحمله من أوجه تشابه مع الانسحاب الأميركي من فيتنام في عام 1975- بايدن بتقديم براهين على أن الولايات المتحدة “عادت” إلى المواقع المهمة الحيوية على الساحة العالمية فعلاً. وهي بشكل أساسي إلى جانب الزعماء الأوروبيين، فيما تنفّذ إدارة بايدن التعهدات التي قطعتها خلال اجتماعات قمة يونيو (حزيران) في أوروبا، مثل تلك المتعلقة بإنشاء المجلس الأوروبي – الأميركي للتجارة والتكنولوجيا، وفريق العمل الأوروبي-الأميركي المعني بسلسلة التصنيع والإمداد المرتبطة بكوفيد، والمساهمة في مشروع الاتحاد الأوروبي بشأن تسريع حركة القوات العسكرية في أوروبا. ومن الأرجح أن تشدّد إدارة بايدن أكثر كذلك على عمليات حرية الملاحة الأميركية في بحر جنوب الصين، وتقيم التعاون الصناعي في مجال الدفاع مع الهند، وتضاعف جهودها في سبيل إرساء أسس مؤسسية لمجموعة دول “كواد” Quad ، الحوار الأمني الرباعي، في وقت لا غنى عن أستراليا والهند واليابان من أجل الحدّ من تنامي نفوذ الصين في جنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا.
وثالثاً، باتت الحكومات الأوروبية متورطة بشكل لا رجعة فيه بنجاح إدارة بايدن بغض النظر عمّا قد يجري في أفغانستان. تعرف كافة الدول الأوروبية تقريباً، بما فيها أكبرها – أي فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة- أنها بحاجة لتجديد الشراكة العابرة للأطلسي في مواجهة الصين وروسيا اللتان أصبحتا أكثر حزماً وعدوانية. كما أنّ الولايات المتحدة شريك أساسي في مواجهة أكثر القضايا العالمية إلحاحاً في أذهان الحكومات والمواطنين الأوروبيين- وأوّلها، تحدي كبح ارتفاع حرارة المناخ عالمياً. لن يسمح الأوروبيون لأفغانستان أو الفشل الذريع في كابول بإلهائهم طويلاً عن العمل مع الولايات المتحدة تحضيراً للمؤتمر المحوري المقبل الذي تعقده الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ في غلاسكو في نوفمبر (تشرين الثاني).
وفيما أعادت كارثة أفغانستان التذكير، كما هو متوقع، بأهمية تحقيق “استقلالية استراتيجية” أكبر في أوروبا، لن تكون هذه الاستقلالية بالضرورة على حساب التعاون عبر الأطلسي. في بعض المجالات، مثل تنظيم الأسواق الرقمية والمالية، على الأوروبيين تعميق التنسيق والتعاون في ما بينهم، إجمالاً من أجل التفاوض بشكل أكثر فعالية مع الولايات المتحدة. وفي مجالات أخرى، عليهم ببساطة أن يتحملوا مسؤولية جماعية أكبر إزاء مصالحهم الخاصة، مثل تلك في شمال أفريقيا، والساحل وشرق المتوسط. والأمر نفسه ينطبق على مستقبل أفغانستان، نظراً لأنها ستكون مصدراً لعدد متزايد من اللاجئين والمهاجرين باتجاه أوروبا وقد تصبح من جديد حاضنة للإرهاب الدولي، ما لم يستقرّ الوضع هناك بسرعة. ومن شأن الخطوات المُتّخذة في سبيل التصدي لهذه المخاطر أن تجعل الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية الأوسع مكمّلة لعلاقة أقوى عبر الأطلسي.
ما يتبقّى فقط هو مسألة استغلال خصوم الولايات المتحدة لحظة الإذلال الأميركي هذه بشكل يفيدهم. ولا شك أنهم سيحاولون ذلك. وصف محرر صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية بالفعل انتقال السلطة في أفغانستان بأنه “أكثر سلاسة” من انتقال السلطة بين إدارتي ترمب وبايدن. فيما كانت الحكومة الروسية من جهتها أكثر حذراً، فعبّرت عن خشيتها من أن تتحوّل أفغانستان من جديد في ظل حكم “طالبان”، إما عن قصد أو بغير قصد، إلى ملجأ للجماعات الإرهابية التي قد تشكّل التهديد نفسه على موسكو كالذي تشكله على واشنطن، إن لم نقل أكثر.
ما زالت الأفضل
لكن كما لم يعرقل انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام مسارها إلى الهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية في القرن العشرين، لن يكون خروجها الفوضوي من أفغانستان بالضرورة مؤشراً إلى تدهور الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. إن السلطة في العلاقات الدولية أمر نسبي دائماً. وبعبارات نسبية [قياساً على المتغيرات النسبية البعيدة عن الوقائع المطلقة]، لدى الولايات المتحدة ميزات أكثر بكثير من الناحية الهيكلية والاجتماعية من خصميها الجيوسياسيين الرئيسيين، لا سيما إن عملت بشكل وثيق مع حلفائها لتحقيق أهدافهما المشتركة.
لا داعي أن تشغل النهاية الفوضوية للحرب الأفغانية إدارة بايدن عن السعي لتحقيق أولوياتها المشتركة مع شركائها الأوروبيين وعليها عوضاً عن ذلك أن تدفع بكل من الطرفين إلى إثبات التزامه المستمر بأمن الطرف الآخر. فالمبادرات الجديدة التي أرستها إدارة بايدن مع حلفائها الأوروبيين والآسيويين خلال الأشهر الستة الأخيرة واعدة وتُبشر بأن تكون أكثر أهمية بكثير بالنسبة لمستقبل الأمن عبر الأطلسي وفي المحيطين الهندي والهادئ من إرث إخفاقاتها في أفغانستان.
*روبن نيبليت، المدير التنفيذي لتشاتهام هاوس، المعهد الملكي للشؤون الدولية.
مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب) 2021
المصدر: اندبندنت عربية