د.ناصر زيدان
الموحدون المسلمون الدروز منتشرون على مربعٍ جغرافي يحمل عناصر قوة جيوسياسية وازنة في منطقة حيوية شاهدة على أبرز محطات التاريخ، بدءاً من الفتح العربي مروراً بالصراع على القدس وعلى سواحل بلاد الشام وصولاً الى يومنا هذا الذي يحفل بالأحداث الكبيرة ويحمل ملامح ترتيبات ذات أبعاد إستراتيجية. وعلى بقعة تقاطع المربع الفلسطيني – الأردني – السوري – اللبناني؛ يعيش الدروز بأراضيهم الواسعة بأعداد متواضعة في قرىً ودساكر تُشبه القلاع، يصعب زحزحتها، وهي متمردة على السياقات المتعارف عليها، بمعنى أن الدروز غير معتادين على النزوح او الترحال من أرضهم مهما إشتدَّت الصعوبات وقست الظروف.
تراجع تأثير الدروز السياسي والعسكري خلال المرحلة الماضية جراء التشابك الدولي والإقليمي على الساحة الشرق أوسطية، وبسبب نشوء الكيانات الوطنية المستقلة التي إعتمدتها تقسيمات سيكس – بيكو ووزعت قوة الدروز على الأقطار العربية الأربعة، لكن ذلك لم يُلغِ قوة الخصوصية الدرزية – وعلى وجه التحديد في لبنان وفي جنوب سوريا – لأن مجهودات بناء الدول الوطنية المدنية التي تذوب فيها الطوائف؛ أصابها الفشل، ولأن الدروز ما زالوا يتمتعون بمناعة عقائدية وعروبية واجهوا بها غالبية المشاريع التي حاولت تطويعهم لمصلحة مقاربات لا يستسيغونها، وأهمها مشروع حلف الأقليات ضد الأكثرية السنية، ومشروع جعلهم حرس حدود للكيان الإسرائيلي الغاصب، ولم تنجح مغريات الأنظمة المتعاقبة في لبنان وسوريا في تدجينهم، وفي تحويلهم مجرد مجموعات شجاعة من دون هوية سياسية تتحرَّك غب الطلب لخدمة الحاكمين.
من الواضح أن شيئا ما يحصل في جنوب سوريا يهدف الى ترسيخ حالة سياسية جديدة بتوافق روسي – ايران – اسرائيلي – أميركي، وربما بتعارض مُنظَّم بين هؤلاء، وأحياناً التعارض في الظاهر يُستعمل لخدمة المصالح الدولية، أكثر مما يستعمل التوافق، والنظام في سوريا ليس بعيداً عن مسرح الأحداث، لأن مصلحته قد تتوافق مع الطموحات الخارجية، او أنه جزء من هذه الطموحات او شرطي لحمايتها. وقد حاولت الأطراف المذكورة آنفاً الإستثمار بالورقة الدرزية لضمان ترتيبات جنوبية سورية استراتيجية، وهذا الإستثمار غالباً ما يزيد من تهميش الحالة الدرزية، وتهشيم مرجعياتها الدينية والسياسية وتذويبها لتكون فرعاً مطواعاً في خدمة الأصل وليست شريكاً مؤثراً معه.
والأبرز في حلقة تدمير او تفكيك الحبل الفولاذي الدرزي؛ كان استهدافهم في لبنان، من خلال تشجيع ظواهر الفرقة بين أبناء العشيرة من جهة، والتعامل مهم كمكمِّل لإحدى المكونات اللبنانية، او كتفصيل لا بد منه، ولا ثأثير له، كما أن الهياج العوني منذ العام 2016 حتى اليوم؛ هدف الى تشليحهم بيضة القبان التي يحملونها منذ زمنٍ بعيد في جبل لبنان، وبالتالي تحويلهم شركاء ضعفاء ليس لهم مقدور التعديل على الخطط المستقبلية التي قد تكون قيد التحضير لمستقبل لبنان، وربما يكون أحد هذه الخطط العودة الى أفكار “متصرفية”، وجولات النائب جبران باسيل على المناطق، والتي سببت توترات وأحداثا متعددة في السنوات الماضية؛ قد تكون حملت مثل هذه الأهداف، وخطابه في 24 آذار (مارس) 2019 في دير القمر ذكَّر بأحداث تاريخية أليمة سبقت نشوء المتصرفية. ومن المعروف أن الدروز ليسوا شركاء أقوياء في توزيع المغانم اللبنانية، ولكنهم الأقوى على الإطلاق عند توليف أي توزيعة جديدة للسلطة او للكيان، لأنهم آباء الفكرة اللبنانية، والأبوة لا تتبدَّل مع الزمن.
والتنازُع على السيطرة على الجبل لا تقتصر على طموحات بعض المغامرين العونيين، بل أنها رؤية قوىً أخرى تريد تطويع الجبل كساحة خلفية لـ ” المقاومة ” وهذه القوى لا ترى نفسها ممسكة بناصية القرار اللبناني بالكامل؛ إذا ما كان الجبل خارج قيودها، او أنها لا تملك حرية حركة مطلقة فيه، خصوصاً في ظل ظروف سمحت لها بتطويع المشروعية الحكومية لخدمة أهدافها. ومن هذه الحلقة يمكن الإنطلاق الى ايجاد التفسيرات المعقولة للخطط التي تستهدف إضعاف رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط، كونه نقطة البيكار في الطاحونة السياسية الجبلية، وحوله تدور الدوائر، لكنه بدا أنه عصيٌ على التطويع، ولديه قدرة هائلة على إمتصاص الصدامات والتكيُف مع التحامل ومحاولات الإلغاء، خصوصاً لأنه يمثل ما يزيد عن 75 في المئة من الناخبين الدروز وفق نتائج آخر إنتخابات جرت في ايار( مايو) 2018.
وما حصل على الساحة الدرزية اللبنانية في المدة الأخيرة يخدم تبني هذا التفسير السياسي. فقد بادر جنبلاط على تقديم تنازلات هائلة في سبيل تدعيم مكانة الدروز ووحدتهم في ظل ضائقة مالية ومعيشية لم يسبق لها مثيل، وهو أعدَّ لإجتماع في منزل النائب طلال ارسلان في 26 تموز( يونيو) في خلدة وبحضوره مع شريك ارسلان الوزير السابق وئام وهاب فقط، واتفق معهم على إجراء المصالحات كخطوة أولى لإنهاء ذيول التوتر في مدينة الشويفات وفي قبرشمون، والإنطلاق من هذه المصالحات لتفاهمات على الملفات الدرزية الأخرى، ومنها إنتخاب شيخ عقل جديد للطائفة بعد أن إنتهت ولاية الشيخ نعيم حسن. لكن جنبلاط فوجيء ببيان من عائلة الضحيتين المحسوبتين على النائب ارسلان ترفضان فيه المصالحة، بينما كان جنبلاط قد أكمل مصالحة في دميت الشوف مع وهاب في 9 آب ( أغسطس). وأعقب تراجع مؤيدي ارسلان عن إلتزام أول بنود لقاء خلدة؛ زيارة أرسلان للرئيس السوري بشار الأسد مع وفد درزي كبير، أكدوا خلاله التزامهم الخط السياسي الذي ينتهجه الأسد، وهو ما يتعارض مع موقف جنبلاط، وتلا ذلك تقديم لائحة أسماء لمرشحين لمقام شيخ العقل من الصف الثالث او الرابع (اعترف الوزير وهاب بأنها كانت بمعرفة قيادة الحزب الديموقراطي) وهؤلاء غير محضَّرين لتولي المنصب، ولا يمكن لأي منهم حالياً إدارة أهم موقع درزي رسمي على الإطلاق، وطرح مثل هذه الأسماء كانت بما يشبه الإشارة الى رغبة كامنة تقضي بتهميش الموقع، خصوصاً لكون مشايخ الهيئة الروحية التقاة لا يتدخلون في الشؤون السياسية، ولا يرغبون بتولي المناصب.
إلتقط جنبلاط إشارة العرقلة، وعاد بهدوء الى المربع الأول من دون أي استفزازات او مساجلات، وأيد ترشيح الشيخ سامي ابو المنى لتولي الموقع، وأيدت ترشيحه الغالبية الساحقة من أعضاء المجلس المذهبي الدرزي المنتخبين، كما أنه يحضى برضى غالبية رجال الدين، وابو المنى مشهود له بالقدرة الدينية والعلمية والثقافية والإجتماعية، وتوليه للمنصب حسم محاولات التهميش الذي أرادها البعض لمقام مشيخة العقل، وفي ذلك يكون الدروز قد تخطوا الإستحقاق الأهم من التحديات الوازنة التي تنتظرهم.
المصدر: النهار العربي