أندرو بانكومب/ كيم سنغوبتا / بورزو درغاهي/ ريتشارد هول / ريك غارسيا / سانشاين فلينت
تنظر “اندبندنت” في الأسباب التي أبقت صدى تلك الضربات يتردد على المستوى العالمي طيلة عشرين سنة. غالباً ما يطرح الناس سؤال “أين كنت يوم 9/11؟”. وبالنسبة إلى جيل كامل، شكّل ذلك اليوم علامة فارقة في حياتهم، ليس على المستوى الفردي فحسب، بل الجماعي أيضاً، وذلك من خلال طبيعته الشاملة. إذ يتذكر كل فرد في العالم أين كان يوم وقوع الحدث، على غرار ما تتذكر الأجيال السابقة اللحظة التي تلقت فيها خبر اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون فيتزجيرالد كينيدي.
فقد قضى في ذاك اليوم نحو 3 آلاف شخص نحبهم على أيدي خاطفين ينتمون إلى تنظيم “القاعدة”، تمكنوا من الاستيلاء على أربع طائرات ركاب، ضربت اثنتان منها البرجين التوأمين لـ”مركز التجارة العالمي” في نيويورك، فيما ضربت الثالثة مبنى وزارة الدفاع الأميركية، وتحطمت الطائرة الرابعة في حقل بولاية بنسلفانيا.
والواقع أن جزءاً كبيراً من ذاكرتنا المتعلقة بذلك اليوم، يتركز على مدينة نيويورك التي تدمرت أجواءها المألوفة بسلسلة من الانفجارات وكراتٌ من اللهب، فيما لقي أناس حتفهم، وتحولت مبانٍ هائلة إلى رماد. ونتذكر رجال إطفاء شجعان اندفعوا لتقديم المساعدة، فيما راقب سكان مدينة نيويورك الذين غطتهم سحب الدخان والغبار، ما يجري وسط رعب شديد.
وكذلك وجد مراسل صحيفة “اندبندنت” في نيوريورك ديفيد أوسبورن الذي هرع إلى موقع الحادث، نفسه بين الأفراد الذين تزاحموا وتدافعوا بحثاً عن مكان آمن للاختباء، حينما هوى البرجان العملاقان في ذلك الصباح. وفي فجر اليوم التالي، جال في المنطقة التي أطلقت عليها تسمية “غراوند زيرو” Ground Zero [استُخدِم المصطلح قبلاً في وصف موقع انفجارٍ نووي، ولاحقاً للإشارة إلى مكان وقوع حدث عنيف أو درامي]. وآنذاك، كتب المراسل أوسبورن، “إذا حاولتم تخيل الشكل الذي يمكن أن يكون عليه الجحيم النووي، فقد شاهدته اليوم بأم عيني”.
لقد جعلت تلك المأساة أصداء هجمات تنظيم “القاعدة” تتردد على مستوى العالم برمته، تماماً ككأس بلور تحطمت وتناثرت إلى ألف قطعة. إذ هزّ المهاجمون بالتأكيد قلب الولايات المتحدة، ورئيسها آنذاك جورج دبليو بوش، الذي شن ما سُمي “الحرب على الإرهاب”، وأعطى الضوء الأخضر في استخدام وسائل التعذيب بهدف محاولة مواجهة مقاتلي “القاعدة”. وقد أثر المعتدون منذ تلك اللحظة على طريقة سفرنا وركوبنا الطائرات.
وكذلك من المستطاع أن نذكر، وفق ما كتبه مراسلنا المتخصص في الشؤون الدولية بورزو درغاهي، أن الانعكاسات الأكثر حدةً لتلك الحوادث، حدثت في الشرق الأوسط حيث تابع المدنيون الأخبار وسط خوفٍ من أن يؤدي الهجوم إلى رد فعلٍ عسكري أميركي سريع وساحق حيال منطقتهم. وقد كانوا على حق. ففي غضون شهر بعد الاعتداءات، غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها أفغانستان، ثم العراق في وقت لاحق.
بالتالي، في الوقت الذي يصح فيه أن نتذكر مقتل 3 آلاف شخص في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا من بينهم 70 بريطانيّاً، فمن الأهمية بمكان أيضاً أن نخصص مساحة لرواية قصص مئات الآلاف الذين قُتلوا في الرد العسكري الذي أعقب تلك الحوادث، سواءٌ أكانوا عائلات فُقدت خلال عملية قصف العاصمة العراقية بغداد، وسمّيَت عملية “الصدمة والرعب”، أو أحد المراهقين الباكستانيين ممن قضوا في غارةٍ بطائرةٍ من دون طيار.
وفي خضم ذلك، لا بد من ربط قصص الضحايا بما حصل مع أسرٍ تعمد كل سنة إلى وضع الزهور والأعلام الأميركية على أسماء الضحايا المنقوشة في الغرانيت الداكن بـ”المتحف التذكاري عن 11/9″9/11 Memorial Museum في حي “مانهاتن السفلى”.
وكذلك يتمثّل التحدي الذي ما زال يواجه الصحافيين ممن يحاولون تتبع مسار حوادث 11/9 وارتداداتها، في أن السردية ذاتها ما زالت سائدة. وبحسب مراسل صحيفة “اندبندنت” لشؤون الدفاع والأمن كيم سنغوبتا، بعد 20 عاماً من أفغانستان، عادت حركة “طالبان” مرّة أخرى إلى السيطرة على العاصمة كابول. ومع ذلك، رأينا شاباتٍ عازماتٍ على الوقوف في وجه قيود “طالبان” يتظاهرن في العاصمة، مؤكّدات إصرارهن على أنهن لن يسمحن بأن يعود بهن التاريخ إلى نقطة الصفر.
في المقابل، لم يتوانَ انتحاريو تنظيم “داعش” مع عملية الإجلاء النهائية لقوات الولايات المتحدة ومدنيين أفغان الشهر الماضي، عن تنفيذ هجوم تفجيري، الأمر الذي يؤكد حقيقة أن التهديد الذي يمثله الإرهاب ما زال إلى حد كبير من دون رادع. ومن المثير للذهول أيضاً أن عدداً من أفراد مشاة البحرية الأميركية الذين قُتلوا في تفجير القنبلة إلى جانب أكثر من 100 أفغاني، قد وُلدوا في 2001، وينتمون إلى الجيل الذي نشأ بعد حوادث 11/9، لكنهم باتوا الآن جزءاً من قصتها.
أميركا
آندرو بانكومب
لا يمكن للكلمات الأخيرة التي قالتها إيلين ساراسيني لزوجها، وكذلك كلماته، أن تكون أكثر بساطة، “أنا أحبك”. ففي ذلك الصباح، جلس زوجها فيكتور ساراسيني، الطيار في شركة “يونايتد إيرلاينز”، داخل قمرة القيادة للرحلة “يو أي 175” UA 175 المتوجهة من بوسطن إلى لوس أنجلوس. وبدا ذلك اليوم بحسب ما أفاد الجميع لاحقاً، مذهلاً بجوه الصافي وسمائه الزرقاء الخالية من السحب.
أطلعت الزوجة مراسل شبكة “سي بي أس” CBS التلفزيونية الأميركية على أطراف الحديث الذي تجاذبته مع زوجها في ذاك اليوم، مشيرة إلى أن ذلك “حدث في سبتمبر (أيلول) بالقرب من حوض السباحة في الفناء الخلفي للمنزل، الذي أذكر أنه لم يكن مغلقاً. وكرّر لي قائمة الأشياء التي يجب علي فعلها خلال غيابه، إذ اعتاد أن يسافر طوال الوقت، وتعين علي الاهتمام بتلك الأمور الحياتية. وكانت كلمتاه وكلمتاي أثناء الفراق، “أنا أحبك”.
وأشارت إيلين إلى أنها وزوجها قلما تشاجرا. وقد كانت “سعيدة للغاية” لأنهما لم يتشاحنا في ذلك الصباح قبل أن يتصل بها في منزلهما الكائن في بلدة “ماكفيلد تاونشيب السفلى” في ولاية بنسلفانيا. لم يتمكن ساراسيني الزوج وركاب رحلته البالغ عددهم 65 من الوصول إلى مدينة لوس أنجلوس، ولم يتمكنوا من معرفة ما خبأه لهم المستقبل في ذلك اليوم. بعد نحو ثلاثين دقيقة من انطلاق الرحلة من “مطار لوغان الدولي”، اقتحم الخاطفون الذين ينتمون إلى تنظيم “القاعدة” مقصورة القيادة، وأجهزوا على ساراسيني والمساعد الأول، وسيطروا على طائرته من طراز “بوينغ”. وعند الساعة التاسعة و3 دقائق، توجهوا بها نحو البرج الجنوبي لـ”مركز التجارة العالمي” في مدينة نيويورك.
وتذكيراً، ربما يكون الهجوم على البرج الجنوبي من بين لحظات الرعب والألم التي ظهرت بسرعة إلى العلن في 11/9 2001. وقد شاهدها سكان أكبر مدينة في الولايات المتحدة، ثم العالم بأسره. وكذلك شكّل ذلك الهجوم اللحظة التي أجبر فيها الناس على التخلي عن أي فكرةٍ أخرى راودتهم، سوى أن تلك الهجمات ليست إلا هجومٍ إرهابي.
قبل نحو 17 دقيقة [من الهجوم على البرج الجنوبي]، اصطدمت بالبرج الشمالي طائرةٌ مختطفة أخرى، هي إحدى رحلات “الخطوط الجوية الأميركية” الرقم 11 American Airlines flight 11. وفي خضم ذلك الارتباك، مع تقارير أولية أفادت بأن الحادثة الأولى سببتها طائرة أصغر بكثير، ظهر تصور، بالأحرى أمل على الأقل، بأن ما حصل لم يكن سوى مجرد حادث. في المقابل، حينما صدمت طائرةٌ ثانية البرج الجنوبي، زال كل شك آخر. ووفق ما نقلته أرملة ساراسيني إلى صحيفة “اندبندنت”، فإنه “حينما ارتطمت طائرة فيكتور بالبرج، عرفنا في تلك اللحظة أن بلادنا في حالة حرب”.
وحاضراً، بعد حوالي 20 عاماً من تلك الحوادث، أصبح السعي إلى تعقب الآثار المرعبة الناجمة من الهجمات التي شملت اختطاف 4 طائرات وقتل نحو 3 آلاف أميركي، تحدياً يشمل عدداً من الجبهات. ويعود السبب في ذلك جزئياً إلى أن الهجمات انعكست على حياة الناس بأشكال مختلفة. ويعني ذلك أن تجربة شخصٍ شاهد آنذاك التلفزيون في أوماها بولاية نبراسكا، جاءت مختلفة عن تجربة كل فرد من آلاف الأشخاص الذين تعاملوا مع الحدث سواء أكانوا من رجال الطوارئ أو الإطفاء الذين هُرعوا إلى مكان الحادث، واستنشقوا الغبار السام والدخان، حتى أن بعضاً من الجزيئات المنبعثة منهما ما زالت عالقةً داخل أجسادهم.
يُضاف إلى ذلك واقع أنه حتى بعد مرور جيل من الزمن على ذلك اليوم، لا تزال أصداء الصدمة تتردد في الأذهان والقلوب. وقد انعكست أيضاً على السياسة الداخلية للولايات المتحدة وطريقة تعاملها مع العالم. ومن اللافت أن عدداً من أفراد مشاة البحرية الأميركية الـ13 الذين قُتلوا الشهر الماضي في هجوم انتحاري في مطار كابول، قد وُلدوا في عام 2001، وهم يندرجون ضمن أواخر ما يزيد على 100 ألف جندي أميركي أرسلوا للمرة الأولى إلى أفغانستان، بعد شهر من هجمات 11/9. وكذلك يشكلون جزءاً من الجيل الذي لم يختبر تجربة “أين كنت في 11/9” كي يرويها على مسامع أحد.
هنالك تفاصيل قد يكون من السهل روايتها. إذ سارعت الولايات المتحدة التي وجدت نفسها في حالة من الحزن والأسى ووضع من الضعف والرغبة في الانتقام، إلى استخدام قوتها العسكرية في الرد على تلك الهجمات. وآنذاك، تعهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، الذي تجول متفقداً أنقاض منطقة “مانهاتن السفلى” بعد 3 أيام من سقوط البرجين، بأن “الأشخاص الذين تسببوا في هدم تلك المباني سيتلقون رداً منا جميعاً في وقتٍ قريب”. في المقابل، أشار نائبه ديك تشيني إلى أن بلاده ستُضطر في سياق ملاحقتها تنظيم “القاعدة”، إلى أن تعمل في “الجانب المظلم” (عالم الظلال والاستخبارات).
ولم تمضِ سوى أيام حتى صوّت الكونغرس بشبه إجماع، ما عدا تصويت فردي بـ”لا” من باربرا لي العضوة في الحزب الديموقراطي، على منح الرئيس الأسبق بوش سلطات تخوله شن حرب على المعتدين، ما سمح له بأن يصدر أوامر غزو أفغانستان ثم العراق. وقد أخذ بوش تلك الصلاحيات ومضى في تطبيقها، وشن ما أصبح يُعرف باسم “الحرب على الإرهاب”، التي لم تقتصر على سلسلةٍ من العمليات العسكرية ومطالبة دول كباكستان بأن تختار بين “إما معنا أو ضدنا”. وباستخدام السلطات نفسها، أعطى بوش ضوءاً أخضراً لاستخدام وسائل التعذيب من قِبَل “وكالة الاستخبارات المركزية” الأميركية [سي آي أي CIA]، إضافة إلى نشر شبكةٍ من القواعد والسجون خارج الولايات المتحدة، أشهرها في خليج غوانتنامو حيث لا يُعطى كثير من الاعتبار لحقوق الإنسان أو سيادة القانون.
واستطراداً، لقد أدى ذلك إلى أن مئات الآلاف من المدنيين فقدوا أرواحهم في دولٍ تمتد من العراق إلى ليبيا، إضافة إلى آلاف من جنود القوات الأميركية وقوات التحالف الغربي.
وعلى نحوٍ مماثل، مرر الكونغرس الأميركي منذ ذلك الحين قوانين أخرى، جاءت إما ناقصة أو مفتقرة إلى التدقيق، بما في ذلك “قانون باتريوت” Patriot Act الذي استخدمته الحكومة الأميركية بهدف التجسس على مواطنيها، وكانوا في كثيرٍ من الأحيان من المسلمين، مع حد أدنى من الرقابة. (وفي الأعوام التي تلت الهجمات على برجي التجارة، اضطُرت إدارة شرطة مدينة نيويورك التي أدارها عمدة المدينة رودي جولياني في 11/9، إلى أن تدفع آلافاً عدة من الدولارات كتسويات في دعاوى قضائية رُفعت ضدها في ما يتعلق بأعمال مراقبة سكانٍ مسلمين).
على المستوى الشعبي، محضت الغالبية العظمى من الأميركيين في ذلك الوقت تأييدها لما فعله الرئيس بوش. إذ ارتفعت نسبة الدعم له إلى 86 في المئة، ما أتاح لاحقاً بعد 3 أعوام للمفكر الاستراتيجي الجمهوري كارل روف، أن يستخدم “الحرب على الإرهاب” ورقةً رابحة في ضمان إعادة انتخاب بوش. في المقابل، البلاد لم تشعر على أكثر من صعيد، بأي مقدارٍ من الأمان. ففي نوفمبر 2001، تحطمت رحلة “الخطوط الجوية الأميركية” American Airlines الرقم 587 في منطقة “كوينز” في نيويورك بعد إقلاعها من “مطار جون كينيدي الدولي”. وقضى جميع من كانوا على متنها من ركاب وأفراد الطاقم، وقد بلغ عددهم 260 شخصاً. وبعد نحو عقدٍ من الزمن، استذكرت وكالة “أسوشيتيد برس” الحادثة، مشيرة إلى أنه على الرغم من المأساة، فبمجرد استبعاد أن يكون الإرهاب سبباً في حادث التحطم، “تنفست البلاد الصعداء”.
صمود الفولاذ
اندرج أنطوني ويتاكر ضمن آلاف من سكان مدينة نيويورك هُرعوا إلى تقديم المساعدة في ذلك اليوم [11/9]. لم يكن رجل إطفاء أو مسعفاً، بل متخصصاً أرسلته شركته “كون إديسون” Con Edison [توفر الطاقة الكهربائية والغاز والبخار في مدينة نيويورك] إلى موقع الأنقاض التي استمرت في الاشتعال، بهدف معالجة مخاطر التيار الكهربائي الناجمة عن الأسلاك المكشوفة التي تتطاير الشرارات منها. ومن بين المشاهد التي لا يزال يجد صعوبة في وصفها، أن شيئاً ما لفت انتباهه على وجه الخصوص، متمثلاً في الجزء المتدلي من البرج الجنوبي في مبنى “مركز التجارة العالمي”، الذي تلقى صدمة طائرة “الرحلة 175” التابعة لشركة “يونايتد إيرلاينز”، وقد بقي بطريقةٍ ما، قرابة 18 طابقاً منه، أو على الأقل إطارها الفولاذي، صامداً.
ويؤكد ويتاكر الذي يبلغ من العمر الآن 57 سنة، إنه لا يزال يستطيع مشاهدة إطار هيكل المبنى مضاءً بأنوار القوس الكهربائي التي تستخدمها فرق الطوارئ. وقد أرست قطعة الحطام المشتعلة تلك بطريقة ما، وسط البؤس والموت، شعوراً لديه بالتحدي وحتى بالأمل. وذكر حرفياً إن “الصُلبَ لا يزال صامداً”. لكن، بعد أسبوع من ذلك اليوم، حينما أتيحت الفرصة لويتاكر، وهو فنانٌ أيضاً، أن يعود ويلتقط صورةً هناك باستخدام كاميرا “كانون” من طراز “إيوس 620” EOS 620، لاحظ أن ذلك الهيكل قد جرى سحبه.
واستخدم المتخصص ويتاكر الذي لديه ابن ويعيش في ضاحية “هارلم”، تلك الصورة التي أطلق عليها تسمية “صمود الفولاذ” Steel Standing، وسيلةَ في ترويج رسالةٍ تدعو إلى الوحدة. فقد جمع أموالاً لمصلحة إحدى المؤسسات، لا بل ساعد في حض الأفراد على ارتداء أقنعة الوقاية أثناء فترة وباء “كوفيد”. وفي وقت سابق، قدّم نسخاً من الصورة التي التقطها إلى جميع المسؤولين، من كولن باول وزير الخارجية في عهد بوش الابن، إلى بان كي مون الأمين العام السابق للأمم المتحدة.
كيف يرى ويتاكر أن الولايات المتحدة قد تبدلت أكثر من غيرها منذ أن التقط تلك الصورة؟ بحسب رأيه، لقد تقلص العالم بما فيه بلاده. إذ أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي الفرصة أمام الناس كي يتواصلوا في ما بينهم، لكنها أجبرتهم في المقابل على التفكير في أماكن كأفغانستان بطريقةٍ لم يكونوا يفكروا بها في 2001. وفي ذلك الإطار، يضيف ويتاكر “إننا في الواقع لم نعد معزولين على غرار ما كانه الأمر من قبل، وأعتقد أن هذا الأمر مهم. إذ وُجِدَتْ أماكن عدة لم نكن نوليها كثيراً من الاهتمام. أما اليوم، فأعتقد أن الناس يعطون كثيراً من الوقت لمتابعة ما يحصل هناك بسبب الوضع الإرهابي المحتمل”.
ويتابع أنطوني ويتاكر وهو أميركي من أصلٍ أفريقي مشيراً إلى إن أحد الجوانب التي أعتادت أن تكون عصية للغاية في الولايات المتحدة، تتمثل في العنصرية. وفي المقابل، هنالك ثابتة أخرى، وذلك أمر إيجابي، تتمثل في اعتقاده بأنه يتوجب على الفنانين الاستجابة سواءٌ في حوادث من نوع 11/9 “أو حتى بعد جيل، لحادث اقتحام مثيري الشغب مبنى الكابيتول الأميركي [مقر الكونغرس]، وقد ارتدى بعضهم علم الاتحاد. ووفق رؤيته، إن الفن يشكّل الكيمياء التي تبدل تجارب الناس وتقدمها بطريقة يمكن معالجتها وأخذها في الاعتبار. وانطلاقاً من ذلك، يرى ويتاكر أنه “يجب التعامل مع جميع المآسي بطريقةٍ فنية”.
في كثير من الأحيان، طغى على الأميركيين خلال الأيام والأسابيع الأولى العصيبة التي أعقبت هجوم تنظيم “القاعدة” على بلادهم، شعورٌ بالسقم. ففي نيويورك، نشر الناس ملصقاتٍ لأفراد “مفقودين” تضمنت وجوه أحبةٍ لهم مفعمة بالأمل، اختفى أثرها في برجي “مركز التجارة العالمي”، وعلى الأرجح لقد قضى أولئك الأحبة نحبهم. من جهة أخرى، في مبنى البنتاغون وبلدة “شانكسفيل” الريفية بولاية بنسلفانيا، حيث سقطت الطائرتان الأخريان المخطوفتان، فقد سعى المسؤولون هناك إلى تحديد مكان أي قطعةٍ متبقية من حطامهما، والحفاظ عليها، فيما تحول كثير من الحطام إلى رماد.
في المقابل، سرعان ما قُرعت طبول الحرب، وظهر مشجعون لها. ففي برنامج “لايت شو” [العرض في وقت متأخر] Late Show لديفيد ليترمان، بكى دان راذر مقدم الأخبار الشهير على شبكة “سي بي أس” مع المضيف، مبيناً إنه يريد الانضمام بنفسه إلى الجيش. وفي وقت لاحق، اعترف بأن هذا الشكل من الوطنية غير الخاضعة إلى المساءلة، ربما لم تكن أفضل أشكال الوطنية في خدمة البلاد، أو وسائل الإعلام. من جهة أخرى، سهّل ذلك الشكل من الوطنية غير النقدية على الرئيس جورج دبليو بوش في ما بعد، كي يضغط من أجل شن حرب في العراق، بناءً على معلومات استخباراتية كاذبة. وفي الأسابيع والأشهر التي تلت الهجمات، لم يشكك سوى عددٍ قليلٍ من الصحافيين في تصرفات الحكومة، وحتى رسامي الكاريكاتور الذين تجرأوا على عدم اللحاق بركب الخط المؤيد للحرب، وجدوا أنهم غير مرغوب بهم كثيراً في تكليفات رؤساء تحرير.
واستطراداً، تلقى كوميديون من أمثال بيل ماهر الذي اعتبر أنه بغض النظر عن الصفات التي يطلقها أشخاص عديدون على الخاطفين، فإن أولئك الأخيرين لم يكونوا “جبناء”، تلقى توبيخاً سريعاً من المتحدث باسم البيت الأبيض آري فلايشر نفسه. ومن منصة غرفة الإحاطات الإعلامية في مقر الرئاسة الأميركية، ذكر فلايشر إنه “على جميع الأميركيين أن يتذكروا أن عليهم صون لسانهم والتنبه إلى ما يقولون ويفعلون. إن هذا الوقت ليس لإبداء ملاحظاتٍ من هذا القبيل. ولا يوجد أساساً وقتٌ لها”.
في منحى آخر، سعى بعض المواطنين الأميركيين إلى زيادة معرفتهم عن مناطق العالم التي انطلقت منها الهجمات عليهم، وتساءلوا عن إمكانية أن يكون لتصرفات الولايات المتحدة في العالم، دور ما في إثارة نقمة الإرهابيين. فقبل عشرين عاماً، خسر يوجين شتويارل زوجته نورما الطبيبة في علم النفس السريري، حينما اختطفت الطائرة التي سافرت على متنها، هي تلك التابعة لـ “الخطوط الجوية الأميركية” الرحلة الرقم 77، ثم جرى تحطيمها في مبنى البنتاغون.
وفي اليوم نفسه، فقدت جويس مانشستر وديفيد ستابلتون 4 أصدقاء مقربين منهما، جميعهم من العائلة نفسها، كانوا على متن الطائرة. ولقي جميع الركاب حتفهم، إلى جانب 125 شخصاً من العاملين في مقر وزارة الدفاع الأميركية. وقد اختار شتويارل ومانتشستر وستابلتون، وجميعهم اقتصاديون من العاصمة واشنطن، طريقةً إيجابية في تذكر أحبائهم الذين فقدوهم.
وبعد مرور بعض الوقت، عملوا على تأسيس صندوق أطلقوا عليه تسمية “عالم أكثر أماناً” Safer World Fund، الذي أسهم في مساعدة منصة “غلوبال غيفينغ” Global Giving للتمويل الجماعي عبر الإنترنت، فتمكّنت من جمع ما يفوق المليوني دولار أميركي وإنفاقها على تعليم الفتيات في أفغانستان وباكستان. وفي أغسطس (آب) 2021، شوهد ذلك الثلاثي وقد اعترته الدهشة والذهول، مع تواتر أخبار عودة حركة “طالبان” إلى السلطة في تلك البلاد، ما يهدد صلب عملهم الذي استثمروا فيه جهوداً كثيرة.
وفي ذلك الصدد، يفيد يوجين شتويارل، من مدينة “الاسكندرية” في ولاية فيرجينيا، إنه “بعد وفاة (زوجتي)، تلقينا هذا المال الذي أتى من صندوق 11/9. لم أشعر أنا وأولادي أننا كنا بحاجة إليه، أو نستحقه بالضرورة. وفي المقابل، لم ننتقد الآخرين (الذين أخذوا المال)”. ويوضح أنه بالإضافة إلى إنشاء مؤسسة في مدينته، فقد عمل مع ستابلتون ومانتشستر اللذين تعرف إليهما من المنتديات الاقتصادية، على تحويل “بعضٍ من جوانب المأساة، إلى أمرٍ جيد في الأقل”.
وحاضراً، ينتاب أولئك الثلاثة، على غرار كثيرين في أفغانستان نفسها، قلقٌ في شأن إمكانية السماح لهم بمواصلة عملهم. في الحالتين كلتيهما، سواء أسمح لهم بذلك أم لا، فإنهم لا يشعرون بالندم. وكذلك تشير مانتشستر إلى إنها “محبطة ومصابة بخيبة أمل كبيرة، ومنزعجة لأن (السيطرة) على أفغانستان [مِنْ قِبَل “طالبان”] حدثت بسرعةٍ خاطفة”، فيما توقعت على غرار عدد من المراقبين، أن تكون المقاومة في وجه “طالبان” ربما أقوى. وتضيف، “أود القول إنني أعتقد أن النساء والفتيات هن الآن أفضل حالاً، لأنه أتيحت لهن فرصة التعلم، والحصول على الرعاية الصحية، والخروج إلى العالم”.
في سياق متصل، لقد جرى التعاقد مع الموظفين الأمنيين الذين أخفقوا في توقيف الخاطفين التسعة عشر التابعين لتنظيم “القاعدة” [ونفذوا عمليات 11/9] مِنْ قِبَل مطارات خاصة. ويتمثل أحد التغييرات الأكثر استدامةً الناجم عن الهجمات، في إدخال إصلاحاتٍ تتعلق بسلامة شركات الطيران، وإنشاء وكالة جديدة هي “وكالة أمن المواصلات” Transportation Security Agency (TSA) [كُلفت وضع وتنفيذ سياساتٍ تضمن سلامة أنظمة النقل والمواصلات في الولايات المتحدة]، وقد يكون من المفاجئ في الوقت الراهن تذكر أن أعمال التدقيق في الأمتعة في ذلك الوقت كانت سريعة، وكذلك أُتيح للركاب زجاجاتٍ وسكاكين وحتى ولاعات سجائر، في حقائبهم اليدوية.
وحققت تلك التغييرات نجاحاً إلى حد كبير. وبمجرد أن شاع تطبيقها تراجعت ظاهرة اختطاف الطائرات في الأعوام التي تلت 2001. وبحسب منظمة “شبكة سلامة الطيران” الخيرية Aviation Safety Network، لم تقع أية حوادث مماثلة في الولايات المتحدة، أما مصنعو الطائرات فعززوا إقفال أبواب قمرة القيادة بحيث بات من الصعب على الخاطفين المحتملين الوصول إلى أجهزة التحكم، وقد فعلوا ذلك بأثر ضغوط من بعض الناشطين منهم إيلين ساراسيني.
وبالاستعادة، استضافت ساراسيني اجتماع متطوعين في مدرسة أطفالها بولاية بنسلفانيا، حينما تلقوا أنباء عما يدور في نيويورك. أخبرها أحدهم بأن طائر صغيرة ارتطمت بالبرج الشمالي لـ “مركز التجارة العالمي”، ونقل لها شخص آخر أن طائرة ركاب تابعة لشركة “الخطوط الجوية الأميركية” انخرطت أيضاً في الحادثة، فألغت على الفور الاجتماع ثم “ذهبتُ إلى المنزل وتابعتُ التطورات على شاشة التلفزيون”.
وبحسب أقوالها، فإنه عند قرابة الساعة العاشرة والنصف من صباح ذلك اليوم، تأكدت من مقتل زوجها الطيار السابق في البحرية الأميركية المحب لأفراد أسرته، إضافة إلى حبه أيضاً قيادة سيارته من نوع “كورفيت” ودراجته النارية. بعد أسبوع حضرت إيلين وابنتاها بريال وكيرستن قداساً عن نفس زوجها نهض به حرس الشرف في البحرية الأميركية للاحتفاء بذكرى الطيار المغدور الذي قضى في سن الـ 51 عاماً. وفي ختام القداس، تسلمت ساراسيني علماً أميركياً مطوياً بإحكام.
وبحسب تلك الأرملة، فإنها لم تكن تدرك حينها أنها ستكرس جهودها لتحسين سلامة الطيران، أو أن الحكومة أو صناعة الطيران سيكونان في غاية البطء لجهة اتخاذ إجراءات تعزز السلامة، ثم علمت أن مقصورة قيادة الطائرة التي جلس زوجها فيها كانت سهلة الفتح بحيث تعرضت للهجوم، وذلك أمر تشير إلى أن شركات طيران كشركة “العال” الإسرائيلية قد احتاطت له منذ فترة طويلة، وعملت على مواجهته. بعد ذلك، انخرطت في إطلاق حملة ضغط ما زالت مستمرة حتى اليوم.
في 2019، شعرت بشيء من البهجة حينما أثمرت جهودها وأقر الكونغرس “قانون ساراسيني لسلامة الطيران” Saracini Aviation Safety Act، الذي يفرض تزويد جميع الطائرات الجديدة بباب ثان لقمرات القيادة في الطائرات. وعلى الرغم من ذلك ما زالت تعتبر أن عملها لم ينته بعد، إذ لا ينطبق قانون 2019 إلا على الطائرات الحديثة، لذا فإنها ترى أن إقرار “إدارة الطيران الفيدرالية” Federal Aviation Administration بأن أبواب مقصورات قيادة الطائرات ما زالت عرض للخطر، يوجب أن يطلب من جميع الطائرات التي تعمل على خطوط جوية، أن يكون لقمراتها باب ثان.
وحاضراً، تعمل ساراسيني مع عضو الحزب الجمهوري في الكونغرس برايان فيتزباتريك، على تمرير تدبير وقائي جديد للطائرات. وفي هذا الإطار، تعتقد بأنه “يمكننا الإقرار بأن هجمات 11/9 قد غيرت العالم. وهناك جوانب متعلقة بتلك الحوادث لم تجر الإجابة عنها بعد ولم يكشف عنها، ولم تتخذ إجراءات في حمايتها مر أخرى. يتمثل دوري في المطالبة بتصحيح الأخطاء، لن أنكفئ عن النهوض بواجباتي في هذا المجال. وفق ما تعلمون، إن أفراد طواقم الطيران ما زالوا يحلقون في الأجواء بغية إنجاز عملهم، وهم إخوة وأخوات لفيكتور، وبالتالي، فقد أصبحوا إخوة وأخوات لي. ولا يمكننا تركهم هناك عرض للخطر”.
أفغانستان
كيم سنغوبتا
اتسمت ذكرى حوادث 11/9 هذه السنة بانسحاب مذل للولايات المتحدة والمملكة المتحدة من أفغانستان، البلد الذي غزته قوات الدولتين في رد على هجمات نيويورك، إضافة إلى عودة مظفرة لحركة “طالبان” إلى السلطة بعد نحو مرور نحو عقدين من الزمن على إطاحة حكمها. وجاءت الهزيمة نتيجة قرار كارثي اتخذه الرئيس الأميركي جو بايدن، قضى بتنفيذ انسحاب متسرع للقوات، مما أعطى إشارة للإسلاميين للبدء في شن هجومهم، الأمر الذي انتهى بانهيار سريع للدولة الأفغانية.
ثمة مكتسبات تحققت بشق الأنفس على مدى 20 عاماً في البلاد، في ما يتعلق بمجموعة من القضايا تشمل حقوق الإنسان، خصوصاً حقوق المرأة، وقد باتت الآن عرض للخطر، إذ يهمش الشعب الأفغاني والمجتمع، ويدفع بهما إلى الوراء في ظل حكم إسلامي متزمت وبدائي ومتوحش. وكذلك ذهبت أدراج الرياح تلك الأحاديث المتداولة والوعود المعطاة حول نشوء “طالبان جديدة” جرى إصلاحها على نحو يجعلها لا تشبه سابقتها، إذ تبين أن الحركة لم تغير جلدها. وقد ثبت ذلك مع خروج أول حكومة إلى العلن وقد جاء أعضاؤها بأكملهم إما من رموز النظام [الطالباني] القديم أو من أبنائهم، وجميعهم من الذكور ويتحدرون من أكثرية الـ “بشتون” [التي ينتمي إليها معظم أفراد “طالبان”]، فيما استُبعد ممثلو أي مجتمع آخر في البلاد.
ومن بين أولى المبادرات التي أقدمت عليها حكومة “طالبان” بعد وصولها إلى سدة الحكم، الطلب من النساء العاملات التزام المنزل ومنع مشاركة المرأة في أي أنشطة رياضية. وكذلك عمدت “طالبان” إلى فصل الذكور عن الإناث في صفوف التدريس، فارض حظراً على الاستماع للموسيقى، والمشاركة في أي مسيرات احتجاج على تلك الإجراءات، وبالتالي دفع اليأس المطلق والخوف بالناس إلى التصويت بأقدامهم، وشهد إجلاء أولئك الذين عرض عليهم اللجوء في الخارج نزوحاً جماعياً لحشود غفيرة من الأفراد الأكفاء والمثقفين، وسط أجواء من الفوضى المروعة، فيما لا يزال المحاصرون منهم يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى الهرب من أفغانستان.
وفي المقابل، وردت تقارير عن حدوث سلسلة من الاعتقالات التعسفية والإخفاءات القسرية، على الرغم من تأكيد “طالبان” أنها لن تسعى إلى الانتقام من خصومها. واستكمالاً، لم يصمد أمام أول اختبار أحد الأسباب الاستراتيجية الأوسع نطاقاً الذي بررت من خلاله إدارة الرئيس الأميركي بايدن الانسحاب، الذي تمثل في أن الولايات المتحدة ستكون في وضع أفضل كي تستطيع التركيز على مواجهة التحديات التي تفرضها الصين وروسيا، وتجنب الانشغال والغرق في مستنقعي أفغانستان والشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك بدت بكين وموسكو فائزتين بوضوح من رحيل الغرب عن أفغانستان، بحيث تعهدت العاصمتان توسيع رقعة نفوذهما في المنطقة.
ولعل أحد أكثر الرموز القوية التي تعكس مدى تأثير هؤلاء اللاعبين الجدد على الساحة الأفغانية، يتمثل في خطة تقضي بوضع جنود ومهندسين صينيين في قاعدة “باغرام” الجوية التي انسلت منها القوات الأميركية، من دون إبلاغ حلفائها الأفغان، بعدما شكلت أحد أبرز مراكز انطلاق مهمات الغرب في مكافحة حالات التمرد.
وكذلك اختار بايدن 11/9 تاريخاً رمزياً لانسحاب القوات. لم يكن يدرك بالطبع أن النهاية ستكون مخزية على تلك الشاكلة. في المقابل يبدو أن رئيس الولايات المتحدة عاش حال إنكار مع تكشف حجم التداعيات المتعاقبة الناجمة من الانسحاب. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده في الرابع من يوليو (تموز) 2021، خلال رده على سؤال عن التقدم الميداني السريع الذي أحرزته “طالبان”، أبدى سيد البيت الأبيض تذمره “دعونا نركز على الأخبار السارة”. وبعد حوالى خمسة أيام استبعد في رده على سؤال آخر “الاحتمال القائل بأن حركة “طالبان” ستجتاح كل شيء، وتسيطر على البلاد سيطرة كاملة”.
واستطراداً، لم يكن ضرورياً أن تنتهي الحرب على ذلك النحو المحرج للولايات المتحدة، أو في ذلك الشكل المؤلم للغاية بالنسبة إلى الأفغان. إن الوجود الأمني للغرب الذي استمر على مدى الأعوام الستة الأخيرة، مع وجود حوالى 2400 أميركي وأقل بقليل من ألف جندي من حلف الـ”ناتو” و750 عنصراً من المملكة المتحدة، عمل بمثابة صمام أمان للبلاد في وجه المتمردين وعناصر الجيش الباكستاني واستخباراته وأفراد “وكالة المخابرات الباكستانية Inter-Services Intelligence (ISI) المتهمين بتقديم الدعم لهم.
وقد تخلت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن كل ذلك خلال المحادثات السيئة والسافرة التي أجريت في قطر وانتهت بـ “اتفاق الدوحة” الرديء. من جهة أخرى، بات بايدن الآن منشغلاً بتبريراته التي تشير إلى أنه ورث تلك الصفقة القذرة من سلفه ترمب، على الرغم من حقيقة أنه طوال الحملة الرئاسية الأميركية أكد مراراً أنه لن يتراجع عن قرار الانسحاب من أفغانستان.
في المقابل، لم يفعل الرئيس الأميركي الراهن شيئاً منذ وصوله إلى البيت الأبيض في ما يتعلق بالانتهاكات المتكررة للاتفاق من جانب حركة “طالبان”، مع ملاحظة أن تلك الخروقات تكفي كي تعيد الولايات المتحدة النظر في موقفها.
وعلى العكس من ذلك، غادرت القوات الأميركية البلاد قبل نهاية شهر أغسطس (آب) الفائت، فيما رفض بايدن تمديد الموعد النهائي للإجلاء، الأمر الذي حدا عملياً بالدول الأخرى إلى إنهاء عمليات النقل الجوي الخاصة بها أيضاً، لأنه لا يمكن ضبط أمن المطار من دون الجيش الأميركي، وبالتالي تمثلت النتيجة في أن مئات من المعرضين للخطر من الإسلاميين قد تُركوا لمصيرهم، وأصبحت فرصهم في الخروج من البلاد في الوقت الراهن ضئيلة للغاية.
واستكمالاً، لقد انتهت عمليات الإجلاء بعنف مروع، تمثل في تفجير انتحاري تبنى المسؤولية عنه تنظيم “داعش”، وأسفر عن مصرع 170 شخصاً بينهم 13 جندياً أميركياً. وجاءت عمليات القتل تلك بمثابة تذكير بأن عناصر “طالبان” ليسوا الإسلاميين العنيفين الوحيدين في البلاد. هنالك أيضاً “شبكة حقاني” (أكثر الفصائل المتشددة إثار للرعب في أفغانستان) المشاركة الآن في الحكومة، وترتبط بصلات وثيقة مع تنظيم “القاعدة”. وكذلك ارتكب تنظيم “داعش خراسان” Isis-K أيضاً مجازر عدة خلال الأعوام القليلة الماضية، لكن ضحاياه كانوا من المواطنين الأفغان، وبالتالي لم يشكل التنظيم أي أهمي بالنسبة إلى الغرب.
واستدراكاً، فمع مرور الوقت قد يكتشف الرئيس الأميركي جو بايدن أن التخلي عن أفغانستان لن ينقله واقعياً إلى وضع يتيح له الاستكانة لفترة طويلة، إذ أدار الغرب ظهره لأفغانستان من قبل بعد استخدام “المجاهدين” فيه ضد الروس. ونحن ندرك ما الذي حدث بعد ذلك. ومن عُقر تلك الأوكار غير الخاضعة للسيطرة، انبثقت معسكرات إرهابية، وجماعة “القاعدة” كي تتوج بهجمات 11/9.
وفي ذلك الصدد، شكل إسقاط حكم حركة “طالبان” بعد اعتداءات 11/9 محطة أمل بنيت عليها توقعات كبيرة. لقد عايش بعضنا ممن وجد في أفغانستان خلال الشهرين الماضيين وشهد النهاية المؤلم لأطول حرب أميركية، عايش أيضاً تلك الحقبة التي شهدنا فيها ولادة أمة من جديد. آنذاك، ساد الأجواء مهرجان من الألوان والأضواء المبهجة والأنوار التي أضاءت الظلمة الحالكة أثناء تلك الأعوام الخانقة والبائسة في ظل الحكم الإسلامي، وحينها تمكن الناس من الاستمتاع بالموسيقى، وفتحت المتاجر أبوابها للمتسوقين، والملصقات البراقة تزين الجدران، فيما خلعت النساء حجاباتهن، وشهد قطاع التعليم نشوء مدارس للبنات وأخرى تعمل في تعليم اللغات، وأُدخلت المناهج الحديثة إلى الكليات والجامعات.
وفي تلك الحقبة بدأ الأشخاص الذين فروا في وقت سابق إلى باكستان وإيران المجاورتين أو إلى مناطق أخرى، بالعودة إلى البلاد للمساعدة في إعادة بنائها. في تلك الآونة، فر أسامة بن لادن إلى باكستان بعدما فشل الأميركيون في قتله أو اعتقاله في منطقة “تورا بورا”، وكذلك الحال بالنسبة إلى قيادة “طالبان”. وفي ذلك الحين أيضاً حصت محاولة من قبل بعض أشخاص في القيادة الباكستانية للحركة، لإجراء محادثات مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لكنها جوبهت بالرفض.
في تلك الأوقات أيضاً طمأن الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش الأفغان بأنه “يمكنكم الاعتماد على الولايات المتحدة. ونحن باقون من أجل ضمان الأمن والسلامة لكم”. وكذلك ذكر طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، “هذه المرة لن ننسحب”، مقراً بمفاعيل ما بعد حرب “المجاهدين” مع روسيا. في المقابل، لقد انسحبت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مر أخرى، لكن باتجاه كارثة حرب العراق في 2003. إذ جرى تحويل الأموال المخصصة لإعادة إعمار أفغانستان، وكذلك قُلصت القوات المنتشرة بشكل ضئيل أصلاً، أكثر فأكثر. وعادت حركة “طالبان” بدعم من رعاتها الباكستانيين إلى ملء الفراغات الأمنية، والسيطرة على المناطق الريفية، وشن هجمات في المدن.
واستطراداً، بدا الساسة الأميركيون والبريطانيون غافلين عما يحدث في الميدان. ففي مدينة “مزار الشريف”، أبلغنا دونالد رامسفلد وزير الدفاع الأميركي آنذاك أن الحرب قد ولت في أفغانستان. ووفق كلماته “لقد انتهت “طالبان” وباتت مهمشة، ولن يكون لها دور مستقبلي في البلاد”، لكن في 2006 بعد تدهور الوضع الأمني عاد الغرب وحلفاؤه إلى أفغانستان بعدما أنشأوا “قوة المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان” (إيساف) International Security Assistance Force (ISAF). وبعد طلب من الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزاي، أُرسلت قوات بريطانية من “هلمند” إلى بلدات صغيرة كي تنشئ قواعد فيها، ما شكل تحدياً فعلياً لحركة “طالبان” ودافعاً لها في مواصلة القتال.
وسرعان ما اشتعل الوضع في “هلمند”، وكذلك في “قندهار” المجاورة التي تمركزت فيها قوة كندية. في المقابل، قاتل الأميركيون ضمن أماكن أخرى، فيما واجه الفرنسيون والإيطاليون والألمان، درجات متفاوتة من العنف في المناطق التي تمركزوا فيها. وتفشى الصراع في مختلف أنحاء البلاد. وحدثت “زيادات” في عدد القوات بقيادة الجنرالين الأميركيين ديفيد بترايوس وستان ماكريستال. ومن موقعه نائباً للرئيس في عهد باراك أوباما، عارض بايدن بشدة إرسال قوات إضافية، لكنه لم يتمكن من الفوز في ذلك الجدال.
وبعد ذلك، زار بايدن العاصمة الأفغانية كابول بغية تصحيح مسار كرزاي وسياسيين أفغان آخرين في طريقة الحكم، وكان محقاً في ذلك، إذ تدفقت مبالغ طائلة من الأموال الدولية على كابول، وأصبح الفساد مستشرياً على نطاق واسع خصوصاً في المراتب العليا للسلطة. وازدهرت تجارة الهيرويين على يد سياسيين وأمراء الحرب. وفي الغالب، جرت تلك الأمور بتواطؤ من جانب “طالبان”. وفي العاصمة الأفغانية شيدت مبان ضخمة متوهجة “بأموال المخدرات” وجرى تأجير بعضها إلى منظمات دولية.
بالنتيجة، لقد استمرت الحرب وطُرد المتمردون من المناطق التي احتلوها، لكن لم يكن هنالك عدد كاف من القوات كي تحافظ على المراكز [التي طرد المتمردون منها]. وفي جميع الأحوال، بدا مستحيلاً السيطرة على فرق التمرد طالما امتلكت ملاذاً عبر الحدود، ودعماً يأتيها عبرها. أنهت قوة “إيساف” مهمتها العسكرية في 2013، مبقية على عدد صغير نسبياً من الجنود. ووصلت الأمور إلى طريق مسدود مع استيلاء “طالبان” على مساحات شاسعة من الريف الأفغاني، فيما اقتصرت سيطرة الحكومة على المدن والبلدات. وكذلك جاءت الخسائر الغربية ضئيل جداً.
في حقبة تالية، بدأ الرئيس الأميركي السابق ترمب الذي وعد بإعادة قواته إلى الوطن، مفاوضات مع “طالبان”، مستثنياً الحكومة الأفغانية. ثم وقع مع الحركة “اتفاق الدوحة” الذي أعطى “طالبان” كل ما ابتغته تقريباً. كذلك تابع بايدن سحب القوات مسبباً النتائج والعواقب التي نشهدها الآن. وبعد 20 عاماً أصبحت أفغانستان التي جرى على أراضيها التخطيط لهجمات 11/9، المكان الذي لطخ سمعة الولايات المتحدة، مما بعث القلق في نفوس الحلفاء وشجع الخصوم على متابعة نضالهم بدأب.
الشرق الأوسط
بورزو درغاهي
شعرت شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على غرار بقية دول العالم، بالذهول والهول من مشهد اعتداءات 11/9، خصوصاً بعدما بدأت تتكشف معالمها مساء ذلك الثلاثاء على أجهزة التلفزيون في منازلها. وفي لحظات تناثر حطام برجي “مركز التجارة العالمي” في حي “مانهاتن السفلى” وتغطية الموقع بالدخان والغبار، عاشت شعوب الشرق الأوسط رعباً غير مسبوق وكابوساً جثم على صدورهم.
دانت الصحف الأميركية الهجوم واصف إياه بأنه “يوم مخلد في ذاكرة الخزي والعار”، مكرر الدعوة التي أطلقها الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين ديلانو روزفلت إلى حمل السلاح، وذلك على أثر وقوع الهجمات اليابانية في السابع من ديسمبر 1941 على قاعدة “بيرل هاربور” [غارات جوية مباغتة نفذتها في العام 1941 البحرية اليابانية على قطع الأسطول الأميركي في قاعدتها البحرية في ميناء “بيرل هاربر” ضمن جزر “هاواي”]. وقد ساد على الفور خوف من أن يؤدي هجوم تنظيم “القاعدة” إلى رد عسكري أميركي قوي ومدمر في الشرق الأوسط.
من جهة أخرى في بغداد، مع انتشار أخبار الهجمات، فرغت المتاجر والطرقات من الناس، ولزم السكان منازلهم. ويشير مواطن من سكان العاصمة العراقية آنذاك، “كنتُ متوجهاً إلى منزلي لكن الشوارع خالي ومقفرة، لم أشاهد سوى دوريات قوى الأمن. وتوقع الناس جميعهم حدوث هجوم في أي لحظة”.
وقد تكون أسباب الخوف مبررة، ففي غضون ساعات من وقوع هجمات 11/9، بينما انخرط وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفلد في مساعدة الناجين من حطام مبنى البنتاغون، أخذ يحض مساعديه على إيجاد سبل كفيلة بربط الهجمات التي خطط لها أسامة بن لادن مع العراق وآخرين، وفق ما كشفته ملاحظات دونها أحد مساعديه وتمكنت شبكة “سي بي أس نيوز” من الحصول عليها. ونسبت الملاحظات إلى رامسفلد قوله “ابذلوا جهوداً فائقة، واعملوا على إجراء مسح كامل وشامل للمعطيات، سواء أكانت أهدافاً ذات صلة أو لا”.
في ذلك الوقت، عاش لقمان الفيلي السفير العراقي حاضراً في ألمانيا، في المنفى ببريطانيا، وشعر على الفور أن يوم محاسبة العراق أزف. وبحسب مقابلة أجريت معه، “أنا أفهم ذهنية الأميركيين وتفكيرهم وآلية عمل الولايات المتحدة، وأعرف ماذا يحصل إذا حدث أن وقفت في الجهة المعارضة أو غير المؤيدة لها. بدا واضحاً لي منذ اليوم الأول أن ما جرى أعاد إلى الذاكرة إلى اللحظة التاريخية لهجوم “بيرل هاربور”، لكن هذه المرة تحديداً كانت لحظة الشرق الأوسط”.
وفي الإطار الواسع للأمور، لقد دأبت القوات الأميركية والبريطانية على قصف العراق بشكل منتظم منذ حرب الخليج 1991، بقصد إنهاء مفاعيل ضم الكويت من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وفي 1998 أدت حملة قصف عنيفة دامت أربعة أيام، أطلق عليها اسم “ثعلب الصحراء”، إلى تدمير كثير من الدفاعات الجوية لصدام.
وفي تلك الآونة أيضاً شكل جورج دبليو بوش المنتخب حديثاً ائتلافاً ضم مجموعة من الصقور المتشددين وأصحاب الميول الطموحة في سياسة واشنطن الخارجية، خصوصاً أولئك المهووسين في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وقد التقى هؤلاء على اعتبار العراق مكاناً مثالياً لتنفيذ رؤيتهم. وفي ذلك الإطار، ذكر جون دبليو داور المؤرخ الشهير الخبير في الحروب وثقافتها في محاضرة له في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” Massachusetts Institute of Technology (MIT)، “أصبحت حوادث 11/9 بمثابة لحظة “بيرل هاربور، التي طالما بحثت عنها تلك المجموعة (من السياسيين)، مما أعطى الضوء الأخضر لنا للتحرك ضد العراق”.
في الأشهر الـ 18 التي تلت حوادث 11/9 وصولاً إلى الغزو الأميركي الكارثي للعراق واحتلاله في 2003، تصاعدت حدة الرعب عندما قدم صناع السياسة الأميركيون للعالم ما وصفوها بأنها حالات تعذيب، في محاولة للربط ما بين صدام حسين وهجمات 11/9، إضافة إلى اتهامه بأنه يكدس سراً أسلحة دمار شامل.
وآنذاك ناشد الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي خدم ضابطاً في جيش الاحتلال الفرنسي للجزائر، الرئيس جورج دبليو بوش عدم الإقدام على الخطوة. وتوقع الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى للغزو الأميركي للعراق أن “يفتح أبواب الجحيم”. وفي المقابل، حذر المستشار الألماني غيرهارد شرودر من أن “تتسبب الحرب في مقتل آلاف الأطفال والنساء والرجال الأبرياء”.
وبالفعل، تفاقمت العواقب الكارثية للغزو السريع والعنيف المسمى عملية “الصدمة والرعب”. حاول الأميركيون احتلال بلاد لا يعرفون شيئاً عنها، وعملوا على إدارتها من غير أن ينفقوا أموالاً كثيرة. استمر النهب أسابيع عدة، فيما اشتعلت النيران في كل مكان، وانهارت الدولة العراقية بأكملها، ثم واصلت انهيارها بعدما حل المفوض السامي الأميركي بول بريمر الجيش العراقي الذي يشكل مؤسسة حافظت إلى حد ما على تماسك الدولة، على الرغم من عيوبها.
وكذلك يشير السفير فيلي الذي عمل أيضاً مبعوثاً لبلاده إلى واشنطن، والتقى كبار المسؤولين الأميركيين والعراقيين خلال الأعوام الـ 20 الأخيرة، إلى وجود “اقتناع راسخ بأنه لم تجر إدارة العراق بشكل جيد جداً من جانب الأميركيين. قد لا تكون كلمة “تهور” هي التعبير الصحيح عما حدث، لكن الأمور لم تحتسب بشكل حقيقي. ولم ينهض الأميركيون واجباتهم، وعانى العراقيون جراء ذلك”.
في نهاية المطاف، لم يعثر على أسلحة دمار شامل في العراق. واعترف بوش أخيراً في 2006 بأن صدام حسين لم تكن له علاقة له بحوادث 11/9، ولم يقدم مساعدوه لم أبداً حججاً مقنعة بأن لدى صدام أي علاقة فعلية مع تنظيم “القاعدة”. في المقابل، تحول العراق آنذاك نقطة جذب لمقاتلي “القاعدة”، مع تنامي حركات التمرد، إضافة إلى نشوب حرب أهلية لها خلفية طائفية، إذ ألهم الغزو الغربي أراض عربية “الجهاديين” في مختلف أنحاء العالم، وكذلك العراقيين الغاضبين، وشجعهم على حمل السلاح ضد محتل يتحصن خلف مواقع أمنية معززة بجدران متفجرة وأسلاك شائكة.
إضافة إلى ذلك تسبب عدم الكفاءة وسوء الإدارة في خروج مساحات من الأراضي العراقية عن سلطة الحكم، الأمر الذي أتاح لجماعات متطرفة مسلحة بأن تنمو وتزدهر، خصوصاً بعد انهيار سيطرة الحكومة في الشمال السوري المجاور، وولادة ذرية جديدة لتنظيم “القاعدة” تمثلت في “داعش”، وبالتالي، أدت تلك المعطيات إلى وقوع حرب أخرى في العراق.
وبالنتيجة كلفت الحرب الخاطئة وسوء التخطيط في الرد على هجوم نفذته “القاعدة” في الولايات المتحدة، عشرات الآلاف من الأرواح، ومنحت على نحو مأساوي جماعة “القاعدة” والتنظيمات التي تقربها مزيداً من الزخم لجذب عدد أكبر من المجندين المحتملين، وأعطاها مساحات تكفلت بتعزيز نموها.
والواقع أن قلة من العراقيين يهتمون الآن بحوادث 11/9، الأمر الذي يعكس حالاً من عدم المبالاة وحتى الاستياء، من إحياء الذكرى، تسود مختلف أنحاء الشرق الأوسط والعالم العربي. ففي بغداد، يبقى الشغل الشاغل للسكان ماثلاً في الحصول على ما يكفي من كهرباء ومياه، إضافة إلى القلق من تصاعد حالات الإرهاب في الآونة الأخيرة، خصوصاً بعد هجوم يشتبه في أن تنظيم “داعش” نفذه بالقرب من مدينة كركوك الشمالية الأسبوع الماضي، وأدى إلى مقتل 13 شخصاً.
وكخلاصة، لقد اختصرت هبة فهد البالغة من العمر 34 سنة، وهي أم لأربعة أطفال، انطباعاتها بهذه الكلمات، “كل ما يمكنني قوله إننا في 11/9 2001، كنا نعيش في أمان وسلام أكثر بكثير مما نعيشه اليوم”.
القيم الأميركية
ريتشارد هول
بعد نحو أربعة أشهر من وقوع اعتداءات 11/9، وصل السجناء الأوائل إلى القاعدة البحرية الأميركية في خليج “غوانتانامو” في كوبا. وقد نقل قرابة 20 سجيناً من ساحات المعارك في أفغانستان على متن طائرة شحن، كبلت أياديهم بالأصفاد، وغطيت وجوههم وأعينهم، وأودعوا في مراكز احتجاز من نوع جديد.
في المقابل، ستظل راسخة في الذاكرة سنوات عدة تلك الصورة التي نشرتها قوات البحرية الأميركية بعد نحو أسبوع عن أولئك السجناء وقد ارتدوا زياً برتقالياً خاصاً، وجثوا على رُكبهم تحت رقابة محتجزيهم. وقد ازداد لاحقاً عدد السجناء في “غوانتانامو”، فيما ارتبطت سُمعة تلك المنشأة بأعمال التعذيب وتسليم المتهمين إلى دول تمارس التعسف والظلم، وترتكب انتهاكات متعلقة بحقوق الإنسان. وقد شكلت تلك الصور تعبيراً صارخاً عن كل ذلك، وكشف عن وجه مختلف لأميركا أخرى نسيت قيمها الخاصة وعزمت على المضي في سعيها إلى الانتقام.
وقد لخص الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما شعوره الذي شاركه كثيرون إياه خلال حملته الانتخابية في 2007، قبل فترة وجيزة من فوزه بالرئاسة، مشيراً إلى أنه “بين القاعات المظلمة في معتقل “أبو غريب” (يسمى الآن سجن بغداد المركزي، اشتهر بعد احتلال العراق بإساءة معاملة نزلائه على يد القوات الأميركية) وزنزانات الاعتقال في “غوانتانامو”، تنازلنا فعلاً عن أهم قيمنا الأخلاقية”.
تمثلت أول ترجمة لقرار إدارة الرئيس بوش في شأن استخدام التعذيب، بإلقاء القبض على رجل وصفه مسؤولون أميركيون بأنه “أول معتقل ذي قيمة عالية” في الحرب على الإرهاب. وذكر أن الملقب بـ”أبو زبيدة”، مواطن فلسطيني أسر بباكستان في مارس 2002، هو من كبار عملاء تنظيم “القاعدة”، ثم تبين لاحقاً أنه اتهام باطل. وقد وجهت إليه اتهامات بامتلاكه معلومات عن هجمات يخطط لها مستقبلاً ضد الولايات المتحدة، وتالياً جرى تسليمه لـ”وكالة المخابرات المركزية” الأميركية، كي يصبح أول شخص يواجه تقنيات “الاستجواب المعزز” (تعذيب ممنهج يشمل كل ما هو منافٍ لحقوق الإنسان) التي استخدمتها وكالة “سي آي أي”.
وفي هذا الإطار، وافقت حكومة الولايات المتحدة على استخدام أساليب الإيهام بالغرق، والتحرش والانتهاك الجنسيين، والإيذاء الجسدي، والحرمان من النوم، ضد المعتقلين. وأصبح خليج “غوانتانامو” نقطة الانطلاق في ذلك البرنامج من التعذيب، إلا أن معظم الانتهاكات حدثت في ما سميت لاحقاً “مواقع سوداء” تتبع لـ”وكالة المخابرات المركزية” حول العالم، وتشكل سجوناً سرية خارجة عن نطاق سيادة القانون الأميركي. ويعتقد أنه جرى استخدام قرابة 50 موقعاً في تنفيذ ذلك البرنامج في 28 دولة حول العالم.
وفيما كانت معظم أعمال التعذيب تحدث خلف أبواب مغلقة في تلك المواقع شديدة السرية، تمكن العالم من أخذ فكرة عن طبيعة الانتهاكات التي ترتكب في السجون الأميركية خارج الولايات المتحدة، حينما انفجرت الفضيحة المدوية المتعلقة بسجن “أبو غريب” في مايو (أيار) 2004. شكل ذلك المعتقل الذي مقره خارج بغداد، مركز تعذيب رديء السمعة في عهد صدام حسين، واستمر على هذا النحو حينما أعادت القوات الأميركية الغازية للعراق فتح المنشأة بغية احتجاز مقاتلين أسارى، وآخرين مشتبهاً فيهم بارتكاب أعمال إرهاب.
وفي 2003، زعم سجناء سابقون للمرة الأولى أن القوات الأميركية ارتكبت في حقهم انتهاكات جسيمة. وعلى أثر ذلك، فتحت تحقيقات اتسمت بالكتمان، ووجهت اتهامات إلى الجُناة، قبل أن تتسرب عبر صحيفة “واشنطن بوست” في العام التالي، صور عن فظاعات حدثت فيه. وكشفت الصور عن أن جنوداً أميركيين تورطوا في انتهاكات غير إنسانية طاولت معتقلين. وشملت تجريد سجناء من ملابسهم وتصويرهم مكدسين بعضهم فوق بعضهم الآخر. وكذلك جرت تغطيتهم ببراز بشري وتعريضهم لكلاب مسعورة، فيما وقف الجنود الأميركيون إلى جانبهم ملتقطين صوراً لهم ومبتسمين للكاميرا.
في تطور تالٍ، تحولت “الحرب على الإرهاب” إلى مرادف للتعذيب. وأخذت مشاعر التعاطف الأولى مع الولايات المتحدة على أثر هجمات 11/9 في التلاشي، مع بدء التجاوزات في الظهور عبر تلك الحملة العالمية. واستناداً إلى استطلاع أجرته “مؤسسة بيو للأبحاث” Pew Research، فقد ذكر قرابة 50 في المئة من الناس عبر الدول التي شملها الاستطلاع، أن برنامج التعذيب الأميركي للمشتبه فيهم، ليس له ما يبرره، في حين رأى 35 في المئة منهم أن لديه مبررات.
واستطراداً، جاءت المسألة مختلفة تماماً في الولايات المتحدة، إذ تبين من استطلاعات الرأي العام وجود دعم كبير من الأميركيين لتلك الأنواع من الاستجوابات وأعمال التعذيب التي تستخدمها “وكالة المخابرات المركزية” في مختلف أنحاء العالم، ضمن ملاحقتها لإرهابيين مشتبه فيهم. وجاء في استطلاع للرأي أجرته “مؤسسة بيو للأبحاث” في يوليو (تموز) 2004، أن نحو 43 في المئة من الأميركيين يوافقون على أن تعذيب الإرهابيين المشتبه فيهم بغية الحصول على معلومات مهمة، غالباً أو أحياناً ما يكون مبرراً. وقد ارتفع هذا العدد الآن كي يشكل غالبية طفيفة.
وأيضاً بحسب “بيو للأبحاث”، فقد أسهمت هجمات 11/9، في حدوث تحول في القيم الأميركية التي اتخذت صبغة جديدة، لا سيما في ما يتعلق بالحرية وعلاقة المواطنين مع دولتهم. فقد ارتفعت نسبة الأميركيين الذين يعتقدون بأن من الضروري أن يتخلى الشخص العادي عن حرياته المدنية من أجل وضع حد للإرهاب، من 39 في المئة في 1997، إلى 55 في المئة في 2002.
كذلك، غيرت تلك الاعتداءات طريقة تعاطي الأميركيين بعضهم مع البعض الآخر، إذ تنامت ظاهرة الإسلاموفوبيا [رهاب الخوف من الإسلام] في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بعد حوادث 11/9، وارتفعت نسبة جرائم الكراهية ضد المسلمين نحو 500 في المئة في الفترة الممتدة بين سنتي 2000 و2009، بحسب بيانات “جامعة براون”.
في المقابل، قدم المدافعون عن برنامج التعذيب الأميركي تبريرات له، سواء أكانوا داخل الحكومة أو خارجها، باعتباره شراً لا بد منه، واستراتيجية في تحقيق التوازن بين أمن المواطنين الأميركيين والقيم التي يعتنقونها. وفي وقت لاحق، اتضح أن الفرضية الكامنة وراء تلك الإجراءات العقابية الاستثنائية، أي إنها قدمت معلومات استخبارية قابلة للتنفيذ وأسهمت في إنقاذ أرواح أميركيين، واهية وتشوبها عيوب عدة.
فقد توصل تقرير أعدّه مجلس الشيوخ الأميركي، وصدر في 2014، إلى أن البرنامج أكثر وحشيةً وأقل فاعليةً بكثير مما ادعته وكالة “سي آي أي”. وأوضحت رئيسة لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ دايان فاينستاين، أن التعذيب “أدى بانتظام إلى تقديم معلومات مفبركة”، و”وكالة المخابرات المركزية” الأميركية، “لم تكن على علم في كثير من الأحيان بأن المعلومات ملفقة”. وفي تلخيص عن نتائج التقرير، بينت فاينستاين أن برنامج التعذيب “مضلل من النواحي الأخلاقية والقانونية والإدارية”.
ومع مرور السنين، جرى بصمت إطلاق سراح السجناء الذين احتجزوا في خليج غوانتانامو طيلة أعوام، من دون توجيه تهم إليهم، أو جرى نقلهم إلى بلدان ثالثة. ولم تجر إدانة كثيرين منهم.
ومع حلول موعد إصدار التقرير عن التعذيب، لم يعد التصور القائل بتخلي الولايات المتحدة عن مبادئها من خلال السعي إلى الانتقام، شأناً مثيراً للجدل. وفي معرض الكلام على نتائج التقرير، عمد السيناتور جون ماكين الذي تعرض بنفسه للتعذيب على يد الفيتناميين الشماليين بعد إسقاط طائرته أثناء حرب فيتنام، إلى تكرار كلمات خصمه السابق باراك أوباما، “في نهاية المطاف، إن فشل التعذيب في تحقيق الهدف المنشود ليس السبب الرئيس لمعارضة استخدامه. لقد قلت في أحيان كثيرة، وسأظل أصر دائماً على ذلك، إن هذه المسألة لا تتعلق بأعدائنا، بل تتعلق بنا نحن، بما كنا، وما أصبحنا، وما نطمح إلى أن نكون عليه. إنها ترتبط بهويتنا التي نمثل بها أنفسنا أمام العالم”.
وختم ماكين كلامه بخلاصة مفادها، “لقد مضينا في طريقنا في هذا العالم الخطير والقاسي في كثير من الأحيان، ليس عبر الاقتصار على السعي الصارم نحو مصالحنا الجيوسياسية، بل من خلال تجسيد قيمنا السياسية، والتأثير على الدول الأخرى كي تحتضن تلك القيم. وعندما نناضل من أجل الدفاع عن أمننا، فإننا نكافح في المقابل من أجل معتقد، وليس من أجل قبيلة، أو تفسير مُلتوٍ لديانة قديمة، أو من أجل ملك، بل من أجل مبدأ قوامه أن جميع البشر قد منحهم الخالق حقوقاً غير قابلة للتصرف أو المساس بها. وكم سيكون العالم أكثر أماناً إذا آمنت جميع الدول بالمبدأ نفسه. وكم يمكن أن يصبح أكثر خطورةً بكثير عندما ننسى نحن ذلك، ولو لحظات”.
الحزب الجمهوري
إريك غارسيا
في صيف 2001، بحثت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في إمكانية منح أكثر من 3 ملايين مهاجر غير شرعي من دول أميركا اللاتينية فرصة تسوية وضعهم القانوني في الولايات المتحدة.
في المقابل، حينما شنّ الإرهابيون هجماتهم على الولايات المتحدة بتفجير برجي “مركز التجارة العالمي” ومبنى البنتاغون، وبعد أن أحبط مخططهم في بنسلفانيا، تغير المسار الذي سلكته إدارة الرئيس بوش والحزب الجمهوري في التعامل مع ملفات الهجرة. وفي الأعوام العشرين التي تلت حوادث 11/9، تمثلت ردة فعل الحزب الجمهوري في إعادة تشكيل ائتلافه الحزبي، فيما أسهمت الحوادث اللاحقة في إحداث تغيير جذري في اتجاهات الحزب كي يكتسب صبغةً أكثر وطنية وإقصائية تجاه المهاجرين، وبلغت ذروتها في التشكيلة الراهنة للحزب.
ويرى جوليان زيليزر، أستاذ التاريخ في “جامعة برينستون”، أن حوادث 11/9 أثبتت أنها فائدتها بالنسبة إلى الجمهوريين من الناحية السياسية في بعض النواحي، إذ أدت إلى زيادة نجاح حزبهم انتخابياً، وتعزيز غالبيته في الكونغرس. وفي 2002، تمكن الجمهوري من كسر الاتجاه التقليدي الذي اصطبغ به الحزب الحاكم لجهة خسارة المقاعد، حينما فاز بأغلبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ. وارتكز الحزب في ذلك إلى حد كبير على تصوير الديمقراطيين بأنهم متساهلون في تعاطيهم مع شؤون الأمن القومي. ولعل الحدث الأكثر شُهرةً في هذا الإطار، ما حصل في ولاية جورجيا، حينما هزم ساكسبي تشامبليس السيناتور ماكس كليلاند الذي فقد ساقيه وساعده الأيمن في حرب فييتنام، على خلفية إعلان تجاري افتتحه بصور أسامة بن لادن وصدام حسين [ثم هاجم الإعلان كليلاند بسبب تصويته ضد مشروع “قانون الأمن الداخلي للرئيس بوش].
واستطراداً، سطرت تلك الانتخابات الفصل الأخير من مرحلة تسلم الجمهوريين زمام السلطة في الولايات الجنوبية، الذي بدأ في ستينيات القرن العشرين، وتسارع بشكل كبير في ثمانينيات ذلك القرن، بعد أن فازوا على بقية الناخبين البيض من الديمقراطيين السابقين، وهزموا الديمقراطيين ممن مثلوا آنذاك ولايات كـ”ساوث كارولينا” وجورجيا وألاباما. ومنذ ذلك الحين، فشل الديمقراطيون في الفوز بمناصب الحكام في تلك الولايات كلها.
وفي ذلك الصدد، يرى جون بيتني البروفيسور في “كلية كليرمونت ماكينا”، أن “فرز الأحزاب الذي وضع قيد البحث في 2001 قد اكتمل الآن”، مشيراً إلى أن “الحزب الجمهوري بات أكثر محافظة، ولم يعد هنالك وجود لليبراليين فيه”. في تطور تال، بعد إعادة انتخاب جورج بوش في 2004، أدى الاستياء الأميركي من الحرب في العراق إلى انتخاب خلفه باراك أوباما الآتي من الحزب الديمقراطي، ودأب على توجيه انتقادات إلى قرارات الحرب، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة “أبعدت أنظارنا عن الهدف الأساسي”. ولم يمضِ وقت طويل، حتى أصدر أوباما أمراً بتنفيذ عملية تصفية أسامة بن لادن.
وفي سياق متصل، انتقدت حملة دونالد ترمب في 2015 الحرب في العراق بشكل صريح، واستخدمتها مراراً حجةً في إطاحة شقيق الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن الذي شكل غريمه في سباق الترشح عن الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية في 2016. ويرى سهيل خان الذي خدم في إدارة بوش، “أن الساسة تعلموا على الفور أنه بات في إمكانهم التشكيك علناً في ما كانت تُعد آنذاك عقيدة جمهورية”، مضيفاً أن “الأمر يتعدى ذلك، إذ شعروا بأنهم قادرون على تحقيق النجاح، مع توفر الرغبة في إعادة تقييم قرارات الحرب والانسحاب إلى حد معين، من تلك المذابح العسكرية”.
وعلى خط مُوازٍ، يرى زيليزر أن استجابة الحزب الجمهوري حيال حوادث 11/9، قد غذت روح القومية داخل الحزب نفسه، الأمر الذي شكل حافزاً لدى أعضائه في خوض غمار هذا التوجه.
وفي تطور مواز، فيما أيّد بوش الابن إصلاح قوانين الهجرة، أنشأت إدارته “وزارة الأمن الداخلي”، وواجهت تمرداً من الحزب في محاولتها إيجاد وسيلة تضمن منح العمال ممن ليست لديهم وثائق، وضعاً شرعياً. وفي 2007، لم يبصر التشريع الذي اقترحه بوش النور في مجلس الشيوخ، حيث صوت جميع الجمهوريين باستثناء 12 منهم ضده. واندرج السيناتور جيف سيشينز من ولاية “آلاباما” ضمن الأصوات الرئيسة المعارضة لذلك التشريع. وحينما سقط التشريع في التصويت، أخبر سيشينز صحيفة “نيويورك تايمز” أن مؤيديه أرادوا إقرار مشروع القانون “قبل حتى أن يتمكن راش ليمبو [معلق إذاعي محافظ اعتاد تقديم برنامج “استعراض راش ليمبو” The Rush Limbaugh Show) من إطلاع الشعب الأميركي على مضمونه”.
في نهاية المطاف، استخدمت إدارة دونالد ترمب وزارتي الأمن الداخلي والعدل التي يتولاها الآن سيشينز، في تنفيذ بعضاً من التدابير الأشد قسوةً وتعنتاً على الحدود الأميركية المكسيكية، على غرار ما عرف بالسياسات التي تقضي بـ”عدم المرونة أو التسامح” إطلاقاً، وتفريق العائلات.
على نحو مشابه، وفيما رفض ترمب، خطابياً في الأقل، مفاهيم الحرب على الإرهاب، وتعزيز مبدأ بناء الدولة في العراق وأفغانستان، استفاد في الوقت نفسه من تنامي النزعة القومية المتزايدة داخل الحزب. وفي الأيام التي تلت الهجمات الإرهابية، سارع بوش إلى اعتبار أن الولايات المتحدة لم تكن في حالة حرب مع الإسلام. وحرص أوباما على تكرار ذلك الادعاء بعد إطلاقه الغارة التي قتلت أسامة بن لادن. في المقابل، خلال تلك الفترة، لمح ترمب، الذي شكل أحد نجوم تلفزيون الواقع، آنذاك، إلى أن شهادة ميلاد أوباما قد تكشف أن الرئيس نفسه مسلم.
وذهب ترمب أبعد من ذلك حينما ترشح للرئاسة في 2015، عبر دعوته إلى حظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وإعلانه عن اعتقاده أن الإسلام يكن حقداً حيال الولايات المتحدة، لكنه لم يكن ليستطيع الإفلات من المساءلة، لو لم تكن هناك بالفعل مشاعر معادية للمسلمين داخل الحزب الجمهوري. ففي الأشهر التي تلت حوادث 11/9، كشف “مركز بيو للأبحاث”، أن الجمهوريين كانوا أكثر ميلاً بقليل من الديمقراطيين إلى تبني فكرة أن الإسلام يشجع على العنف أكثر من الأديان الأخرى. ثم ما لبثت تلك النسبة أن تعاظمت على مر السنين.
وحينما تولى ترمب مقاليد الرئاسة، وضع قيد التنفيذ حظراً على سفر الآتين من البلدان ذات التعداد السكاني المسلم الكبير إلى الولايات المتحدة. وكذلك هاجم مراراً أعضاء الكونغرس المسلمين.
من ناحية أخرى، فيما توحد الحزب الجمهوري بالكامل تقريباً، حيال طريقة مواجهة هجمات 11/9 الإرهابية، إلا أنه كان منقسماً في أعقاب ما أوشك أن يكون تمرداً في السادس من يناير (كانون الثاني). ففي ذلك اليوم، خاطب رودي جولياني الذي لقي شعبية واسعة في وسائل الإعلام بعد حوادث 11/9 ولقب بـ”عمدة أميركا”، حشداً من أنصار ترمب مناشداً إياهم دعم ما سماها “المحاكمة بالقتال”، وذلك قبل فترة وجيزة من مداهمة [أنصار ترمب] مبنى الكابيتول في محاولة لإطاحة نتائج الانتخابات الرئاسية 2020. وفي الوقت نفسه، صوتت العضوة في مجلس النواب ليز تشيني، ابنة ديك تشيني الذي شغل منصب نائب الرئيس [بوش الابن] في 2001، على عزل ترمب بسبب تحريضه على التمرد. وفيما لا يزال جولياني موضع ترحيب واسع داخل الحزب، عزلت تشيني نسبياً.
السفر
سانشاين فلينت
لقد اختفت تلك القناطر المدببة المستوحاة من الهندسة المعمارية القوطية التي انتصبت دوماً عند قاعدة برجي “مركز التجارة العالمي”، وتحاكي نظيراتها المصنوعة من حجر التي ترتفع فوق جسر بروكلين. وكذلك اختفت أيضاً تلك الزخرفة الفولاذية التي شكلت قوساً عبر أوتار الجسر الشاهقة الممتدة من طرف حي “مانهاتن”، بل اعتبرت بمثابة اللوحة المفضلة والممتعة للسياح إلى أن حل ذلك اليوم المشؤوم. وعلى نحو مشابه، اختفت لفائف السجاد الأحمر في الردهات، حيث اعتاد الزائرون استخدام المصاعد السريعة في الوصول إلى مرصد “قمة العالم” Top of the World الكائن في الطابق 107 من البرج الجنوبي [لمبنى التجارة العالمي]، أو الاستمتاع بمأدبة غداء ساحرة في مطعم “نوافذ على العالم” Windows on the World التي استقرت طويلاً داخل البرج الشمالي، وهو مطعم راقٍ وشاهق للغاية يمكن لمرتاديه التحديق في منحنى الأرض أثناء جلوسهم على مائدتهم. في المقابل، يبقى الحداد والحزن بالتأكيد على الأرواح التي فقدت، وليس على تلك الوجهة السياحية. في المقابل، لقد أحدث تدمير تلك المعالم الرائدة في العالم صدمةً هائلة طاولت مختلف أصقاع العالم.
وفي أعقاب الهجمات مباشرة، تأثر قطاع السفر من جراء الصدمة بشكل هائل على أصعدة مختلفة، ولوحظ ذلك بوضوح في أمن الطيران والمطارات. وشهد شهر أغسطس (آب) 2001 رقماً قياسياً بلغ 65.4 مليون مسافر على خطوط الطيران. واستغرق قطاع السفر الجوي نحو ثلاث سنوات كي يعاود نشاطه الاعتيادي، لكنه لم يستطع تجاوز ذلك العدد إلا في يوليو 2004. وتحتم على الركاب خوض تجربة مختلفة تماماً عما عرفوه من قبل. وعلى الفور، أصبحت الخطوط الأمنية في المطار تجبر المسافرين الانتظار في طوابير تستمر ساعات طويلة، بينما أدى إنشاء “وكالة أمن النقل” في الولايات المتحدة، إلى إعادة تنظيم وهيكلة قواعد الطيران التي ترسخت كي تصير القاعدة المعمول بها الآن.
وحاضراً، بات المسافرون يخلعون أحذيتهم وستراتهم في نقاط الأمن، ولا يحملون معهم أكثر من 100 ميلليتر من السوائل في حقائبهم المحمولة، ويتحملون الخضوع لأعمال “تفتيش جسدي دقيق”، وأجهزة المسح الضوئي المتطورة للجسم، حتى بات ذلك كله جزءاً من الروتين الطبيعي. واستطراداً، أضحت المراقبة المشددة والقيود الصارمة على التأشيرات، ضرورةً أساسية، فيما تحفظ بصمات أصابع الركاب الدوليين الذين يسافرون إلى “مطار جون كينيدي” ومطارات أميركية أخرى في ملفات خاصة، ويخضعون لمزيد من الاستجوابات من قبل موظفي الجمارك والهجرة. وبين عشية وضحاها، تحول السفر الجوي تجربة مليئة بالتعقيدات والتحقيقات المحبطة.
وفي المقابل، تعين على معظم المؤسسات والحوادث الرياضية والمواقع الثقافية في مدينة نيويورك، إعادة النظر في عملياتها الأمنية، بدءاً من تركيب أجهزة الكشف عن المعادن، واستخدام الكلاب البوليسية في رصد القنابل، وصولاً إلى حظر زجاجات المياه. وقد أغلقت بعض مناطق الجذب السياحية طيلة أعوام عدة، على غرار محيط “تمثال الحرية” Statue of Liberty، في حين أعيد فتح بعضها الآخر كـ”متحف متروبوليتان للفنون” Metropolitan Museum of Art، على الفور تقريباً، بتوجيه من مجلس المدينة، كي تكون بمثابة وجهة هدفها مواساة سكان نيويورك المفجوعين.
وفي هذا الإطار، أشار جون باريلي مدير الأمن في المتحف بين عامي 1986 و2015، ومؤلف كتاب “سرقة الاستعراض: تاريخ الفن والجريمة في ست جرائم” Stealing the Show: A History of Art and Crime in Six Thefts، إلى أن “المتحف قد أعيد افتتاحه صباح يوم الخميس، ونحن لدينا دائماً عدد كافٍ من الموظفين المسؤولين عند المداخل وصالات العرض، لكننا إخضاعهم لمجموعة من التدريبات الجديدة. بدأنا في تطبيق تفتيش الحقائب والفحص بالأجهزة الإلكترونية في الكشف عن المعادن والأسلحة عند المداخل العامة الثلاثة، ونعمل على فحص كل مركبة تدخل إلى المرأب العام. وكذلك طورنا الدوائر التلفزيونية المغلقة [سي سي تي في CCTV]”. وعلى غرار المؤسسات الكبرى الأخرى، بدأ المتحف أيضاً في تلقي إحاطات منتظمة من “مكتب التحقيقات الفيدرالي” FBI و”فرقة العمل المشتركة المعنية بمكافحة الإرهاب” Joint Terrorism Task Force التابعة لشرطة مدينة نيويورك.
وعلى نحو مماثل، لم تسلم الفنادق من تلك البروتوكولات، إذ بات يتعين عليها إجراء تقييمات وتدقيقات أمنية مماثلة. ويعلق الرئيس والمدير التنفيذي لاتحاد الفنادق في مدينة نيويورك فيجاي دانداباني على ذلك، “أجرت الفنادق سلسلةً من التدريبات بالتعاون مع “فرقة مكافحة الإرهاب” و”مكتب التحقيقات الفيدرالي”، وعززت الإجراءات الأمنية في ردهاتها، حتى إن بعض أكبر الفنادق لجأ إلى تركيب أجهزة الكشف عن المعادن”، لكن، سرعان ما ألغيت تلك الأجهزة، حينما أدركت إدارات الفنادق أنها تبعث رسالة مغلوطة إلى لضيوفها في شأن السلامة والأمان في المدينة.
ومن جهة أخرى، بعد تعافي نيويورك، على الرغم من تطبيق الإجراءات الأمنية الجديدة، بقي عدد السياح الدوليين أقل من الرقم المعهود. ففي عام 2000، اجتذبت المدينة أكثر من 35 مليون زائر. ومن بين هؤلاء، هنالك 6.8 مليون سائح دولي. وفي 2002، تراجع ذلك العدد إلى 5.1 مليون زائر، ولم يصل إلى مستويات ما قبل 2001 مرة أخرى حتى حلول عام 2006.
في ذلك الإطار، يعد الزائرون الدوليون مهمين للغاية بالنسبة إلى قطاع السياحة في نيويورك، علماً بأن أربعةً من بين أفضل البلدان التي يفدون منها هي الصين والمملكة المتحدة والبرازيل وفرنسا. والأهم من ذلك أنهم ينفقون أكثر من السياح المحليين. وعن ذلك الأمر تحدث كريستوفر هيوود نائب الرئيس التنفيذي للاتصالات العالمية في مؤسسة “أن واي سي أند كومباني” NYC & Company [تتولى تسويق الوجهة الرسمية ومكتب المؤتمرات والزوار للأحياء الخمسة في مدينة نيويورك]، مشيراً إلى إنه “فيما يشكل المسافرون الدوليون 20 في المئة من الزائرين، إلا أنهم يساهمون بـ50 في المئة من الإنفاق المادي، إذ إنهم يبقون فترة أطول، وينفقون أكثر أثناء مكوثهم في المدينة”.
في 2006، عمدت إدارة مايكل بلومبيرغ [عمدة مدينة نيويورك آنذاك] ومجلس المدينة، إلى الدفع في اتجاه تعزيز قطاعي السفر والسياحة. وافتتحت مؤسسة “أن واي سي أند كومباني” مكاتب لها في جميع أنحاء العالم، وأطلقت حملات عالمية هدفها الترويج للمدينة. ويرى هيوود أن “لدينا الآن 17 مركزاً دولياً تنشط في تسليط الضوء على أحياء مدينة نيويورك الخمسة”، مشيراً إلى أن السفر ازداد إلى تلك الأحياء، خصوصاً بروكلين وكوينز”.
بعد عقدين من الزمن، لم ترتفع تلك الأعداد فحسب، بل سجلت المدينة في 2019 رقماً قياسياً بلغ 66.6 مليون زائر، 13.5 مليون منهم دوليون، ما يشكل ضعفي أرقام سنة 2000، كذلك سجلت الفنادق رقماً قياسياً في الحجوزات بلغ 129 ألف غرفة في آذار 2020، وبلغ الإشغال فيها نحو 90 في المئة، بالمقارنة مع الانخفاض الذي سجل في 11/9، وانحدر إلى 65 في المئة. وعن ذلك الشأن، يرى دانداباني أن “الزائرين العالميين يشكلون 25 في المئة من ضيوفنا، خصوصاً الوافدين من المملكة المتحدة الذين يمثلون أكبر مصدر بالنسبة إلى إيراداتنا في القطاع”.
ومع استعادة المدينة عافيتها، انتشرت مجموعة من الفنادق الجديدة في مختلف أرجاء منطقة مانهاتن. وافتتحت سلسلة “فنادق فيرمديل” Firmdale Hotels و”فندق كروسبي ستريت” Crosby Street Hotel في 2009 داخل “حي سوهو” الشهير، وهو الأول من نوعه في نيويورك. ووفق مدير الفندق كريغ ماركام، “عندما بدأنا هذا المشروع، كانت نيويورك قد استعادت حيويتها، خصوصاً وسط المدينة و”حي سوهو” الذي لطالما علمنا أنه سيكون المكان المثالي لأول فندق لنا في نيويورك، نظراً إلى أوجه الشبه بين نمط هذا الحي والطابع السائد في فنادقنا الكائنة في لندن”.
وفي المقابل، جرى افتتاح مزيداً من الفنادق أيضاً على طول النهر الممتد في منطقة “ويليامزبرغ”، ووسط “بروكلين” و”كوينز”، وتلك أحياء رائعة تشكل نقطة جذب للمسافرين الأجانب الذين يتطلعون إلى استكشافها. ويتناول هيوود ذلك الملمح، مشيراً إلى “أن السوق الدولية عموماً تكون أكثر جرأة وحماسةً من سوق المسافرين المحليين، إذ يريد هؤلاء أن يستخدموا وسائل النقل العام والدخول في عمق حي “بروكلين”، وجزيرة “كوني آيلاند”، وشبه جزيرة “روكاويز”. وكذلك يُبدي البريطانيون على وجه الخصوص، أنهم مغامرون ويريدون استكشاف المدينة”.
وبالإضافة إلى الرقم القياسي للزائرين، وافتتاح فنادق جديدة وأحياء يرغب الزائرون في اكتشافها، حدثت تغييرات دائمة في المدينة. جاء بعض تلك التغيرات بصورة مرئية كاللافتات الملصقة على مترو الأنفاق، على غرار “إذا رأيت شيئاً، قل شيئاً”، أو باللغة الإسبانية Si ve algo, diga algo. في المقابل، جاء بعضها الآخر أقل وضوحاً كالمراقبة المشددة من قبل الاستخبارات والشرطة. وقد تمثل التغيير الأكبر في الشعور بأنه سيتعين على نيويورك وسكانها التعايش دائماً مع تهديد الإرهاب والاعتداءات الإرهابية. وتشير استطلاعات الرأي التي أجريت على مدار العقد الماضي إلى أن مخاوف الإرهاب لم تتضاءل، بل ارتفعت في بعض الأحيان.
وحاضراً، مع تفشي وباء “كوفيد” العالمي، تعرضت السياحة في المدينة لضربة أكبر من تلك التي حاقت بها بعد هجمات 11/9. فقد أغلق عدد من الفنادق في شكل دائم، ما أدى إلى تقليص عدد الغرف بنحو 20 ألفاً، فيما خيم الظلام على شارع “برودواي” في مدينة نيويورك طيلة 18 شهراً، وأصبحت المطاعم في وسط المدينة فارغة.
ويعلق هيوود على ذلك، “كنا بؤرة فيروس “كوفيد” في الولايات المتحدة الذي قضى على السياحة في نيويورك. نحن الآن بحاجة إلى المرونة التي أتاحت لنا تخطي تبعات حوادث 11/9، وساعدت في إعادة بناء مدينتنا”.
في المقابل، إذا أثبتت حوادث 11/9 أي شيء، فإنه يتمثل في أن نيويورك ستبقى دائماً مقصداً رئيساً للمسافرين والسياح. وعلى الرغم من أن مآسيها تنبع من وقائع حقيقية، إلا أنها لا تزال مدينةً منفتحة تطل على الخارج، ومدينة مشاطئة للبحر، ترفع شعلتها عالياً ترحيباً بالزائرين، بشكل دائم ومقاوم.
المصدر: اندبندنت عربية