بكر صدقي
سيكون اجتماع القمة، في سوتشي، بين الرئيسين الروسي والتركي، بوتين وأردوغان، قد انتهت حين تنشر هذه المقالة. لكن الأحداث والتصريحات السابقة على انعقادها يمكن أن تعطينا إشارات كافية عن مضامينها والتوافقات التي قد تنتهي إليها. وعلى رغم كثرة العناوين الخلافية بين البلدين التي يعول على حلها خلال المباحثات، يبرز موضوعان أساسيان في حاجة إلى توافقات عاجلة، هما التصعيد الروسي في إدلب وجوارها، والاحتياجات التركية من الغاز الروسي.
كان الجديد في التصعيد العسكري الروسي في منطقة «خفض التصعيد» في محافظة إدلب وجوارها، هو قصف الطيران الروسي، للمرة الأولى، مواقع لـ«الجبهة الوطنية للتحرير» التابعة لتركيا في ريف عفرين الجنوبي، أي خارج محافظة إدلب التي اعتادت روسيا ونظام بشار على قصفها. هذا التوسع الروسي في الأهداف العسكرية، إضافة إلى التصعيد في محافظة إدلب نفسها، لا بد أن يحتل الأولوية الملحة على جدول أعمال قمة سوتشي، من وجهة نظر الجانب التركي.
قيل ويقال كثيراً بشأن هذا التصعيد، على أنه «رسائل» موجهة من بوتين إلى أردوغان. والحال أنها تتجاوز هذا التوصيف لتشكل مادة للابتزاز. إذ سيضيف الرئيس التركي، بعد هذا التصعيد، إلى مطالبه العادية مطلباً ملحاً هو وقف هذا التصعيد، فيطالبه بوتين بمقابل. بل إن المطالب «العادية» قد تنسحب من طاولة المباحثات لمصلحة هذا الطلب العاجل، فيكون هم أردوغان الوحيد هو المطالبة بـ«كف البلاء» الروسي! هذه هي الطريقة البوتينية في ابتزاز محاوريه.
ولكن لماذا يشكل وقف التصعيد مطلباً ملحاً بالنسبة لتركيا؟
لأن إدلب وجوارها التي تنتشر فيها نقاط المراقبة العسكرية التركية، ناهيكم عن مناطق سيطرة القوات التركية كعفرين وريف حلب الشمالي، قد تحولت، في غضون السنوات السابقة، من ميزة لتركيا إلى «بطنها الرخو» تحت رحمة الطيران الروسي. ففي شباط 2020، قتل هذا الطيران 33 جندياً من القوات التركية في ريف إدلب، وإن كانت تركيا اتهمت، وقتها، طيران نظام بشار بتلك العملية. فطيران النظام لا يمكنه أن يفعل شيئاً إلا بقرار روسي. بعد شهر على تلك الحادثة توصلت أنقرة وموسكو إلى اتفاق التهدئة الجديد الساري المفعول إلى اليوم. يبدو أن بوتين قد قرر انتهاء العمر الافتراضي لاتفاقية آذار 2020، وما التصعيد الأخير إلا تعبيراً عن الحاجة إلى اتفاق جديد، من وجهة النظر الروسية، يتسق مع التغيرات التي جرت منذ ذلك الوقت.
كان لافتاً كلام بوتين الموجه لبشار الأسد، في اللقاء الذي جمعهما في موسكو منتصف الشهر الحالي، عن أن العقبة الرئيسية أمام إعادة الاستقرار في سوريا، هي القوات الأجنبية الموجودة بصورة «غير شرعية» على الأراضي السورية، قاصداً بذلك القوات الأمريكية والتركية. هذا تلويح بشرعنة أي استهداف جديد للقوات التركية في محافظة إدلب أو جوارها القريب، ما لم تستجب أنقرة للمطالب الروسية. ومشكلة تركيا الكبرى هي أن قواتها الموجودة في «منطقة خفض التصعيد» محرومة من الحماية بغطاء جوي أو وسائل دفاع جوي، متروكة لإنصاف روسيا. ولا يخفف من ذلك تعزيز تركيا لقواتها البرية في المحافظة بمزيد من قوات النخبة والآليات، بل يزيد هذا من رخاوة بطنها أمام استهدافات روسيا والنظام. يمكن لتلك التعزيزات فقط أن تتيح لتركيا الرد الانتقامي على قوات الأسد، كما فعلت بعد مقتل الجنود الـ33 المشار إليه، لكن النظام قلما يأبه بمقتل جنوده، مقابل حساسية الرأي العام في تركيا أمام مقتل أي جندي تركي.
إضافة إلى هذا الميزان المختل سلفاً على طاولة مباحثات الرئيسين في سوتشي، هناك غياب تام للظهير الأمريكي لتركيا، بخلاف ما كان في عهد دونالد ترامب. فقد استعاد نظام بشار، بدعم روسي، السيطرة العسكرية التامة في درعا البلد وبلدات أخرى في محافظة درعا، بعد حصار وقصف استمر لأكثر من شهرين، ولم يصدر مجرد تصريح أمريكي مندد بذلك. كذا غابت واشنطن عن موجة التصعيد الأخيرة في إدلب وريف حلب وعفرين، حتى على مستوى التصريحات. بل إن الرئيس التركي الذي شارك في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، منتصف الشهر الحالي، عبر بصراحة عن خيبة أمله من العلاقة مع إدارة جو بايدن، بعدما أخفق في ترتيب لقاء مع الرئيس الأمريكي على هامش اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك.
هذا الجفاء المعلن بين واشنطن وأنقرة هو مما يسر الرئيس الروسي باعتباره شقاقاً بين خصمين عضوين في الحلف الأطلسي، ومما يقوي موقفه الابتزازي تجاه تركيا. يمكن قراءة تصريحه لوسائل الإعلام قبيل الاجتماع مع أردوغان في هذا الإطار، إذ قال: «لقاءاتنا مع تركيا تكون صعبة أحياناً، لكنها تنتهي دائماً نهاية إيجابية، فقد تعلمنا كيف نتوافق».
وبالنسبة لإدلب اشتكى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من «تباطؤ» تركيا في الوفاء بالتزاماتها وفق اتفاق 2020، بخصوص عزل المنظمات الإرهابية عن الفصائل المعتدلة، وفقاً للرطانة الروسية المعتادة، وهو ما يصعب على تركيا تحقيقه في منطقة تسيطر على معظم أراضيها «هيئة تحرير الشام». إذن سيكون «تسريع» العزل المطلوب مطلباً روسياً ضاغطاً مقابل خفض التصعيد الروسي.
على أبواب فصل الشتاء، ومع نمو الاحتياجات التركية من الغاز الطبيعي الذي يشكل أحد أهم وسائل التدفئة المنزلية، إضافة إلى استخدامه في توليد الطاقة الكهربائية، سيحتاج أردوغان إلى قدرة إقناع كبيرة لاستجرار ما يسد النقص في السوق من الغاز، بأسعار خاصة، في ظل ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا ارتفاعاً حاداً. هذا موضوع ابتزاز آخر، أو إغراء لتركيا مقابل تلبية مطالب روسية إضافية.
الخلاصة أن الاجتماع الجديد بين أردوغان وبوتين سيكون صعباً على الرئيس التركي.
المصدر: القدس العربي