أحمد ت. كورو*
حتى بعد مرور 20 عاما على أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر واجه العالم تحديا مزدوجا متمثلا في مشاعر معاداة الإسلام والغرب. الباحث أحمد ت. كورو يقدم حججه لموقع قنطرة على أن المسلمين في الغرب -ذوي المعرفة الجيدة بالثقافتين الغربية والمسلمة على حد سواء- هم مفتاح تبديد نفور متبادل يشعر به كثيرون.
* * *
بعد أيام قليلة من الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في عام 2001، اتصل بي والدي الراحل. وبصوت قلق لكن حازم، طلب مني الانتقال من سياتل، التي كنت أكمل دراستي للدكتوراه فيها، إلى كندا ومن هناك إلى تركيا. إذ أنّ أي محاولة للسفر مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية إلى تركيا قد تبدو مشبوهة، ولا سيما أنّ اسمي أحمد.
شرحت لوالدي أنه ليس لدي ما يدعو للقلق. ولكنه أصرّ: “يا بني، أنت لا تفهم؛ لقد أعلنت الولايات المتحدة الحرب”. إلى هذا الحد كان أبي قلقاً في تركيا في ذلك الوقت، وهو الاقتصادي تعليماً والسياسي مهنياً.
من ناحية كان أبي مخطئاً، فأنا أعيش في الولايات المتحدة لعقدين من الزمن منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر من دون أن أواجه أي مشكلة تتعلق بهويتي المسلمة. ومن ناحية أخرى كان والدي محقّاً، فقد أعلنت الولايات المتحدة “حرباً على الإرهاب”، وهي حرب ذات نتائج عكسية، وتضمّنت غزو العراق وأفغانستان، وانتهت أخيراً قبل بضعة أسابيع فقط في أغسطس / آب 2021.
إذاً ما الذي تعلمناه خلال هذه المغامرة التي امتدّت لعشرين عاماً؟ وكيف أثّرت هذه المغامرة على العلاقة بين العالمين الغربي والمسلم؟
ذكّرت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر العديد من الناس بنظرية الباحث السياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون “صراع الحضارات”.
أعطى تدمير جدار برلين في عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي بعد ذلك بعامين زخماً خاصاً للديمقراطية على مستوى العالم، لا سيما في أوروبا الشرقية. وبينما استمر التفاؤل بالديمقراطية في أنحاء العالم، جاء هنتنغتون بنظرية متشائمة في عام 1993 قسمت العالم إلى ثماني حضارات وتوقّع صراعاً بين الغرب والبلدان المسلمة، ولا سيما إن تحالفت هذه البلدان المسلمة مع الصين.
وقد تحوّلت نظرية هنتنغتون هذه، التي استبدلت بالعدو السوفييتي القديم عدواً إسلامياً جديداً، إلى وسيلة أساسية لتأطير هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وبالنسبة لبعض صانعي السياسات على الأقل كانت الهجمات الإرهابية هذه عبارة عن تحدٍّ من جانب المسلمين، الذين “يكرهوننا”. وبالتالي ينبغي الرد على هذه الهجمات بالطريقة الوحيدة التي سيفهمونها، أي الحرب والاجتياح.
بدايات خاطئة ونتائج مأساوية
كان لدى الولايات المتحدة عذراً مشروعاً لاجتياح أفغانستان في عام 2001. ففي نهاية المطاف كان نظام طالبان يأوي المشتبه به الرئيسي في أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أي القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن. بَيْد أنّ اجتياح العراق في عام 2003 لم يكن له أي عذر من هذا القبيل، فعلى النقيضِ من ذلك كان غزو العراق مستنداً على بعض الاتهامات الملفقة حول كون العراق على صلة بأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، إضافة إلى مزاعم خاطئة حول حيازة العراق لأسلحة دمار شامل.
وبعد فترة وجيزة من غزو الولايات المتحدة للعراق، أُضيف عنصر آخر إلى السردية التي تبرّرُ الاجتياح: كان من المفترض أن يتحوّل العراق إلى نموذج للديمقراطيةِ في الشرق الأوسط، مثل التحولات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية في اليابان وألمانيا. بيد أنه في غضون عامين بدا أنّ ثقة الجمهور في هذا التشبيه في غير محلها. إذ أنّ الظروف في العراق كانت مختلفة للغايةِ وأدى تفكيك الأمريكيين للمؤسسات العسكرية والسياسية العراقيةِ إلى عدم استقرار طويل الأمدِ.
وبعد مرور ما يقرب من عقدين على هذه الغزوات (في أفغانستان والعراق)، يتفقُ معظم المراقبين على فشلها الكامل. ويبدو أنّ الهدفَ الوحيد الذي حققته الولايات المتحدة هو قتل أسامة بن لادن وإضعاف تنظيم القاعدةِ إلى حد كبير. وعلى الرغم من العدد الكبير من الخسائرِ العسكريةِ وتريليونات الدولارات المستثمرة في ذلك، لم تحقق الولايات المتحدة شيئاً يُذكر.
واليوم تؤسِّسُ طالبان نظامها الجديد في أفغانستان عبر بناء علاقات مع إيران وروسيا أفضل مما تمتعت به في السابقِ.
كما اكتسبت إيران من جانبها نفوذاً أكبر في العراق. فبعد أن كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من ألدّ أعداء نظام صدام حسين، أصبحت الدولة التي تمتلك التأثير الأكبر على السياسة العراقية بعد الاجتياح الأميركي. ومن الواضح أنّ هذا الأمر هو خسارة جيوسياسية للولايات المتحدة الأميركية.
بيد أنّ الأهم من ذلك هو أنّ الولايات المتحدة خسرت إلى حد كبير سمعتها في المجتمعات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم.
إذ يُنظرُ إليها الآن بوصفها فاعلا عدوانيا مسؤولا عن مقتلِ عدد هائل من الناس في العراق وأفغانستان، وهذا ما يُؤجِّجُ المشاعر المعادية للغرب الكامنة في العديد من البلدان ذات الأغلبيةِ المسلمةِ.
الإسلاموفوبيا ومعاداة الغرب
ويمكننا القول إنّ تفاقم الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة الأمريكية ومعاداة الغرب في العالم المسلم هما من أسوأ نتائج هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، والاجتياح الناتج عنها لكل من أفغانستان والعراق، ناهيك عن الهجمات الإرهابية المتعددة التي نفذها مسلمون في مدن أوروبية مختلفة على مدى السنوات العشرين الماضية.
بعد تسع سنوات على أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أثار جدل واسع حول بناء مسجد ومركز ثقافي إسلامي بالقرب من موقع برجي التجارة العالميين المدمَّرين في مانهاتن ضجة كبيرة، إلى درجة أن مجلة تايم ردّت على هذه الضجة بسؤال على صفحة غلافها يقول “هل أميركا معادية للإسلام؟”.
ومنذ ذلك الوقت اتّخذت أميركا خطوات مهمة في سبيل دمجِ المسلمين في التيار الرئيسي للمجتمعِ الأميركي. واليوم يضمُّ مجلس النوابِ الأميركي ثلاثة أعضاء مسلمين، ومن بينهم إلهان عمر، أول نائبة ترتدي الحجاب، ورشيدة طليب، أول نائبة من أصول فلسطينية مسلمة، وهما معروفتان للجمهور بشكل كبير. وقد تزامن هذا مع انتقادات عامة متزايدة في الولايات المتحدة للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
إضافة إلى ذلك عزّز الرياضيون والفنانون وغيرهم من المهنيين المسلمين مكانتهم العامة في المجتمع الأميركي، وهذا ما يعكسه أحد الأغلفة الحديثة لمجلة نيوزويك: “منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، اكتسب المسلمون في الولايات المتحدة تأثيراً ثقافياً وسياسياً غير مسبوق”.
بيد أنّ بعض الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا، اتّبعت مساراً مختلفاً. ففي عام 2004 حظر البرلمان الفرنسي على الطالبات المسلمات ارتداء الحجاب، إضافة إلى بعض الرموز الدينية “المرئية” الأخرى، في المدارسِ العامةِ. ومنذ ذلك الوقت، يواصلُ سياسيون فرنسيون اقتراح سياسات وقوانين جديدة للتعامل مع “المسألة الإسلامية”. ومؤخراً ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حد إعلان نيته خلق “إسلام مستنير”. ومنذ حوالي شهر أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية مشروع قانون لمكافحة “النزعات الانفصالية”، وهو قانون يقيّدُ حريات دينية متنوعة، مع تركيز خاص على الإسلام.
كما يبدو أنّ هناك فجوة بين السياسات الأميركية والفرنسية تجاه الأقليات المسلمة في البلدين. ففي الولايات المتحدة الأميركية ولا سيما بعد حركة “حياة السود مهمة” يوجد تركيز الآن على الاعتراف بالهويات المتعددة وحتى الاحتفاء بها، بينما في فرنسا يستهدف موقفٌ استيعابيٌّ إذابيٌّ للهوية الأقليةَ المسلمةَ، عبر تجاهل العنصر العرقي، رغم أنّ أغلب المسلمين في فرنسا هم إما مهاجرون من أفريقيا أو من ذريتهم. ومن ناحية أخرى، لو أعيد انتخاب دونالد ترامب مرة أخرى، لربما رأينا الإدارة الأميركية تفرض قيوداً معينة على المسلمين، ومن المرجح أنّ حظر السفر الذي فرضه ترامب على المسافرين من عدة بلدان ذات أغلبية مسلمة كان مجرد البداية.
وقد أدّت هذه السياسات التقييدية في البلدان الغربيةِ، إضافة إلى غزوات الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تغذيةِ الشعور المعادي للغرب في العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة. كما رُوِّج لمعاداة الغرب في هذه البلدان عبر نظريات مؤامرة عديدة ومن خلال الديماغوجية السياسية والتعصب الديني. ومن المثير للدهشة أنه في الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى التطهير العرقي والديني ضد عشرة ملايين من مسلمي الإيغور عبر وضع مليون منهم في معسكرات اعتقال، وهي فظائع وثقتها وسائل الإعلام الغربية، لا تزال معاداة الغرب شعوراً قوياً في أجزاء كثيرة من العالم المسلم.
كيف نصل إلى تفاهم متبادل؟
تعلمت البشرية دروساً معينة من مآسي الحرب العالمية الثانية. وقد انعكس ذلك عبر تأسيس الأمم المتحدة ووُثِّقت بالعديد من الطرق، أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. بيد أنه سرعان ما نُسيت العديد من هذه الدروس وبدأت الحرب الباردة وسباق التسلّح.
وقادت نهاية الحرب الباردةِ في عام 1989 إلى زخم عالمي باتجاه التحول الديمقراطي. لكن هذا التفاؤل واجهته نظرية صراع الحضارات التي أدّعت وجود حرب باردة جديدة بين العالم المسلم والغرب. بالنسبة للبعض شكّلت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تأكيداً على هذه النظرية، مما أنهى فجأة موجة التفاؤل التي كانت قد بدأت قبل حوالي اثني عشر عاماً من هذه الهجمات.
وبعد عشرين عاماً من هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، نواجه تحدياً مزدوجاً يتمثّلُ في الإسلاموفوبيا ومشاعر معاداة الغرب. وأفضل من يمكنهم مواجهة هذا التحدي هم المسلمون في الغربِ. فهم على معرفة جيدة بالسياقين المسلم والغربي، ووجودهم بحدّ ذاته يدحضُ التعارض الثنائي المزعوم بين الإسلام والغرب. ومن شأن نجاح المهنيين المسلمين في المجتمعات الغربية أن يساعد في زيادة فرص تبديد النفور المتبادل الذي يشعر به الناس في العالم المسلم وفي الغرب منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر.
* أحمد ت. كورو هو بروفيسور العلوم السياسية في جامعة سان دييغو، وباحث في معهد الحرية الدينية. ومؤلف كتاب “العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين: الولايات المتحدة، وفرنسا، وتركيا” ومحرر مشارك لكتاب “الديمقراطية، والإسلام، والعلمانية في تركيا”، تُرجِمت أعماله إلى عدة لغات كالعربية والبوسنية والصينية والفرنسية والإندونيسية والتركية. حاز كتابه “الإسلام والسلطوية والتأخر: مقارنة عالمية وتاريخية” على جائزة كتاب قسم السياسة والتاريخ الدولي من الجمعية الأمريكية للعلوم السياسيةِ. في الصورة: الباحث الأمريكي من أصل تركي أحمد ت. كورو أستاذ العلوم السياسية بجامعة ولاية سان دييغو.
المصدر: (موقع قنطرة) /الغد الأردنية