يوسف بدر
منذ توقيع مصر على معاهدة “كامب ديفيد”، وعلاقاتها الدبلوماسية مع إيران في حالة انقطاع، إلا على مستوى تمثيل المصالح. لكن ذرائع طهران لهذه القطيعة قد فقدت بريقها الآن، بينما بالنسبة للقاهرة ما زالت هناك أسبابها القوية.
ولطالما تكررت إشارات التقارب بين البلدين، لكنها كانت دائماً بحاجة إلى فضاء يساعد على دفعها للاكتمال، ما يعني أن الطريق ما زال طويلاً لاجتياز كافة الصعوبات التي تمنع عودة العلاقات، خاصة أن ثقل مصر ومكانتها الإقليمية، يزيدان من هذه الصعوبة، إذ يرتبط تحسين هذه العلاقات بحل الكثير من القضايا الإقليمية أولاً.
وإن كانت الإشارات الأخيرة من جانب إيران، التي أبدت رغبتها في إعادة العلاقات مع مصر، ليست هي الأولى، لكنها الأهم؛ لأنها تأتي في ظل صعود حكومة محافظة في إيران برئاسة إبراهيم رئيسي، وخاصة أن قرار القطيعة جاء بأمر المرشد الأول، الخميني. وبعد ذلك، لم تأت محاولات التقارب إلا من جانب حكومات الإصلاحيين.
كذلك، تؤكد هذه الإشارات على سياسة الحكومة الإيرانية الجديدة، التي تتعامل مع الملفات الإقليمية بنظرة “براغماتية” و”واقعية” من أجل مساعدة إيران على تجاوز أزماتها وعزلتها، خاصة أن المحافظين حريصون على نجاح سياستهم في إدارة البلاد وحل مشكلاتها؛ خشية سقوط نظامهم.
وهذه الإشارات قد جاءت صراحة من جانب المدير العام للشرق الأوسط بالخارجية الإيرانية، ميرمسعود حسينيان بقوله إن بلاده تعمل على تحسين العلاقات مع مصر. وأعقبتها تصريحات المتحدث باسم الخارجية سعيد خطيب زاده بأن التقدم في العلاقات بين القاهرة وطهران “يصب في مصلحة المنطقة”.
ويبدو أن وضع تحسين العلاقات مع مصر على رأس أجندة إيران الخارجية؛ هو قرار من السلطة الأعلى بقيادة المرشد علي خامنئي؛ فقد كشفت صحيفة “العربي الجديد” عن إستضافة القاهرة لوفد أمني إيراني في يوليو (تموز) الماضي. ويأتي ذلك اللقاء قبل تسلم رئيسي للسلطة.
كما أن رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة، ناصر كنعاني ، لطالما كرر المطالبة بفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
والواضح، أن المساعي الجارية لتحسين العلاقات بين طهران والرياض، هي جزء من مشروع أكبر يتعلق بتغيير السياسة الإيرانية تجاه دول الجوار، ومنها مصر.
وتمثل قمة “دول الجوار” التي عقدت في بغداد في نهاية آب (أغسطس) الماضي، حراكاً عملياً لذلك؛ فقد أتت هذه القمة بعدما أعلنت بغداد نيسان (أبريل) الماضي، “إن رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، يرعى وساطة قد تنهي صراعاً دام 31 عاما بين السعودية وايران…، وقد تشمل دولاً أخرى”.
وخلال هذه القمة حرص وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان على عقد لقاءات جانبية مع مسؤولين عرب، منهم الرئيس المصري. وكانت هذه إشارة على رؤية إيرانية جديدة؛ فمساعي طهران لإعادة العلاقات مع القاهرة تدل على أنها قد تجاوزت مرحلة حكم الإخوان في مصر بسقوط محمد مرسي، وأنها الآن تفكر بطريقة تخدم بها مصالحها الخارجية، بعدما ظلت لسنوات تحاول توظيف ثورات العالم العربي بما يخدم أيديولوجيتها التوسعية تحت اسم دعم “الصحوة الإسلامية”.
ما الذي تغير الآن؟
صعد المحافظون إلى السلطة في إيران، وقد أظهروا تناقضاً واضحاً بين سياساتهم قبل وبعد الصعود، إذ هم من أفشل الإتفاق النووي في عهد حكومة روحاني الإصلاحية؛ من خلال تقديم الأموال العائدة من الخارج، إلى المليشيات المسلحة؛ مما زاد من حدة التوتر وعزلة إيران في المنطقة. وهم الآن من يسعون إلى الانفتاح على محيطهم الإقليمي.
وبدأت الولايات المتحدة الأميركية في فك ارتباطها من منطقة الشرق الأوسط وغرب أسيا؛ ما يستوجب تشكيل محور أمني من القوى الإقليمية لسد الفراغ الأمني، وهذا الأمر يحتاج إلى مصر بصفتها قوة إقليمية مهمة. خاصة أن هناك محاور أمنية واقتصادية بدأت تتشكل بالفعل بمشاركة القاهرة، منها محور “الشام الجديد”، الذي يضع الأقدام المصرية على خريطة “الهلال الشيعي”، والذي يعتبر بمثابة نواة لتكامل عربي اقتصادي سياسي قابل للتوسع بانضمام سوريا ولبنان.
شرعت إيران في محادثات غير معلنة مع السعودية؛ حيث تدرك طهران أن هذه المحادثات مفتاح لعلاقاتها مع باقي الدول العربية بما فيها مصر، التي تشترط لإعادة علاقاتها مع طهران، وقف التدخلات الإيرانية في دول المنطقة، وعلى رأسها مسألة اليمن، التي تشغل القاهرة والرياض.
كذلك، نجاح إيران في حل مشاكلها مع العالم العربي؛ هو نجاح لتفعيل منظمات كبرى، مثل “التعاون الإسلامي” و”حركة عدم الانحياز”، وهي منظمات تستند إليها طهران في دعم موقفها من القضايا الدولية.
دخول العامل “الإسرائيلي” في المعادلة الجيوسياسة-والأمنية في محيط إيران جعل طهران تسعى إلى اقترابٍ موازٍ من محيط إسرائيل، التي دخلت إلى منطقة الخليج عبر “الإتفاق الإبراهيمي”. كما تحاصر إيران في العراق عبر إقليم كردستان. فضلاً، عن التحالف الثلاثي بين إسرائيل وتركيا وأذربيجان لأهداف مشتركة محورها تحييد إيران أمنياً واقتصادياً، وكان الدعم الذي قدمته إسرائيل لآذربيجان في حرب ناغورنو كراباخ الأخيرة نتاج لهذه التحالف.
أيضاً، تحكم العلاقة التنافسية التاريخية مع تركيا، سلوك طهران الخارجي؛ فالوجود الإيراني في بلدان مثل العراق وسوريا مرتبط بهذا التنافس. وأمام الخيبات التي تواجهها تركيا في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الإسلاميين؛ نجد أنقرة تركز اهتمامها على منطقة القوقاز وأسيا الوسطى؛ لأهدف مشتركة مع القوى الغربية. وهذا الأمر يسترعي انتباه طهران للتركيز على مناطق جديدة تقلق فيها من التنافس التركي.
هل تربح القاهرة؟
وتمثل عودة العلاقات بين القاهرة وطهران، نقطة إضافية في مسار استقلال القرار المصري على المستوى السياسي؛ إذ سعت مصر منذ حكم الرئيس السيسي إلى تحقيق علاقات خارجية متوازنة ومتنوعة بهدف تحرير القرار المصري من الضغوط الخارجية. وتكون إستعادة العلاقات مع إيران، فرصة لتحقيق هذا التوازن أمام قوى منافسة مثل تركيا وإسرائيل؛ خاصة أن مصر تواجه تحديات مستقبلية كثيرة، منها أمنها المائي وقضية سد النهضة، وأمن ممراتها التجارية والمائية نحو قناة السويس.
أيضاً، التوقف عند الحدود الإيرانية بسبب القطيعة الدبلوماسية يمنع مصر من عبور تجارتها بسهولة إلى منطقة القوقاز وأسيا الوسطى، ويجعلها في حاجة دائماً إلى روسيا وتركيا للعبور. وهذا الأمر يتعارض مع الطموحات المصرية التي تسعى لفتح آفاق علاقاتها مع كافة المناطق الصاعدة ذات الأهمية، والتي منها إيران وما وراءها.
المحصلة
إن هناك مكاسب متبادلة من عودة العلاقات بين مصر وإيران. وتمثل المحادثات الإيرانية الدائرة الآن مع السعودية مفتاح الشروع لامكانية هذه العودة، ليس لأن هناك “فيتو” سعودياً على القرار المصري؛ ولكن لأن هذا شرط مصر لتحقيق علاقات في مناخ طبيعي.
إن الطريق إلى مصر مازال طويلاً أمام إيران؛ إذ يستوجب الكثير من الجهد لإصلاح ما أفسدته إيران في المنطقة؛ خاصة علاقاتها مع المليشيات المسلحة، الذي تتطلب إعادة تقييم وضبط.
المصدر: النهار العربي