إيفا كولوريوتي
“ما جرى في شمال سوريا هو القشّة التي قصمت ظهر البعير وتركيا ستقوم باللازم ” هذه كانت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما بعد الهجوم الصاروخي الذي نفذته قوات تابعة لميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية ضد سيارة للشرطة التركية جنوب مدينة مارع شمال سوريا، الهجوم الذي أودى بحياة شرطيين تركيين وجرح اثنين آخرين أتى بالتوازي مع تصعيد ميداني ودبلوماسي لدى كل من روسيا وأمريكا ضمن الملف السوري بشكل عام.
الهجمات الصاروخية والجوية
موسكو ومن خلفها الميليشيات الإيرانية وميليشيات الأسد زادت من هجماتها الصاروخية والجوية على محافظة إدلب ومحيطها ثم امتد هذا القصف ليشمل عفرين والباب ومناطق عملية نبع السلام.
هذا التصعيد الروسي ينطلق من حقيقة أن موسكو ترى أن الواقع الميداني المجمّد منذ آذار- مارس العام الماضي لم يعد مناسباً لرؤيتهم و للتطورات في الساحة الدولية.
أما على الجانب الأمريكي فهجوم مارع أتى بالضبط من بعد ساعات قليلة لإصدار البيت الأبيض ورقة إدانة لما وصف بالتحركات التركية المسببة لعدم الاستقرار في الشمال السوري ضمن توجه أمريكي معاد ورافض للسياسية التركية في الملف السوري بشكل عام والتي تأتي بالتوازي مع رؤية ديمقراطية أمريكية غير سعيدة بتحركات أردوغان وسياساته الإقليمية والدولية عموماً ، وفي ظل هذا الضغط الروسي والتوعّد الأمريكي أتى هجوم مارع لتعود طبول الحرب لتقرع من جديد في أنقرة فإلى أين يتجه المشهد في شمال سوريا ؟
في البداية يجب وضع بعض الثوابت بالاعتبار قبل رسم السيناريوهات التي يتم دراستها حالياً في أنقرة للرد على هجوم مارع ، ومن هذه الثوابت هي أن الهجوم الذي نفّذته ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية قد أتى بالتنسيق مع روسيا بشكل كامل، فمنطقة تل رفعت والتي انطلق منها هذا الهجوم يتم إمدادها بالدعم البشري والمادي من مناطق شرق سوريا عبر مناطق نظام الأسد بوساطة روسية، كما أن بقاء هذه السيطرة أتى ضمن رؤية روسية تحت شرط أن لا تُقدِم هذه الميليشيات على أي تحرك عسكري دون ضوء أخضر من موسكو وقاعدتها في حميميم.
أما الثابت الثاني فهو أن هذه الميليشيات الكردية (التي تقودها شخصيات تابعة لمنظمة حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابياً) تحت الحماية الأمريكية في سوريا وهذه الحماية في ظل وجود الديمقراطيين في البيت الأبيض حماية حقيقية وليست كما كانت عليه الحال تحت إدارة ترامب و الذي كان يعتبرهم ورقة لا أكثر ، و عليه فإن الديمقراطيين مستعدون للتصعيد في سبيل الإبقاء على هذه الميليشيات. انطلاقاً من هذه الثوابت يمكن دراسة السيناريوهات الممكن لأنقرة في الشمال السوري.
دراسة السيناريوهات
ضمن أي عمل عسكري تركي ممكن فإن أربع مناطق تضعها تركيا نصب عينيها في شمال سوريا وهي: كوباني ( عين العرب ) – تل رفعت – منبج – عين عيسى ، هذه المناطق لها أهميتها الاستراتيجية وعلى رأسها تل رفعت التي تشكل نقطة تمركز مهمة شمال مدينة حلب و مطّلة على الطريق الدولي حلب – غازي عنتاب كما أنها ذات تهديد مباشر على نفوذ إيران في بلدتي نبل و الزهراء ، التطور الحالي أتى من بعد قمة سوتشي التي جمعت كل من بوتين وأردوغان بشكل يوحي أن نتائج هذه القمة لم تكن مرضية لروسيا ضمن الملف السوري، وبالتالي أي عمل عسكري في مناطق محسوبة على موسكو ( تل رفعت – منبج – عين عيسى ) ستحتاج من أنقرة أن تكون مرنة لرفع يدها عن مناطق في إدلب ومحيطها.
أما على الجانب الآخر من الفرات فإن أي تقدم عسكري تركي هناك ( كوباني ـ الدرباسية ) حيث النفوذ الأمريكي سيكون بمثابة فخ لأردوغان وحكومته في ظل عدم استقرار اقتصادي وتذبذب لسعر الليرة التركية أمام الدولار ، خطوط النار هذه تجعل تركيا أمام خطابين الأول علني حيث التصعيد والوعيد وآخر أكثر براغماتية يبحث عن صفقة “ما ” .
قد يرى البعض أن أنقرة اليوم في موقع المضطر للتحرك شمال سوريا حفظاً لماء الوجه إلا أن للمشهد حقيقة مغايرة فهذا الهجوم قد يكون أتى بتوقيت مثالي لأنقرة وعلى عدة جبهات ، فبالرغم من دموية هذا الهجوم إلا أنه ليس الأول كما أنه ليس الأضخم ضد القوات التركية في سوريا، فمن بعد يومين من هذا الهجوم تعرضت دورية تركية أخرى لعبوة ناسفة في محافظة إدلب أدت لمقتل جنديين إلا أن هذا الهجوم الذي تبنته ميليشيا غير معروفة لم يتم تضخيمه إعلامياً من قبل الإدارة التركية كما هو الحال في هجوم مارع – تل رفعت و لهذا عدة أسباب، أهمها أن تركيا التي تواجه ضغوطات اقتصادية داخلية تتأثر بشكل كبير بالتوجه الأمريكي العام تجاهها وهذا التوجه السلبي مؤخراً من عقوبات بسبب صفقة الاس 400 مع روسيا وإنهاء دور تركيا في مشروع طائرات الإف 35 الأمريكية ثم التنديد الأمريكي للدور التركي في سوريا، كل هذه الأوراق الأمريكية ضد أنقرة تدفع الإدارة التركية للبحث عن أوراق مضادة وعليه فإن التهديد بعملية عسكرية ضد الميليشيات الكردية في شمال شرق سوريا سيجبر واشنطن للجلوس على طاولة التفاوض في سبيل منع هذه العملية وبالتالي تستطيع تركيا أن تحصل مقابل عدم الذهاب نحو الحل العسكري مكسبا “ما” من واشنطن ، و هو بالفعل ما ترجمه تصريح وزارة الخارجية الأمريكية قبل أيام أن واشنطن لاتزال مستعدة لمناقشات دور تركيا في مشروع الإف 35 و الذي تلاه من مؤشرات إيجابية عن صفقة بيع طائرات إف 16 من الجيل الرابع لأنقرة.
الضفة الروسية
على الضفة الروسية فإن تهديد أنقرة بشن عمل عسكري في مناطق تل رفعت ومنبج وعين عيسى ذات النفوذ الروسي سيشكل تهديداً خطيراً على رؤية موسكو للمنطقة بشكل عام ، فاندفاع تركيا نحو هذه العمل العسكري سيضع موسكو أمان سيناريوهين ، الأول أن تسمح بهذه العملية العسكرية وبالتالي تفقد موسكو ثقة الميليشيات الكردية في سوريا، وهو نقطة مهمة عملت عليها روسيا خلال العامين الماضيين ما بعد عملية نبع السلام، أما الخيار الثاني فهو مواجهة تركيا وهو ما قد يدفع أنقرة نحو قلب موازين المشهد العسكري في شمال سوريا، كما قد يؤثر على تفاهمات عدة بين موسكو وأنقرة كالملف الليبي وملف ناغورنو كاراباخ ، هذان الخياران المرّان قد يدفعان موسكو في المرحلة الحالية نحو التقليل من اندفاعها في إدلب في سبيل امتصاص الغضب التركي مما جرى في مارع .
إن التصعيد الإعلامي والمتصاحب مع لغة التهديد من قبل المسؤولين الأتراك تعيد للأذهان ما جرى من تمهيد ما قبل عمليات نبع السلام وغصن الزيتون، قد تكون تركيا بحاجة ماسة لتقليل أعداد اللاجئين السوريين في الداخل التركي من خلال السيطرة على مناطق جديدة إلا أن هذه الرغبة تتصادم مع مشهد سياسي مختلف تماماً سواء في موسكو أو واشنطن لما كان عليه الحال عام 2019 ، فروسيا أصبحت أقل مرونة للمناورات التركية في ظل انحسار مناطق سيطرة المعارضة السورية لتصبح ذات تأثير عسكري منخفض، وعلى الجانب الأمريكي يقف الديمقراطيون بانتظار أي خطأ لأردوغان وإدارته للانقضاض على اقتصاده المتعب سلفاً في سبيل تقليل حظوظ حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة.
في المحصلة قد يكون خيار الضربات الجوية لنقاط تمركز ميليشيات وحدات حماية الشعب دون تغيير في مناطق السيطرة الخيار الأسلم لتركيا مع البحث عن مكاسب لا تشمل الجغرافيا السورية.
محللة سياسية يونانية مختصة في شؤون الشرق الأوسط
المصدر: القدس العربي