ماري إليز ساروت
في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وصل وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر إلى موسكو وسط فوضى سياسية للقاء الزعيم الروسي بوريس يلتسين، الذي كان مشغولاً في ذلك الوقت بانتزاع السلطة من خصمه، الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. كان يلتسين قد أدلى أخيراً ببيان صادم بأنه وزعماء بيلاروس وأوكرانيا يفككون الاتحاد السوفياتي، بدافع جعل غورباتشوف عاجزاً عن طريق تحويله من رئيس دولة ضخمة إلى رئيس لا شيء.
على المدى القصير، كانت خطوة رائعة، وفي غضون عشرة أيام، نجحت تماماً. إذ استقال غورباتشوف وانهار الاتحاد السوفياتي. في المقابل، كان من الصعب فهم العواقب على المدى الطويل.
حتى قبل مناورة يلتسين، بدأ بيكر يقلق بشأن ما إذا كانت رغبة بعض الجمهوريات السوفياتية في الاستقلال قد تؤدي إلى إراقة الدماء. في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، سأل أحد مستشاري غورباتشوف، ألكسندر ياكوفليف، عما إذا كان انفصال أوكرانيا سيؤدي إلى مقاومة روسية عنيفة. كان ياكوفليف متشككاً وأجاب أن هناك 12 مليون روسي في أوكرانيا، “والعديد منهم في زيجات مختلطة”، إذاً “أي نوع من الحرب قد يحدث”؟ وأجاب بيكر ببساطة: “حرب عادية”.
إذاً، مع قيام يلتسين برفع الرهان عن طريق الدعوة إلى التدمير الكامل للاتحاد السوفياتي، نشأ لدى بيكر خوف جديد. ماذا سيحدث للترسانة النووية السوفياتية الضخمة بعد انهيار القيادة والسيطرة المركزية؟ كما نصح رئيسَه، جورج دبليو بوش، فإن الإمبراطورية المتفككة التي تحتوي على “30 ألف سلاح نووي تشكل خطراً كبيراً على الشعب الأميركي العالِم بذلك والذي سيحمّلنا المسؤولية إذا لم نرد”.
بالتالي، كان هدف رحلة بيكر في ديسمبر 1991 هو التأكد من الجهة التي ستحتفظ بصلاحية التصريح بإطلاق سلاح نووي وكيف يمكن تنفيذ هذا الأمر المصيري بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. بعد وقت قصير من وصوله، دخل مباشرة في صلب الموضوع. ولكن هل سيخبره يلتسين؟
اللافت أن الرئيس الروسي قام بذلك فعلاً. كان انفتاح يلتسين على بيكر في جزء منه، بمثابة مناورة لكسب مساعدة الولايات المتحدة في صراعه مع غورباتشوف، وفي جزء آخر، محاولة لتأمين المساعدة المالية. لكنّه شكّل أيضاً إشارة تدلّ على رغبته في إنشاء بداية جديدة في علاقة موسكو مع الغرب، علاقة تتسم بالانفتاح والثقة. وسرعان ما بدأ يلتسين وبيكر بالعمل جنباً إلى جنب لضمان خروج دولة وريثة نووية واحدة فحسب في نهاية المطاف من الانهيار السوفياتي، وهي روسيا.
واستمرّ هذا التعاون على الرغم من خسارة بوش في الانتخابات عام 1992. وواصل يلتسين جهوده مع الرئيس بيل كلينتون، ووزيري الدفاع الأميركيين ليه آسبن وويليام بيري، وستروب تالبوت، كبير مستشاري كلينتون لروسيا، من بين آخرين، لضمان تدمير الأسلحة الذرية السوفياتية السابقة في بيلاروس وكازاخستان وقبل كل شيء أوكرانيا، أو نقلها إلى الأراضي الروسية. خلال قمة عقدت في عام 1997، طرح يلتسين سؤالاً على كلينتون حول ما إذا كان بإمكانهم التوقف عن استخدام المشغلات النووية بشكل متواصل: “ماذا لو تخلينا عن الاضطرار إلى وضع إصبعنا بجوار الزر طوال الوقت”؟ أجاب كلينتون، “إذا فعلنا الصواب في السنوات الأربع المقبلة، فربما لن نضطر إلى التفكير كثيراً في هذه المشكلة”.
ولكن بحلول نهاية التسعينيات، تلاشت تلك الثقة إلى حد كبير. إذ إنّ فلاديمير بوتين، خليفة يلتسين المختار بعناية، لم يكشف عن الكثير في محادثات الـ 1999 التي أجريت على مضض مع كلينتون وتالبوت. بدلاً من مشاركة بروتوكولات الإطلاق الروسية، ركّز بوتين بمهارة على حاجته الملموسة إلى خط كرملين أكثر تشدداً من خلال وصف العواقب الوخيمة الناتجة من تراجع القوة الروسية، مشيراً إلى أنّ الإرهابيين في المناطق السوفياتية السابقة، يلعبون الآن كرة القدم برؤوس الرهائن المقطوعة.
وكما قال بوتين لاحقاً، “من خلال إطلاق استعراض السيادة”، وهو مصطلح يستخدمه للإشارة إلى حركات استقلال الجمهوريات السوفياتية في 1990-1991، “ساعدت روسيا بحد ذاتها في انهيار الاتحاد السوفياتي”، وهي النتيجة التي فتحت الباب أمام مثل هذه الفوضى المروّعة. في رأيه، كان على موسكو أن تعمل بجهد وحزم، داخل الاتحاد وخارجه، بدلاً من الوقوف جانباً بينما غادرت دول الكتلة السوفياتية السابقة للانضمام إلى الغرب. وقال في هذا السياق: “كنا سنتجنب مشكلات كثيرة لو لم يقم السوفيات بمثل هذا الخروج المتسرع من أوروبا الشرقية”.
وبمجرد وصول بوتين إلى السلطة، بدأ يتراجع عن إضفاء الطابع الديمقراطي على حقبة يلتسين وعن المشاريع التعاونية مع واشنطن. وعلى الرغم من وجود حلقات ملحوظة تعيد إحياء روح أوائل التسعينيات، مثل التعبير عن التعاطف بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية والاتفاق النووي في عام 2010، كان خط الاتجاه الأساسي سلبياً. ووصلت العلاقة إلى مستويات منخفضة جديدة مخيفة خلال نزاع روسيا مع جورجيا عام 2008 وغزوها لأوكرانيا عام 2014، وغرقت أكثر منذ عام 2016، بسبب الكشف عن الهجمات الإلكترونية الروسية على الشركات والمؤسسات والانتخابات الأميركية.
لماذا تدهورت العلاقات بين واشنطن وموسكو بشدة؟ نادراً ما يكون التاريخ أحادي السبب، في الواقع، كان الانحلال نتاجاً تراكمياً للسياسات والأنظمة الأميركية والروسية بمرور الوقت. لكن من الصعب الهروب من حقيقة أن سياسة أميركية معيّنة، وهي الطريقة التي وسعت بها واشنطن حلف الناتو، زادت الأعباء على الديمقراطية الروسية الفتية الهشة عندما كانت في أمس الحاجة إلى الأصدقاء.
والجدير بالذكر أنّ التوسع بحد ذاته كان استجابة مبرَرة للجغرافيا السياسية في التسعينيات، علماً أنّ الناتو خضع للتوسيع عدة مرات. وبالنظر إلى أن دول الكتلة السوفياتية السابقة كانت تطالب الآن بالانضمام إلى الحلف، لم يكن السماح لها بالدخول أمراً غير مسبوق أو غير معقول.
في المقابل، ما اعتُبر خطوة غير حكيمة هو توسيع الحلف بطريقة لا تأخذ في الحسبان الواقع الجيوسياسي. فكلما نقل حلف الناتو بنيته التحتية، المؤلفة من القواعد الأجنبية، والقوات، وقبل كل شيء الأسلحة النووية، إلى مكان أقرب إلى موسكو، زادت التكلفة السياسية للعلاقة التعاونية الجديدة مع روسيا. وقد فهم بعض صانعي السياسة الأميركيين هذه المشكلة في ذلك الوقت واقترحوا التوسع في مراحل طارئة لتقليل الضرر. في الواقع، كان من الممكن أن يؤدي هذا النمط البديل التوسيعي الواعد إلى تجنّب رسم خط جديد عبر أوروبا، لكنه واجه معارضة قوية داخل واشنطن.
وعوضاً عن ذلك، انتصر دعاة التوسع وفق طريقة “نهج واحد يناسب الجميع”. لم يكن خطأ واشنطن توسيع الحلف بل القيام بذلك بطريقة تزيد من تفاقم حالة موسكو وتقوّي الرجعيين الروس. في عام 2014، برر بوتين استيلاءه على شبه جزيرة القرم بأنه رد ضروري على “نشر الناتو للبنية التحتية العسكرية على حدودنا”.
تجدر الإشارة إلى أنّ الحروب الباردة ليست شؤوناً قصيرة العمر، لذا فإن ذوبان الجليد ثمين. ولكن لم يستغل أي من البلدين ذوبان الجليد بأفضل طريقة في التسعينيات. حاضراً، بينما تتجادل الولايات المتحدة وروسيا حول العقوبات والحرب الإلكترونية وأمور أخرى كثيرة، بقيت الخيارات التي اتُّخذت قبل ثلاثة عقود تحمل أهمية دائمة. إذ لا يزال البلدان يمتلكان أكثر من 90 في المئة من الرؤوس الحربية النووية في العالم، بالتالي القدرة على قتل كل كائن حي على وجه الأرض تقريباً. وعلى الرغم من ذلك، مزقا كل اتفاقية متبقية تقريباً للحد من الأسلحة، ولم يبديا استعداداً كبيراً لاستبدالها باتفاقيات جديدة.
ويمكن لفهم التدهور في العلاقات الأميركية- الروسية، وكيفية مساهمة أسلوب توسع الناتو في ذلك، أن يساعد الولايات المتحدة في إدارة المنافسة الاستراتيجية الطويلة المدى في المستقبل بشكل أفضل. وكما أظهرت تسعينيات القرن الماضي، فإن الطريقة التي تنافس بها واشنطن يمكن أن ينتج منها بمرور الوقت تأثير عميق يوازي عمق تأثير المنافسة بحدّ ذاتها.
لماذا ساءت الأمور؟
بهدف فهم سبب تدهور العلاقات الأميركية- الروسية، من الضروري النظر إلى ما وراء الثنائية المألوفة التي تصنف توسيع حلف الناتو بالجيد أو السيء والتركيز بدلاً من ذلك على الطريقة التي نما بها هذا الحلف. بعد انهيار القوة السوفياتية في أوروبا، واستجابةً للطلبات العاجلة من الدول الخارجة من هيمنة موسكو، وهي دول أصبحت بشكل مبرر حريصة على اختيار تحالف أمني لنفسها، تضخّم الناتو بعد جولات متعددة من التوسيع فوصل إلى 30 دولة شكّلت معاً موطناً لما يقرب من مليار شخص.
في الواقع، تُظهر الأدلة التاريخية الجديدة أن قادة الولايات المتحدة كانوا يركزون بشدة على توسيع الناتو بالطريقة المفضلة لديهم لدرجة أنهم لم يأخذوا في الاعتبار مخاطر المسار الذي سلكوه أو كيف ستؤدي خياراتهم إلى مضاعفة خيارات روسيا التي تجعلها تؤذي نفسها بنفسها. ببساطة، كان التوسع سياسة معقولة. غير أنّ المشكلة كمنت في كيفية حدوث ذلك.
على الرغم من أن الناتو هو تحالف يضمّ بلداناً متعددة، إلا أن وجهات نظر الولايات المتحدة في نهاية المطاف هي الأكثر أهمية حين تكون ضمانة المادة 5 على المحك، علماً أنّها تنصّ على التعهد بمعاملة أي هجوم على أحد أعضاء الناتو على أنه “هجوم عليها جميعاً”. بالتالي، ساد النهج الواحد الذي يناسب الجميع والمتمحور حول الولايات المتحدة، على الرغم من مخاوف الأعضاء الآخرين بشأن مشكلة جغرافية خطيرة: كلما اقتربت حدود الحلف من روسيا، زاد خطر أن يؤدي توسع الناتو إلى عرقلة التعاون الجديد مع موسكو وتعريض التقدم الهائل المحرز في مجال الحد من التسلح للخطر.
إن البلدان الأعضاء في التحالف الاسكندنافي، مثل النرويج، التي عرفت كيف تعيش في حي مجاور للسوفيات ولكن غير خاضع لسيطرة السوفيات، قامت في العقود السابقة بتطويع عضوياتها في الناتو بحكمة. قررت النرويج، بصفتها العضو الأصلي الوحيد في الناتو الذي يتقاسم الحدود مع الاتحاد السوفياتي، عدم الموافقة على تمركز قواعد أجنبية أو نشر قوات أجنبية على أراضيها في وقت السلم واستبعدت الأسلحة النووية سواء على أرضها أو في موانئها. وقد قامت بذلك كله لإبقاء الخلافات الطويلة الأمد مع موسكو تحت السيطرة. كان من الممكن أن يكون هذا النهج نموذجاً تعتمده دول وسط وشرق أوروبا ودول البلطيق، لأنها أيضاً تحتل منطقة قريبة من روسيا وغير خاضعة لسيطرتها. لقد فهم بعض صانعي السياسة تلك الديناميكية في ذلك الوقت ودعموا إنشاء إطار عمل يمكن بموجبه أن يكتسب حلفاء جدد عضوية مشروطة (أو طارئة) على مراحل من خلال ما يسمى الشراكة من أجل السلام (PfP)، وهي منظمة تم إطلاقها في عام 1994 للسماح للدول الأوروبية ودول ما بعد الاتحاد السوفياتي غير الأعضاء في الناتو بالانضمام إلى الحلف.
لكنّ الغطرسة الأميركية، جنباً إلى جنب مع القرارات المأساوية التي اتخذها يلتسين، وعلى وجه الخصوص، إراقة دماء خصومه في موسكو عام 1993 وفي الشيشان عام 1994، دعمت أولئك الذين يجادلون بأن واشنطن لم تكن بحاجة إلى توسيع تدريجي لإدارة روسيا. وبدلاً من ذلك، أكدوا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى اتباع سياسة الاحتواء بعد الحرب الباردة.
بحلول منتصف التسعينيات، اكتسبت عبارة “ولا بوصة واحدة” (وهي عبارة تهدف في الأصل إلى الإشارة إلى أن سلطة الناتو لن تتحرك بمقدار بوصة واحدة شرقاً) معنى مخالفاً: يجب ألا تكون أي منطقة محظورة على توسيع العضوية الكاملة وألا تكون هناك قيود ملزمة على البنية التحتية من أي نوع. وحدث ذلك في الوقت الذي كان يلتسين يستسلم فيه للمرض وبوتين يرتقي في الرتب في روسيا. غير أنّ قادة الولايات المتحدة أصروا على موقفهم، على الرغم من معرفتهم بأنّ “الأطفال الكبار في موسكو”، مع أنّهم “مجانين فعلاً”، لديهم “قدرة هائلة على إلحاق الضرر”، وفق ما قاله تالبوت في مذكرة أميركية داخلية حول دور التحالف في قمع العنف في البوسنة.
تخطّي الحدود
يتطلب فهم الانهيار في العلاقات الأميركية- الروسية العودة إلى وقت كانت الأمور تسير على ما يرام، أي فترة التسعينيات. في هذه الحالة، يكمن الشيطان حقاً في التفاصيل، على وجه التحديد، في ثلاثة خيارات اتخذتها واشنطن بشأن توسع الناتو، واحد في عهد بوش واثنان في عهد كلينتون، أدى كل منها بشكل تراكمي إلى منع الخيارات الأخرى للأمن الأوروبي.
جاء الخيار الأول مبكراً. بحلول 24 نوفمبر 1989، أي بعد أسبوعين فحسب من السقوط غير المتوقع لجدار برلين، كان بوش يشعر بالفعل بحجم التغييرات الإضافية المقبلة. وبعدما أطاح المتظاهرون بحكومة تلو الأخرى في وسط وشرق أوروبا، بدا واضحاً له أن القادة الجدد في تلك المنطقة سيتخلون عن حلف وارسو، وهو عبارة عن تحالف عسكري غير طوعي مع الاتحاد السوفياتي. لكن ماذا بعد ذلك؟
وفقاً لسجلات الولايات المتحدة، عرض بوش القضية على رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر: “ماذا لو أرادت دول أوروبا الشرقية الانسحاب من حلف وارسو. يجب أن يبقى حلف الناتو”. ردت تاتشر بخيارها المفضل المذهل: كانت تؤيد “الإبقاء على … حلف وارسو”. فوفقاً للسجلات البريطانية، رأت أن الاتفاقية كانت “ورقة تين أساسية لغورباتشوف” وسط إذلال انهيار الاتحاد السوفياتي. كما أنها “لم تشجّع [بوش] على التصريح علناً في هذه المرحلة عن دعم استقلال جمهوريات البلطيق”، إذ لم يكن الوقت مناسباً آنذاك للتشكيك في الحدود الأوروبية.
لكن بوش لم يكن مقتنعاً. فقد “أعرب عن قلقه بأن يبدو كأنه يحيل أوروبا الشرقية إلى عضوية حلف وارسو إلى أجل غير مسمى”. والغرب “لا يستطيع تكليف الدول بالبقاء” في ذلك الاتفاق “رغماً عنها”. فضّل بوش حل هذه المشكلة بدفع الناتو إلى ما وراء خط الحرب الباردة القديم.
لاحقاً، اقترح وزير خارجية ألمانيا الغربية، هانز ديتريش غينشر، خياراً آخر، وهو دمج الناتو وحلف وارسو في “مركّب من الأمن الجماعي المشترك، يمكن أخيراً أن يتبدد فيه كلا الحلفين”. وفي هذا الإطار، ذهب المنشقون السابقون في وسط أوروبا إلى أبعد من ذلك، واقترحوا الخيار الأكثر شمولاً وهو نزع السلاح بالكامل في منطقتهم.
في الحقيقة، شكّلت كل هذه الخيارات لعنة بالنسبة إلى بوش، الذي بالتأكيد لم يكن يريد أن يتبدد الناتو أو يختفي معه دور الولايات المتحدة القيادي في الأمن الأوروبي. لكن في عام 1990 كان غورباتشوف لا يزال يتمتع بالنفوذ. وبفضل الانتصار السوفياتي على النازيين في الحرب العالمية الثانية، حظيت موسكو بمئات الآلاف من القوات في ألمانيا الشرقية والحق القانوني في الاحتفاظ بها هناك. ولم يكن ممكناً لألمانيا إعادة التوحيد من دون إذن غورباتشوف. وكان للزعيم السوفياتي مصدر آخر للسلطة: الرأي العام.
وبما أنّ ألمانيا المنقسمة شكّلت خط المواجهة في الحرب الباردة، فهي تضمّنت أكبر تجمّع للأسلحة النووية لكل ميل مربع عالمياً. وتم وضع الأسلحة في ألمانيا الغربية لردع الغزو السوفياتي، بالنظر إلى مدى صعوبة قيام قوات الناتو التقليدية وحدها بإيقاف تقدم هائل. لو فشل الردع، لكان استخدام الصواريخ قد جعل قلب أوروبا غير صالح للسكن، وهو احتمال مرعب للألمان الذين يمكن القول إنهم كانوا أكثر تورطاً وتأثراً من حلفائهم في الناتو، لأنهم كانوا يعيشون في نقطة الصفر (أي منطقة التأثير المباشر).
إذاً، لو طلب غورباتشوف من الألمان مقايضة تلك الأسلحة النووية مقابل الإذن السوفياتي بإعادة التوحيد، لكان عدد كبير سيوافق بكل سرور. والأفضل من ذلك بالنسبة إلى موسكو، شكّل عام 1990 عام انتخابات في ألمانيا الغربية. بالتالي، كان على المستشار، هيلموت كول، أن يكون متناغماً بشكل خاص مع مشاعر الناخبين بشأن إعادة التوحيد والقضية النووية. وكما قال كبير مساعدي بيكر، روبرت زوليك، في ذلك الوقت، لو قرر كول الإشارة إلى استعداده لدفع ثمن موسكو، مهما بلغ، قبل الانتخابات و “عمِل الألمان على التوحيد مع السوفيات”، كان سيتمّ “التخلّص من” الناتو. وقد زوّد هذا الواقع موسكو بالقدرة على تقويض النظام القائم للعلاقات عبر الأطلسي.
في المقابل، جرت مناقشات تكهنية بين وزارة الخارجية الأميركية والألمان الغربيين في 2 فبراير (شباط) 1990، حول أفضل السبل للمضي قدماً في هذه اللحظة الدقيقة وما قد يفعله الناتو وراء خط الحرب الباردة، مثل “توسيع تغطيته الإقليمية لتشمل… أوروبا الشرقية”. وفي هذا السياق، طرح غينشر هذه الفكرة بطريقة سلبية، ما يعني أنه كان على يقين من أن موسكو لن تسمح بإعادة التوحيد ما لم يتم استبعاد هذه التغطية صراحةً. لكنّ بوش وأعضاء مجلس الأمن القومي التابع له شعروا بأنهم قد يكونون قادرين على تحسين طريقة تحرّك الناتو شرقاً، أي من خلال تقييد ما يمكن أن يحدث على الأراضي الألمانية الشرقية بعد انضمام ألمانيا إلى الحلف. على الرغم من أنهم لم يستخدموا المصطلح، إلا أنهم كانوا يتبعون الاستراتيجية الاسكندنافية.
ولكن بعد أسبوع، بيكر، الذي لم يكن على علم بتطور تفكير البيت الأبيض بسبب رحلاته الطويلة، تجاوز حدوده عن غير قصد من خلال عرضه على غورباتشوف صفقة افتراضية تعتبر الآن سيئة السمعة، رددت صدى تفكير غينشر، وليس تفكير بوش: ماذا لو سمح غورباتشوف بمتابعة إعادة التوحيد، ووافقت واشنطن على أن “سلطة الناتو لن تتحرك شبراً واحداً نحو الشرق من موقعها الحالي”؟
سرعان ما اضطر الوزير إلى التخلي عن هذه الصيغة، بعد أن أدرك أنها تتعارض مع تفضيلات بوش. في غضون أسبوعين تقريباً، كان على بيكر أن ينصح الحلفاء بهدوء بأن استخدامه “لمصطلح “سلطة” حلف الناتو كان يخلق بعض الارتباك” وأنه “ربما ينبغي تجنبه في المستقبل”. وقد دلّت هذه العلامة على أن الناتو سوف يتحرّك شرقاً بعد كل شيء، مع وضع خاص لألمانيا الشرقية التي ستصبح في النهاية المنطقة الوحيدة الخالية من الأسلحة النووية المضمونة في أوروبا.
من خلال هذه الخطوة الرامية إلى الحد من البنية التحتية لحلف الناتو في شرق ألمانيا، وعن طريق استغلال ضعف موسكو الاقتصادي، حوّل بوش انتباه غورباتشوف بعيداً عن إزالة الأسلحة النووية في المنطقة الغربية، نحو الحوافز الاقتصادية للسماح بإعادة توحيد ألمانيا. في مقابل مليارات الماركات الألمانية في أشكال مختلفة من الدعم، سمح الزعيم السوفياتي في النهاية لألمانيا بإعادة توحيد مناطقها الشرقية للانضمام إلى الناتو في 3 أكتوبر 1990، ما سمح للحلف بالتوسع إلى أبعد من خط المواجهة القديم للحرب الباردة.
بحلول الحادي عشر من أكتوبر 1991، أصبح بإمكان بوش الانغماس في تكهنات حول هدف أكثر طموحاً. وفي هذا الإطار، سأل مانفريد وورنر، الأمين العام لحلف الناتو آنذاك، عما إذا كانت جهود الحلف لتأسيس منظمة اتصال لدول وسط وشرق أوروبا قد “تشمل دول البلطيق”. كانت مشاعر وورنر واضحة، ولم يناقضه بوش. وأجاب وورنر: “نعم، إذا طلبت دول البلطيق الانضمام، فينبغي الترحيب بها”.
لا ضمانات من الدرجة الثانية
بحلول ديسمبر 1991، كان الاتحاد السوفياتي قد اختفى. وسرعان ما رحل بوش أيضاً، بعد أن خسر أمام كلينتون في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 1992. خلال الوقت الذي عين فيه الرئيس الجديد فريقه، في منتصف عام 1993، كان التضخم المفرط والفساد يضعفان بالفعل آفاق الديمقراطية في روسيا. والأسوأ من ذلك، أن يلتسين سرعان ما اتخذ سلسلة من القرارات المأساوية التي ألقت بظلال من الشك على قدرة البلاد على التطور لتصبح جاراً ديمقراطياً ومسالماً للدول الجديدة الواقعة على حدودها.
في أكتوبر 1993، بعد صدام مع المتطرفين المناهضين للإصلاح في البرلمان، أطلق يلتسين نيران الدبابات على مبنى البرلمان. وأسفر القتال عن مقتل ما يقدّر بنحو 145 شخصاً وإصابة 800 آخرين. على الرغم من الهجوم، أو ربما بسببه، أبلى المتطرفون بلاء حسناً في الانتخابات البرلمانية اللاحقة، في 12 ديسمبر 1993. وكان الحزب الذي فاز بأكبر عدد من الأصوات هو الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي، الذي لم يكن “ليبرالياً ولا ديمقراطياً، بل فاشياً من كل النواحي”، على حد تعبير المؤرخ سيرغي رادشينكو.
لفترة من الوقت، أدت الصداقة الناشئة بين “بيل وبوريس” إلى تشتيت انتباه العالم عن هذه الأحداث المقلقة. وطور الزعيمان أقرب علاقة على الإطلاق بين رئيس أميركي وزعيم روسي، وزار كلينتون موسكو أكثر من أي رئيس أميركي قبل أو بعد ذلك.
لكنّ كلينتون أراد أيضاً الاستجابة لمطالب دول وسط وشرق أوروبا الساعية للانضمام إلى الناتو. في يناير (كانون الثاني) 1994، أطلق خطة جديدة للأمن الأوروبي، هدفها وضع تلك الدول على طريق الانضمام إلى عضوية الناتو من دون استعداء روسيا. كانت هذه فكرة الشراكة من أجل السلام PfP، وهي فكرة تصورها إلى حد كبير الجنرال جون شاليكاشفيلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة البولندي الأصل، ومستشاروه. لقد كانت تشبه الاستراتيجية الاسكندنافية، ولكن بالخط العريض (أي بشكل مبالغ به).
وتُركت علاقة “الشراكة من أجل السلام” بعضوية الناتو غامضة عن قصد، ولكن الفكرة كانت تقريباً أن أعضاء الناتو المحتملين يمكنهم، من خلال الاتصالات بين العسكريين، والتدريب، والعمليات، وضع أنفسهم على طريق العضوية الكاملة وضمانة المادة 5. قدمت هذه الاستراتيجية حلاً وسطاً مقبولاً بما فيه الكفاية للاعبين الرئيسيين، حتى بولندا التي أرادت العضوية الكاملة ولم تعجبها فكرة الاضطرار إلى قضاء بعض الوقت في غرفة الانتظار، لكنها أدركت أن عليها أن تتبع خطوات واشنطن.
كما استفادت منظمة “الشراكة من أجل السلام” من عدم إعادة رسم خط فوراً عبر أوروبا بين الدول التي تتمتع بحماية المادة 5 وتلك التي لا تتمتع بها. بدلاً من ذلك، كان يمكن لمجموعة من البلدان في مواقع متباعدة الانضمام إلى الشراكة ثم التقدم بوتيرتها الخاصة. وهذا يعني أن الشراكة من أجل السلام يمكن أن تدمج دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك، بشكل حاسم، أوكرانيا، حتى لو كان من غير المرجح أن تصير دولاً حليفة لحلف الناتو. وكما قال كلينتون للمستشار الألماني الزائر، كول، في 31 يناير 1994: “أوكرانيا هي المحور الأساسي للفكرة بأكملها”. وأضاف الرئيس أنه سيكون كارثياً “إذا انهارت أوكرانيا، بسبب النفوذ الروسي أو بسبب القوميين المتشددين داخلها”. وتابع كلينتون: “أحد الأسباب التي جعلت جميع دول حلف وارسو السابقة مستعدة لدعم [الشراكة من أجل السلام] هو فهمها” أن بإمكانها توفير مساحة لأوكرانيا بطريقة لم يستطع الناتو القيام بها.
كانت عبقرية “الشراكة من أجل السلام” هي أنها وازنت هذه المصالح المتنافسة وفتحت أبوابها لروسيا أيضاً، التي انضمّت في النهاية إلى الشراكة. وفي هذا الإطار، قال كلينتون لاحقاً للأمين العام لحلف الناتو خافيير سولانا إنّ الشراكة من أجل السلام “أثبتت أنها صفقة أكبر مما توقعنا، مع مزيد من الدول، وتعاون أكثر جوهرية. لقد نمت إلى شيء مهم في حد ذاته”.
واشتكى معارضو الشراكة من أجل السلام داخل إدارة كلينتون من أنّ المنظمة، من خلال جعل دول وسط وشرق أوروبا تنتظر الحصول على ضمانة المادة 5 بالكامل، قد أعطت موسكو حق النقض (الفيتو) بحكم الواقع في ما يتعلق بوقت ومكان وكيفية توسع الناتو. لقد فاوضوا بدلاً من ذلك من أجل توسيع التحالف في أسرع وقت ممكن للديمقراطيات الجديدة التي تستحق ذلك. وفي أواخر عام 1994، دعم يلتسين منتقدي الشراكة من أجل السلام من خلال الموافقة على ما اعتقد أنه عمل بوليسي عالي الدقة لمواجهة الانفصاليين في منطقة الشيشان. وعوضاً عن ذلك، أطلق ما تحول إلى صراع وحشي ودموي وطويل الأمد.
وقد انتهزت دول وسط وشرق أوروبا إراقة الدماء لتقول إنها قد تكون التالية إذا لم تحمها واشنطن وحلف شمال الأطلسي بالمادة 5. نتيجة لذلك، ظهر مصطلح جديد داخلياً في إدارة كلينتون وهو “الاحتواء الجديد”. مثل هذا التفكير، إلى جانب العلاقات التي أقامها الرئيس البولندي ليش فاليسا والرئيس التشيكي فاتسلاف هافيل مع كلينتون، أثّر بشكل متزايد على الرئيس الأميركي.
وكذلك الضغوط السياسية الداخلية. في انتخابات التجديد النصفي للولايات المتحدة في نوفمبر 1994، تولى الحزب الجمهوري مجلسي الشيوخ والنواب. وافق الناخبون على توسيع حلف الناتو كجزء من برنامج “العقد مع أميركا” الذي أطلقه الجمهوريون الفائزون. أراد كلينتون الفوز بولاية ثانية في عام 1996، وأسهمت نتائج انتخابات التجديد النصفي في قراره بالتخلي عن خيار توسيع الناتو من خلال عملية فردية وتدريجية تشمل الشراكة من أجل السلام. لقد انتقل بدلاً من ذلك إلى التوسيع وفق نهج واحد يناسب الجميع مع ضمانات كاملة من البداية. انعكاساً لهذه الاستراتيجية، أصدر الناتو بياناً عاماً في ديسمبر 1994 ينص على ما يلي: “نتوقع ونرحب بتوسيع الناتو الذي سيصل إلى دول ديمقراطية في شرقنا”. وثار غضب يلتسين، إذ أدرك معنى هذه الكلمات.
بشكل سري، أرسلت وزارة الخارجية نصاً إلى البعثة الأميركية لدى الناتو “يجب أن ينبثق، بحسب ما تعتقده الولايات المتحدة، من المداولات الداخلية في الحلف بشأن التوسيع”. أعلن النص أن “الأمن يجب أن يكون متساوياً لجميع الحلفاء” وأنه “لن تكون هناك ضمانات أمنية من الدرجة الثانية”- وهو اختصار للإشارة إلى العضوية الطارئة (أو المشروطة) أو حدود البنية التحتية. بذلك، تم تهميش الشراكة من أجل السلام، على الرغم من استمرار وجودها.
كاد التغيير في موقف كلينتون أن يتسبب في استقالة وزير دفاعه. من وجهة نظر بيري، كان التقدم في مسألة الحد من التسلح في أوائل التسعينيات مذهلاً. إذ انهارت قوة نووية عظمى، ولم يخرج من تحت أنقاضها سوى دولة واحدة مسلحة نووياً. ثم انضمت دول أخرى خلفت الاتحاد السوفياتي إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ولم يتم تفجير أي أسلحة. كما أُبرمت اتفاقيات جديدة بشأن الضمانات والشفافية حول عدد الرؤوس الحربية وموقعها. في الواقع، اعتبرت هذه المسائل ذات أهمية وجودية، أسهمت في إحراز تقدم تاريخي بين الولايات المتحدة وروسيا، وكان معارضو الشراكة من أجل السلام، في رأيه، يعرقلون الخطط من خلال متابعة شكل من أشكال توسع الناتو، تجده موسكو أكثر تهديداً.
صمد بيري لكنه أعرب في وقت لاحق عن ندمه لأنه “لم يقاتل بشكل أكثر فعالية من أجل تأخير قرار الناتو”. كما كتب في عام 2015، “بدأ الانحدار إلى أسفل المنحدر الزلق، على ما أعتقد، مع التوسع المبكر لحلف شمال الأطلسي”، و “كانت سلبيات عضوية الناتو المبكرة لدول أوروبا الشرقية أسوأ مما كنت أخشى”. وكنتيجة طبيعية مؤسفة، خلص الروس على الفور إلى أن الشراكة من أجل السلام كانت خدعة، على الرغم من أنها لم تكن كذلك.
تكلفة البوصة الواحدة
ستتضح أهمية التغيير في موقف كلينتون مع مرور الوقت. في أول رحلة أوروبية له كرئيس، في يناير 1994، سأل كلينتون قادة الناتو، “لماذا يجب علينا الآن رسم خط جديد عبر أوروبا أبعد قليلاً نحو الشرق”؟ من شأن ذلك أن يترك “أوكرانيا الديمقراطية” جالسة في الجانب الخطأ. وكانت الشراكة أفضل إجابة، لأنها فتحت باباً ولكنها أعطت أيضاً الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو “الوقت للتواصل مع روسيا وهذه الدول الأخرى في الاتحاد السوفياتي السابق، التي تم تجاهلها تقريباً خلال هذا النقاش بأكمله”. بمجرد التخلي عن الشراكة من أجل السلام، أصبح الخط الفاصل الجديد أمراً لا مفر منه.
وبعد أن تخلت إدارة كلينتون عن طريقة الشراكة من أجل السلام في السماح لمجموعة واسعة من البلدان بالانضمام كدول منتسبة غير ثابتة، أصبحت بحاجة الآن إلى تحديد عدد الدول التي يجب إضافتها كأعضاء كاملي العضوية في الناتو. بدت الحسابات بسيطة: فكلما زاد عدد الدول، زاد الضرر الذي يلحق بالعلاقات مع روسيا. لكن هذا الحساب البسيط المخادع أخفى تعقيداً أعمق. بالنظر إلى حساسيات موسكو، فإن توسع الجمهوريات السوفياتية السابقة، مثل دول البلطيق وأوكرانيا، أو البلدان ذات السمات الخاصة، مثل القواعد التي استضافت القوات الأجنبية والأسلحة النووية، سيؤدي إلى تكلفة أعلى بكثير لكل بوصة.
وقد طرح ذلك سؤالين: من أجل تقليل التكلفة لكل بوصة، هل ينبغي على توسيع العضوية الكاملة أن يتجنّبَ تجاوز ما اعتبرته موسكو خطاً حساساً، ألا وهو الحدود السابقة للاتحاد السوفياتي؟ وهل يجب أن يكون للأعضاء الجدد أي قيود ملزمة بشأن ما يمكن أن يحدث على أراضيهم، بشكل يكرّر التسويات الاسكندنافية والحظر النووي لألمانيا الشرقية؟
أجاب فريق كلينتون على السؤالين بالنفي بشكل قاطع. في وقت مبكر من يونيو (حزيران) 1995، كان تالبوت قد بدأ بالفعل في إخبار قادة دول البلطيق بوضوح أن الدول الأولى التي تنضم إلى الناتو كأعضاء جدد لن تكون بالتأكيد الأخيرة. بحلول يونيو 1997، أصبح أكثر فظاظة. إدارة كلينتون “لن تعتبر عملية توسيع الناتو منتهية أو ناجحة ما لم تتحقق أو قبل أن تتحقق تطلعات دول البلطيق”. لقد كان رأيه هذا أكثر ثباتاً لدرجة أن طاقمه أطلق عليه “مبدأ تالبوت”. إذاً، تم تحديد طريقة التوسيع: يجب أن يستمر التوسع بغض النظر عن التكلفة لكل بوصة – خلافاً للاستراتيجية الاسكندنافية.
في أبريل 1999، في قمة الذكرى الخمسين لتأسيس الناتو في واشنطن العاصمة، رحب الحلف علناً باهتمام إستونيا ولاتفيا وليتوانيا (إلى جانب ست دول أخرى) بالعضوية الكاملة. كان بوسع الولايات المتحدة أن تصر، بشكل صحيح، على أنها لم تعترف قط باحتلال الاتحاد السوفياتي لدول البلطيق عام 1940. لكن هذا لم يغير أهمية الخطوة: إذ إنّ توسيع العضوية الكاملة لن يتوقف عند الحدود السوفياتية السابقة. وتجاهلت واشنطن التعبيرات الهادئة عن القلق من القادة الإسكندنافيين، الذين أشاروا إلى الرغبة في التمسك بمزيد من الحلول الطارئة للمنطقة المحيطة بهم.
بالإضافة إلى التدخل العسكري للتحالف في مارس (آذار) 1999 في كوسوفو، والذي عارضته روسيا بشدة، أدّى ذلك إلى تحويل عام 1999 إلى نقطة تحول في العلاقات الأميركية- الروسية. وجاء قرار موسكو بتصعيد القتال الوحشي مرة أخرى في الشيشان في وقت لاحق من ذلك العام ليزيد من الشعور بأن لحظة التعاون التي أعقبت الحرب الباردة كانت تنهار. وفي هذا السياق، رد يلتسين المريض بمرارة على الانتقادات الأميركية الموجّهة ضد تجدد العنف في الشيشان، وشكا للصحافيين أن “كلينتون سمح لنفسه بممارسة الضغط على روسيا” لأنه نسي “لدقيقة، لثانية، لمدة نصف دقيقة، أن روسيا تمتلك ترسانة كاملة من الأسلحة النووية”. وفي إسطنبول في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1999، على هامش قمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، كانت الاعتداءات اللفظية التي شنها يلتسين على كلينتون شديدة لدرجة أن تالبوت، كما ذكر في مذكراته، قرر أن يلتسين أصبح “مختلاً عقلياً”. وفقاً للنسخة الأميركية من محادثة خاصة وجيزة بين كلينتون ويلتسين، قدم الزعيم الروسي مطالب جذرية. قال يلتسين “أعطوا أوروبا لروسيا، لأن الولايات المتحدة ليست في أوروبا. يجب أن تكون أوروبا من اختصاص الأوروبيين”.
حاول كلينتون صرف النظر عن التهجم اللفظي، لكن يلتسين استمر في الضغط، مضيفاً، “أعطوا أوروبا لنفسها. لم تشعر أوروبا قط بأنها قريبة من روسيا كما هي الآن”. أجاب كلينتون: “لا أعتقد أن الأوروبيين سيرغبون في ذلك كثيراً”. فجأة، وقف يلتسين وأعلن، “بيل، انتهى الاجتماع… لقد استمرّ هذا الاجتماع وقتاً طويلاً”. ومع ذلك، لم يسمح كلينتون لنظيره الروسي بالرحيل من دون أن يسأل عمن سيفوز في الانتخابات الروسية المقبلة في عام 2000. وأجاب يلتسين المغادر باقتضاب: “بوتين بالطبع”.
وكان الرئيسان قد أصلحا العلاقات بعد مشاحنات من قبل، لكن الوقت الآن قد نفد من كلينتون. وسيكون الاجتماع في إسطنبول هو اجتماعه الأخير مع يلتسين كرئيس. بالعودة إلى الوطن في موسكو، قرر يلتسين الخروج من المشهد السياسي. إذ أدت أمراض القلب الخطيرة، وإدمان الكحول، والخوف من الملاحقة القضائية إلى إرهاق الرئيس الروسي.
كان يلتسين قد قرر بالفعل أن بوتين هو خليفته المفضل، لأنه اعتقد أن الرجل الأصغر سناً، على حد تعبير الخبير الروسي ستيفن كوتكين، سيحمي مصالحه، “وربما مصالح روسيا أيضاً”. في 14 ديسمبر 1999، وفقاً لمذكراته، أفشى يلتسين لبوتين أنه في اليوم الأخير من العام، سوف يجعل الرجل الأصغر رئيساً بالنيابة.
تنفيذاً للوعد، في ليلة رأس السنة الجديدة، صدم يلتسين أمته بإذاعة خطاب استقالة قصير ومُسجل مسبقاً. وأدى إلقاؤه القاسي والضعيف للكلمات المكتوبة إلى تكثيف جو الكآبة. جالساً على خلفية شجرة عيد ميلاد مزينة بعشوائية، طلب من الروس “المغفرة”. واعتذر قائلاً إن “العديد من أحلامنا المشتركة لم تتحقق”، ومضيفاً أن “ما اعتقدنا أنه سيكون سهلاً تبين أنه صعب للغاية”. لاحقاً، احترم بوتين ما عليه من التزامات، في أحد أعماله الرسمية الأولى، من خلال منح يلتسين الحصانة.
غادر يلتسين الكرملين حوالى الساعة الواحدة ظهراً بتوقيت موسكو، وشعر بارتياح كبير لعدم وجود التزامات تقيّده لأول مرة منذ عقود، وطلب من سائقه اصطحابه إلى عائلته. في الطريق، رن هاتف الليموزين الخاص به. كان المتّصل رئيس الولايات المتحدة. طلب يلتسين من كلينتون معاودة الاتصال في الخامسة مساءً، على الرغم من أن الرئيس الأميركي كان يستعد لاستضافة مئات الضيوف في البيت الأبيض في ذلك اليوم لإقامة احتفال ألفي فخم.
في غضون ذلك، جعل الزعيم الروسي الجديد كلينتون ينتظر 26 ساعة أخرى قبل الاتصال. في 1 يناير 2000، وجد بوتين أخيراً تسع دقائق لإجراء مكالمة. حاول كلينتون الترحيب بالانتقال المفاجئ، قائلاً: “أعتقد أنك بدأت بداية جيدة جداً”.
آمال محطَمة
سرعان ما أصبح واضحاً أن صعود بوتين، في ما يتعلق بعلاقات موسكو مع واشنطن، شكّل نهاية أكثر منه بداية. صارت ذروة التعاون الأميركي- الروسي من الماضي، لا سيما في مجال الحد من التسلح. بعد مرور عقود طويلة سيطر عليها الانهيار، فشلت واشنطن وموسكو في إبرام أي اتفاقيات رئيسية جديدة في عهد كلينتون.
وبدلاً من ذلك، استؤنف الاستهداف النووي للمدن الأميركية والأوروبية في ظل زعيم روسي كان قد بدأ، في ديسمبر 1999، عهداً يمكن قياسه على مدى عقود. بالنسبة إلى علاقات الولايات المتحدة مع روسيا، فتلك الأحداث، إن لم تدلّ على العودة إلى ظروف الحرب الباردة التي حالت دون كل تعاون، فمن المؤكد أنها أشارت إلى بداية موجة صقيع قاتلة.
بالطبع، بالنسبة إلى سكان أوروبا الوسطى والشرقية الذين عانوا عقوداً من الوحشية والحرب والقمع، كان الانضمام إلى الناتو على أعتاب القرن الحادي والعشرين تحقيقاً لحلم الشراكة مع الغرب. وعلى الرغم من ذلك، كان الإحساس بالاحتفال صامتاً. وكما لاحظت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، “قبل عقد من الزمان، عندما سقط جدار برلين، رقص الناس في الشوارع. أما الآن فقد اختفى الشعور بالابتهاج”.
لم يحقق العالم الذي نشأ في التسعينيات الآمال التي بُنيت بعد انهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي. في البداية، ساد اعتقاد واسع النطاق بأن مبادئ النظام الدولي الليبرالي قد نجحت وأن سكان جميع الدول الواقعة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وليس فقط الدول الغربية، يمكنها الآن التعاون ضمن هذا النظام. لكنّ القادة الأميركيين والروس اتخذوا قرارات تتناقض مراراً وتكراراً مع نواياهم المعلنة الهادفة إلى تعزيز هذه النتيجة. تحدث بوش عن أوروبا كاملة وحرة تعيش في سلام. وأعلن كلينتون مراراً عن رغبته في تجنب رسم خط. وعلى الرغم من ذلك، فقد ساعد كلاهما في النهاية على إنشاء خط فاصل جديد عبر أوروبا ما بعد الحرب الباردة. كما سعى غورباتشوف إلى إنقاذ الاتحاد السوفياتي. فيما سعى يلتسين لإرساء الديمقراطية الدائمة في روسيا. ولكن لم ينجح أي منهما.
لم يكن توسع الناتو هو المصدر الوحيد لهذه المشكلات. بل طريقة توسيع الحلف، بالتفاعل مع الخيارات الروسية المأساوية، أسهمت في حجم هذه المشكلات وتأثيرها. بعبارة أخرى، ليس من الممكن الفصل بين التقييم الجاد لدور التوسيع في تآكل العلاقات الأميركية- الروسية من جهة، وكيفية حدوثه من جهة أخرى. لم يكن خطأ واشنطن توسيع التحالف بل القيام بذلك بطريقة تزيد من الاحتكاك مع موسكو. وقد نتج هذا الخطأ من سوء تقدير الولايات المتحدة لاستمرارية علاقات التعاون مع موسكو، ولمدى استعداد بوتين للإضرار بهذه العلاقات.
كذلك، تكبدت استراتيجية التوسع القائمة على نهج “كل شيء أو لا شيء” هذه التكاليف من دون الحفاظ على التحول الديمقراطي. في الحقيقة، نجحت دول حلف وارسو السابقة في الانضمام إلى حلف الناتو (وفي النهاية الاتحاد الأوروبي)، لتجد أن العضوية لا تضمن تلقائياً تحولاتها الديمقراطية. ثم أظهرت البحوث اللاحقة أن احتمالية الحصول على عضوية تدريجية في المنظمات الدولية، وهي العملية التي تقدمها الشراكة من أجل السلام، من المرجح أن تكون أكثر فعالية في ترسيخ الإصلاحات السياسية والمؤسسية.
حتى جو بايدن المؤيد بقوة لتوسيع حلف الناتو، والذي كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي آنذاك، شعر في التسعينيات أن الطريقة التي يتوسع بها الحلف قد تؤدي إلى وقوع مشكلات. كما قال في عام 1997، “إن استمرار الشراكة من أجل السلام، التي اتضح أنها أكثر قوة ونجاحاً بكثير مما اعتقد الجميع أنها ستكون في البداية، كانت ربما الطريقة الأفضل”.
التركيز على الطريقة
ما الذي يجب أن تتعلمه واشنطن من هذا التاريخ؟ أحد أكبر التحديات المعاصرة للولايات المتحدة هو الطريقة التي أصبحت بها المواجهة بين الغرب وروسيا مرة أخرى هي النظام السائد اليوم. خلال رئاسة دونالد ترمب المسببة للخلافات والانشقاقات، اتفق الديمقراطيون والجمهوريون على القليل، ولكن على الأقل لم تشعر بعض شرائح الحزب الجمهوري مطلقاً بالارتياح تجاه احتضان ترمب لبوتين. يوفر الإحساس المشترك بالمسؤولية في التعامل مع موسكو طريقاً نحو إجماع محلي أميركي نادر، إجماع يقود إلى الناتو مرة أخرى، ولا يزال قائماً على الرغم من تلاعب ترمب بفكرة الانسحاب الأميركي.
حتى مع رحيل ترمب، يواصل النقاد التشكيك في قيمة التحالف. البعض منهم، مثل المؤرخ ستيفن ويرثيم، يفعل ذلك بعبارات عامة، بحجة أنه لا ينبغي لواشنطن بعد الآن “الاستمرار في هوسها بالتحالفات العسكرية” كما لو كانت التزامات مقدسة. في المقابل، يشتكي نقاد آخرون من أمور أكثر تحديداً، لا سيما في ما يتعلق بالانسحاب الفوضوي الأخير للقوات الغربية من أفغانستان. حتى أرمين لاشيت، المرشح آنذاك لمنصب المستشار الألماني من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، يمين الوسط، (حزب عادة ما يدعم بقوة حلف الأطلسي)، أدان الانسحاب باعتباره “أكبر كارثة يعاني منها الناتو منذ تأسيسه”. بينما أعرب الحلفاء الأوروبيون عن أسفهم لما اعتبروه افتقاراً غير معقول للمشاورات المسبقة، الأمر الذي أزال الآمال المبكرة في إنشاء عصر ذهبي جديد للتحالف، مستوحى من بايدن.
ولكن يجب أن يفكر النقاد مرتين في التخلص من الناتو، أو ترك الفوضى في كابول تعرقل محاولات ما بعد ترمب لإصلاح العلاقات عبر الأطلسي. والمخاوف الأوروبية في محلّها، ومن الواضح أن هناك حاجة إلى نقاش حاد حول الخطأ الذي حدث في أفغانستان. لكنّ النقاد بحاجة إلى التفكير كيف سيكون وقع الدعوة إلى تخفيض مستوى التحالف أو تفكيكه في وقت الاضطرابات. لقد أدت سنوات ترمب، ووباء كورونا، وانسحاب بايدن من أفغانستان، إلى تدمير هيكل العلاقات عبر الأطلسي. وعندما تشتعل النيران في أحد المنازل، لا يكون الوقت مناسباً لبدء أعمال التجديد، بغض النظر عن مدى الحاجة إليها قبل اندلاع الحريق.
هناك أيضاً عبرة أكبر من هذا التاريخ الخاص بتوسع الناتو، وهي لا تتعلق بعلاقات الولايات المتحدة مع روسيا فحسب، بل أيضاً بالعلاقات مع الصين والمنافسين الآخرين. في الواقع، يمكن أن يؤدي التنفيذ المعيب، من حيث التوقيت والعملية، إلى تقويض استراتيجية معقولة حتى، كما أظهر الانسحاب من أفغانستان. والأسوأ من ذلك، يمكن أن تؤدي الأخطاء إلى أضرار تراكمية وندبة عندما يتم قياس تنفيذ الاستراتيجية بالسنوات بدلاً من الأشهر. إذاً، يتطلب النجاح في المنافسة الاستراتيجية على المدى الطويل الحصول على التفاصيل الصحيحة.
ماري إليز ساروت هي أستاذة متميزة في مركز ماري جوزيه وهنري آر كرافيس، في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، كما أنّها مؤلفة الكتاب الجديد “ولا بوصة واحدة: أميركا وروسيا وخلق مأزق ما بعد الحرب الباردة (مطبعة جامعة ييل، 2021)، الذي تم اقتباس هذا المقال منه.
المصدر: فورين أفيرز /اندبندنت عربية