محمود الوهب
بغض النظر عن تراجع أداء المعارضة عما كانت عليه بداياتها، أيام الزخم الشعبي للشارع السوري، وتنازلها عن الكثير مما تمسكت به، ومنها المبادرات العربية، وقبولها، فيما بعد، بتجزئة القرار الأممي 2254 من خلال سوتشي 2018 إذ فُرض عليها بند منه قد لا يقدم ولا يؤخر في إطار الحل الشامل.
وأعني به تشكيل اللجنة الدستورية التي لا أحد يعرف الأساس، أو المنطق الذي استلَّ بموجبه من ذلك القرار بعد ثلاث سنوات من صدوره في العام 2015 وبعد الفعل الوحشي الذي قامت به الآلة العسكرية الروسية في الشعب السوري قتلاً، وتهجيراً، وتدميراً كاملاً لمقدراته، ثم لتبدأ والنظام عملية الاستثمار السياسي فيجرجران المعارضة، بالمماطلة، خلال مسار تلك اللجنة التي لم تنتج شيئاً مدة سنتين كاملتين وبخاصة في دورتها السادسة الأمر الذي أوصل أطرافاً في المعارضة إلى حال من اليأس، فبدأوا بالأخذ والرد حول جوهر عمل اللجنة الدستورية، وغالباً ما تدور النقاشات والآراء غاضبة حول فشلها، وتحميلها المسؤولية علماً بأن أغلبية هؤلاء يعرفون تماماً أن النظام لم يكن ليقبض أي مقترح يجمعه مع المعارضة، سواء جاء من جهة دولية حيادية أم من جهات ساعدته على قتل السوريين وتهجيرهم.
هذا ما كان النظام يرجوه ويتمناه، إذ هو في غنى عمن يقول له لا، أو يطلب منه أن يفعل كذا أو كذا خارج إطار دولته العميقة التي يهمها البقاء على ما هي عليه من نهب، وقمع، وتأخر حضاري يشمل جوانب الحياة كافة. والشعب من وجهة نظر رأس الدولة هو المتجانس الذي يرفع له شعار: «بالروح بالدم» وامتداح أي قرار منه يمنح فتاتاً للشعب على أنه هبة أو عطاء أو تقدمة كريمة من قائد فريد عصره، بل إن هذه الصفات: الواهب، والكريم، والمعطي مستمدة من أسماء الله الحسنى، وهذا ليس عفوياً بل هو مقصود لأن يلتف «سيادته» ومن لهم سطوة على الدستور والقوانين، وهذا ما كان يحصل بالفعل.
ويبقى السؤال الأهم: هل المشكلة التي تناولها متابعو الشأن السوري تكمن في اللجنة الدستورية أم في أدائها أم في أي نوع من التفاوض؟! في الجواب يمكن القول: لا أبداً، فجذر المشكلة يكمن في عدم التوازن بين الطرفين المتفاوضين. المعارضة لم تحسن استثمار زخم الأشهر الأولى من عمر الثورة السورية التي لفتت أنظار العالم كله، وجذبتهم مؤيدين، ومشجعين، ومتبنين. ففي عودة إلى مسيرة الثورة، منذ زخمها الأول إلى أن أخذتها ظروفها نحو التسلح، وتهديد النظام بالسقوط أواخر العام 2012 والاستعانة بالإيرانيين، فكان تفجير خلية الأزمة ومقتل عدد من قادة نظام الأسد ممن كان لهم رأي، ربما، أكثر ليونة في التعاطي مع الشارع الثائر، أو لا يتعاطون مع الإيرانيين.
وثمة سؤال افتراضي لكنه شديد الأهمية: هل ستكون «جيوش المنتصرين» آنذاك أي أواخر العام 2012 أمينة لشعارات الثورة السورية في الحرية والكرامة، وإسقاط دولة الاستبداد، وقيام دولة المواطنة التي لا تمييز فيها بين مواطن وآخر على أي أساس كان؟ إذ هي دولة تقوم على أسس من الحرية والديمقراطية، ومفاهيم الحداثة؟! الجواب يكمن فيما مارسه هؤلاء وهو نفي مطلق! فبعد سنوات من ذلك التاريخ، ودخول الميليشيات الإيرانية، ومن ثَمَّ الروسية، وارتكابهما والنظام الفظائع، أقدمت تلك الجيوش التي كانت تحاصر دمشق على إجراء مصالحات قام بها الوسيط الروسي ممكِّناً للنظام باستعادته مساحات واسعة من المناطق السورية، وليتبين، كذلك، أن بعض قادة تلك الجيوش لم يكونوا أبداً على مستوى المسوِّغ الذي أتوا من أجله، وهو حماية المتظاهرين وإسقاط النظام، فقد ظهرت لديهم سجون، ومعتقلات، وتعذيب، واستتابة، وتغييب قسري، وتمييز بين ثائر وآخر، ما يشير إلى أجندات خاصة بهم، وبفكرهم، يفسر ذلك عمليات الاقتتال والتصفيات فيما بينهم وسيطرة بعضهم على بعض، وكل ما يبعدهم عن شعارات الثورة، ومناهضة الاستبداد، ويؤكد التطرف المرفوض كلياً.
كما برزت لدى بعض هؤلاء القادة مظاهر الثروة، إذ أخذوا ينشئون بتلك الأموال مشاريع استثمارية في بلدان لجوئهم بملايين الدولارات. ولا شك في أن داعمي هؤلاء، وتنافسهم فيما بينهم، وبالأسلوب الذي جرى، يتحملون مسؤولية كبرى فيما آلت إليه المعارضة، إذ لم يكن همهم انتصار الديمقراطية في سوريا، بقدر ما كان تصفية حسابات لهم مع النظام! ولعل كل هذه الأمور، وممارسات أخرى مشابهة لدى بعض أفراد من المعارضة (هيئاتها الرسمية) كالتهافت، والتنازع على مراكز سلطوية، وتقديم شعار المكوِّنات السورية، ومظلومية هذه الفئة أو تلك على شعارات الثورة وكأن قسوة الاستبداد لم تكن لتشمل المجتمع كله قمعاً وتمييزاً. والأهم من ذلك كله أن الأحزاب والتجمعات والمنظمات التي نبتت مثل الفطر، في بلاد الاغتراب متجاوزة أعداداً غير معقولة، لكنها لم تستطع أن تكوِّن لها نواة صلبة، وأن تنشئ خطاباً رئيساً موحداً، خطاباً يفهمه العالم، ويقبله ومن ثَمَّ يتبناه في المحافل الدولية.
يتبين مما تقدم، وفيما يتعلق باللجنة الدستورية، أن جوهر أزمتها لا يكمن في مشاركتها أو عدمها، إنما في عدم تماثل القوى بين الطرفين. صحيح أن النظام يعيش أزمة خانقة، فهو يحمل أوزار الحرب التي أشعلها دون مبرر إلا أن يبقى في السلطة، ويعاني اليوم من مشكلات لا حدود لها، فالخراب يلف فعاليات البلاد كلها، ويتعرض الشعب إلى الكثير من الذل والمهانة في سبيل الحصول على ضرورات الحياة، إضافة إلى أن الروسي والإيراني يتقاسمان اليوم مع أثرياء الحرب اقتصاد البلاد، ويهيمنون على أنشطته كافة، ناهيكم من الاحتلالات، وافتقاد استقلالية القرار السوري، والمناهضة التي تواجه النظام بالعودة إلى ما قبل الـ 2011، عربياً ودولياً وإعادة الإعمار وهذا المستحيل بعينه إذا لم يطبق القرار 2254 لكن هل تستفيد المعارضة من حال النظام، وهل لها داخل البلاد بؤر قوية تدعمها؟ وهل هي موحدة الرأي والشعار؟ وهل قطعت كلياً مع فصائل موضوعة على قوائم الإرهاب أو رفعت الصوت تجاه سلوكها؟ وأخيراً، وبما أن الثورة تجاوز وارتقاء، يمكن القول: إن المعارضة لم تستطع حيث وجدت، مدنياً وعسكرياً، وحيث (قادت أو سيطرت وتحكمت) أن تتجاوز نظام الاستبداد على نحو أرقى. ومن هنا فالأزمة ليست في عمل اللجنة الدستورية بل في حال المعارضة التي لا تملك اليوم غير نضالها السياسي وهو في أدنى مستوى له، ولديها الكثير مما يمكن الاعتماد عليه، فوجودها خارج البلاد ومعها الكثير من المنظمات والطاقات الفردية القريبة على نحو ما من حكومات صنع القرار، ولديها إمكانية التواصل مع الداخل السوري، لكنها لا تزال بعيدة عن تكوين نواة صلبة لها صوت سوري يستمد قوته من وضوحه ووحدته، ومن لغته المفهومة لدى القوى الدولية الفاعلة ويمثل بحق ملايين السوريين سواء كانوا في المخيمات أم في بلاد اللجوء أم في الداخل السوري.
كاتب من سوريا
المصدر: القدس العربي