د معتز زين
الناس مختلفون. في عقائدهم وأفكارهم وأهدافهم وأذواقهم وعاداتهم وردات أفعالهم. هذه هي طبيعة البشر أفرادًا وجماعات. كانت وستبقى حتى تنتهي الحياة على هذه الأرض. لا يمكن رسمهم بلون واحد، ولا يمكن استنساخ شخصياتهم ومجتمعاتهم. لكل إنسان بصمة إصبع وبصمة عين خاصة به تميزه عن غيره من البشر. ولكل إنسان بصمة شخصية تميزه عن غيره من الشخصيات. ولكل مجتمع بصمة من العادات والأخلاق والقيم والمعتقدات والسلوكيات تميزه عن غيره من المجتمعات.
ليس المطلوب دمج الناس في قالب واحد واستنساخهم أفرادًا أو مجتمعات. وإنما المطلوب إيجاد صيغة للتعايش بينهم مع وجود الاختلافات وتقبلها من جميع الأطراف، ووضع قوانين ترسم الحدود بين الأفراد والمجتمعات وتحدد هامش الخصوصية التي لا تصطدم بخصوصية المخالف أو تحد من حريته. المطلوب نظام عادل يؤمن لكل الأطراف مساحة كافية لممارسة خصوصياتهم ومعتقداتهم وعاداتهم دون تعدي على خصوصية الآخرين ومعتقداتهم وحقوقهم.
ما دعاني لهذا الكلام هو الحديث الذي يتكرر مؤخرًا عن محاولة دمج الأديان التوحيدية الثلاثة في دين واحد. الفكرة التي تبدو في ظاهرها براقة وبريئة وإنسانية لكنها تخفي في أعماقها ألغامًا قد يؤدي انفجارها – بصاعق بسيط – إلى حرب دينية لا تبقي ولا تذر.
في البدء علينا أن نقرر أن محاولة دمج الأديان هي خطوة سياسية وليست دينية ولا إنسانية، تخدم أهدافًا سياسية وتندرج ضمن استراتيجية عامة تسعى لتحقيق واقع سياسي معين له بعد اجتماعي.
فضلًا عن وجود اختلافات بنيوية بين الأديان الحالية ( أقصد كما آلت إليه بفعل الزمن والتحريف والتبديل والتراكمات) تجعل من إمكانية دمجها أمرًا مستحيلًا، فإن أصابع السياسة التي تسعى نحو عملية الدمج تزرع الريبة والشكوك في الهدف من هذه العملية. ذلك أنه لا يوجد في الدين تلون وتبديل جلد بعكس السياسة التي تغير لونها وجلدها وخطابها حسب اتجاه ريح المصالح والأجندات.
دافع الحركة في الدين هو القيم والأخلاق وهي ثوابت مع هامش يراعي المصالح، بينما دافع الحركة في السياسة هي المصالح والمنفعة وهي متبدلة مع هامش رفيع وأحيانًا معدوم يراعي القيم والأخلاق .
اقتراب الدين الحقيقي (الأخلاقي) من السياسة وهيمنته عليها يعني وضع ضوابط أخلاقية للسياسة يمنعها من التغول في الفساد والظلم والاستبداد والتوحش والتميع والبغي. أما اقتراب السياسة من الدين واستحواذها على قراره والتحكم بمفاصله ومنابره يعني تحويل الدين إلى بضاعة قابلة للبيع والشراء والتفاوض وإفراغ الدين من محتواه الأخلاقي تدريجيا وتشريع ممارسات السياسة الاستبدادية وتطويع الناس للقبول بالظلم والفساد. الدين يهذب السياسة ويؤنسنها والسياسة تستغل الدين وتتاجر به.
كمسلمين نحن الأقوى دينيًا والأضعف سياسيًا. ومشكلتنا مع الآخرين سياسية وليست دينية. مشكلتنا أنهم يستعمرون بلادنا وينهبون ثرواتنا ويعيقون نهضتنا. والدين – وليس السياسة – هو المسؤول عن حالة التماسك الاجتماعي والتفاؤل المستمر بإمكانية حدوث نهضة جديدة تعيدنا إلى دائرة التنافس الحضاري رغم حالة الترهل السياسي والاقتصادي والتقني. لو أمكن – جدلًا- تطبيق الدمج، ستفقد مجتمعاتنا تماسكها وتميل نحو حالة من التفكك والتميع وفقدان الهوية. ستفقد قدرتها على التمرد والثورة في وجه الاستبداد والطغيان والاستعمار. ستفقد روحها القادرة على بعثها من سباتها. دون أن تعوض بأدوات التقدم العلمي والعسكري. ولا شيء يعوض عن قيمنا وديننا.
الثبات على القيم الدينية الأصيلة لا يعني أبدًا رفض قيم الآخرين أو الاعتداء عليها أو ازدراءها فلكل مجتمع قيمه التي يعتز بها ولا إكراه في الدين. وإنما يعني الحفاظ على الهوية وعدم السماح للآخرين بالتعدي على ديننا وقيمنا ومسح ملامح شخصيتنا الحضارية، وخاصة عندما يظهر الطرف الآخر ما يدل على حالة تربص بهويتنا وعداء لكل ملامحها ومظاهرها. ما نسعى إليه هو حالة من التعايش على أساس قبول الاختلاف. اقبلني كما أنا وأقبلك كما أنت. لكنني لن أرضى أن يكون فقدان هويتي وتمييع شخصيتي ثمنًا لرضاك عني وتحالفك معي.
الإسلام هو الدين الوحيد الذي يمتلك خصائص بنيوية تجعله مؤهلًا لتقديم منهج كامل يحقق التوازن بين متطلبات الجسد والروح. هو الوحيد الذي يقدم رؤية معقولة عن الكون ويجيب عن الأسئلة الوجودية ويقدم منهج حياة كامل للفرد والمجتمع. فيه من المرونة والصلابة ما يجعله يوفر أدوات التقدم وشروط الانخراط في الحضارة في ذات الوقت الذي يحافظ على القيم والأخلاق والهوية دون تميع أو ابتذال. من أجل ذلك يشكل نواة جذب حقيقية تغري كل الباحثين عن الهدوء الداخلي والسكينة دون الانفصال عن الواقع لاعتناقه والتمثل بمبادئه.
ديننا هو بقايا قوتنا ومصدر طاقتنا الكامنة، ومحاولة جره نحو حقل السياسة التي تشكل نقطة ضعف مهمة في بلادنا هي محاولة لنزع آخر أدواتنا القوية في معركة التنافس الحضاري .
المصدر: اشراق