عمر قدور
كان بشار الأسد ماثلاً خلف القضبان، وقضت المحكمة بتجريمه والحكم عليه بالسجن مدى الحياة. هذه خلاصة المبالغة في الاحتفاء بالحكم الصادر عن محكمة كوبلنز الألمانية على المتهم أنور رسلان، وهو ضابط سابق برتبة عميد في “إدارة أمن الدولة”، وخدم كرئيس لقسم التحقيق في “فرع الخطيب” الذي نال سمعة واسعة بوحشية جلاديه، أسوة بفروع أخرى لمختلف أنواع المخابرات التابعة الأسد، من “أمن دولة” و”أمن سياسي” و”أمن عسكري” وأمن جوي” وأصول وتفرعات أخرى تحتاج مجلدات لتعدادها والحديث عن “نشاطها”.
قرار المحكمة شخصي، بمعنى أنها لا تحاكم نظام القتل والإبادة، وإن كان السيستم موجوداً في شهادات المدّعين والشهود، وحتى في دفاع المتهم الأخير عن نفسه. الحكم على بشار الأسد وماكينته هو معنوي في المقام الأول، وعلى الصعيد القانوني لا يعني تجريمُ أنور رسلان التجريمَ التلقائي للرئيس الأعلى للجلادين. الحكم قد يكون مفيداً لجهة الاستئناس به في قضايا أخرى مُقامة، أو قد يبادر إلى رفعها متضررون أو جمعيات حقوقية تنطق باسمهم أمام محاكم غربية، وهي أيضاً قضايا ستثار ضد أشخاص بعينهم، أما محاكمة السيستم ككل فلا يمكن الشروع فيها من دون تأسيس محكمة خاصة بجرائم الإبادة والحرب المرتكبة في سوريا، وهذه دونها فيتو روسي وصيني، وفي الأصل لم تكن هناك مبادرة أممية لطرحها في هيئات الأمم المتحدة.
يصلح البيان الصحفي الصادر عن “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” كنموذج للتهليل والحفاوة المطلقة، الأمر الذي قد يخلّف نتائج معاكسة على صعيد النظر إلى حكم محكمة كوبلنز. بحسب بيان المركز، هو يعتبر الحكم “قراراً تاريخياً وعلامة فارقة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية”، و”القرار تاريخي لأنه يصدر بحق مجرم برتبة عالية، أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضمن سياق الجرائم التي يرتكبها، وما يزال يرتكبها، النظام الاستبدادي في سوريا بشكل ممنهج وواسع النطاق بمشاركة كل رموزه الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامي”، و”القرار تاريخي لأنه ولأول مرة تكون إجراءات العدالة أولاً وسابقة لأي حل وقبل انتهاء الأزمة وقبل توقف الجرائم ولا يتم التحكم بها أو تحجيمها أو إلغائها من قبل السياسيين”. القرار تاريخي لأنه لأول مرة تبدأ العدالة بطلب وجهود الضحايا والمجتمع المدني، وباستجابة من قضاء مستقل بدون تدخل الدول أو المجتمع الدولي”.
هذه اللهجة تسود عموم البيان المطوَّل للمركز المعني مباشرة بتحقيق الانتصار، من موقع الادعاء والاشتغال على إحضار المدعين الشخصيين والشهود. وإذا كان يحق للمركز الشعور بنشوة الانتصار، وهو حقاً أول انتصار سوري قضائي من هذا المستوى ضد سلطة الأسد، فينبغي التشديد على كونه “انتصاراً سورياً”، بمعنى التحلي بقليل من التواضع وعدم إطلاق أحكام من قبيل أن القرار “علامة فارقة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية”. اللباقة أيضاً تقتضي أن يقرر حقوقيون ألمان العلامات الفارقة في تاريخ قضائهم، وأن يُترك لخبراء قانون متعددي الجنسيات تقرير ما إذا كانت محاكمة أنور رسلان علامة في تاريخ العدالة العالمية.
أبعد مما سبق، يذهب بيان المركز إلى “أنه لم يعد ممكناً بأي شكل من الإشكال، وتحت أي عنوان، إعادة دمج زمرة مجرمين، ونظام مجرم، مدانين قضائياً بجرائم ضد الإنسانية، في المجتمع الدولي مرة أخرى”. كأن بشار الأسد حقاً مَن كان خلف القضبان، أو أن هذا المصير لم يعد بعيداً عنه رغم تصريحات قادةٍ من دول عظمى تنص على ما يخالف هذا التفاؤل المفرط. هو تفاؤل ينقصه تواضع الإقرار بأن صدور الحكم لا يعدو كونه خطوة في مسار شائك طويل جداً، وينبغي السير فيه رغم عدم وجود ضمانات ليُكلل بالنجاح المأمول.
من المؤسف حقاً أن يسيء المركز إلى جهوده الحميدة في هذه القضية بمبالغات يجانب بعضُها الصواب على نحو فاضح، فتذكّرنا بالخطاب الإعلامي الأسدي الذي نشأ عليه عموم السوريين، ولا يندر أن نراه يطل هنا أو هناك من خطابات المعارضة والثورة، وهذا هو سبب توقفنا عند بيانه، فضلاً عن أن لغته تمثّل شريحة أوسع من المحتفلين بصدور الحكم. البيان نفسه يشير بتعبير تقني محايد إلى مغادرة رسلان سوريا في نهاية عام2012، ويخلو من أية إشارة فيها قليل جداً من الإيجابية لصالح مُدان قرر، وبإرادته إذ لم يثبت وجود ضغوط وراء قراره، ترك عمله الإجرامي السابق. وإذا كان زمن الانشقاق قد ولّى، بمعنى أن الإشارات الإيجابية لن تشجّع أحداً على الانشقاق، فهي تبقى ضرورية على أمل إحياء شيء من الإنسانية لدى جلادين على رأس عملهم لدى ماكينة الأسد، وأيضاً لدى جلادين أصغر شأناً في مناطق خارج عن سيطرته.
من جهته، لم يقدّم أنور رسلان في كلمته الأخيرة إلى المحكمة ما يفترق عن الخطاب الأسدي إياه لجهة القفز عن الواقع والانتقائية وعدم الاعتراف بأدنى خطأ. هو ينكر تماماً أن يكون قد أصدر أمراً واحداً بالتعذيب أو استخدام العنف أو إساءة معاملة أيّ من السجناء، ويقول أنه كان تحت المراقبة بوصفه خائناً أو غير مأمون الجانب لانتمائه إلى بلدة الحولة الثائرة على الأسد، والتي تعرض أهلها لمجزرة مروعة. ويسهب في ذكر حوادث وتفاصيل تلقي بالمسؤولية على ضباط آخرين، بينما كان هو طوال الوقت يحاول مساعدة ما يُتاح له من المعتقلين الذين يُساقون إلى “فرع الخطيب” بما يفوق بكثير جداً طاقته الاستيعابية.
الاستدلال بأقوال رسلان نفسه يأخذنا إلى نتائج مختلفة، فمع الاحتفاظ بما يرويه عن حسن نواياه إزاء المعتقلين من المنطقي أن يمارس التمويه عليها، فيأمر أو يستخدم منسوباً ولو متدنياً جداً من العنف. ثم إن قارئاً لكلمة رسلان، لا يعرف خبايا عمله، سيظن أن العنف راح يُستخدم فقط بعد اندلاع الثورة، ولم يكن يُستخدم قبلها على نطاق أضيق يفي بالغرض، وليس أصلاً في جوهر إنشاء وعمل هذا العدد الضخم من فروع المخابرات. هو لا يُظهر أي ندم على عمله في المخابرات قبل اندلاع الثورة، وعلى ذلك لا يقدّم “من موقعه المفترض كمنشق” إدانة جذرية لسلطة الأسد بوصفها كانت وحشية قبل اندلاع الثورة، أي بطبيعتها، وزادت وحشيتها مع تعرضها للخطر. صحيح أن القضية المرفوعة وضعته في موقع المتهم، لكن كان في وسع رسلان الانتقال معنوياً إلى موقع المدّعي لو أدان ماضيه واعتذر عنه بدل محاولة التملص منه.
في المدى المنظور، نعلم أن مصير بشار لن يُقرر في قاعة محكمة، ولن نراه خلف القضبان مهما كان المصير الذي ستقرره له القوى القادرة على ذلك. ولأن الأمر على هذا النحو يجدر بمحاكمة رسلان وغيره أن تكون تمريناً سورياً على فكرة العدالة، إنما بأدوات غير أسدية، بدءاً من الخطاب المستخدم الذي رأيناه مقسوماً على جهتي الادعاء والدفاع.
المصدر: المدن