محمد أبو رمان
في نقاش معمّق، قدّمت الصحافية الأردنية رانيا الجعبري، في منتدى معهد السياسة والمجتمع في عمّان، قراءة في كتاب المفكر والفيلسوف الروسي، ألكسندر دوغين “أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتكي” (بحضور نخبة من الأكاديميين والسياسيين والباحثين المتدربين في المعهد)، مع الإشارة إلى دور دوغين في صياغة أيديولوجيا الدولة الروسية في ما بعد الشيوعية، أو النظرية الأوراسية المحافظة أو النظرية السياسية الرابعة، وجميعاً تشير إلى ما قدّمه الرجل من أفكار وآراء أصبحت مهيمنة ومهمة في المشهد السياسي الروسي.
الولوج إلى العالم الفكري لدوغين ممتع فعلاً، وتجد فيه مستويات متعدّدة من التحليل، خصوصاً في إعادة بناء أيديولوجيا روسية لمواجهة العولمة الليبرالية الغربية. ومن هنا، جاءت فكرة الأوراسية في إطار المواجهة التاريخية – الأيديولوجية مع الحضارة الاطلسية، وتصميم المجال الحيوي الروسي في سياقاته الداخلية والجوار الجغرافي وفي تقسيم العالم إلى دولٍ تمثّل محوراً مهماً في النظرية الأوراسية، كألمانيا واليابان وإيران، ودول على الهامش أو الأطراف.
الجدل الذي ثار بين الحضور (في منتدى السياسة والمجتمع) تموضع حول ما إذا كانت النظرية الأوراسية واقعية أو مثالية، ولا يمكن تطبيقها، بخاصة أنّها تفترض وجود ألمانيا ضمن المحور الروسي، وتعيد بناء النموذج السوفييتي على أسس أيديولوجية واستراتيجية مختلفة، يتم فيها استبدال الأوراسية بالشيوعية، وهو أمر رآى مشاركون كثيرون أنه غير واقعي ولا منطقي، بل اعتبروه أوهاماً أيديولوجية لا أكثر!
قد تبدو السياسة الخارجية الروسية أقرب إلى الواقعية البراغماتية والمصالح الاستراتيجية من الالتزام بالنظرية التي قدّمها دوغين، واعتبرها كثيرون مثالية، لكنّ النظرة الشمولية لسياسة الرئيس بوتين داخلياً وخارجياً تؤكّد، بالفعل، أنّه تأثر بدوغين، واستثمر كثيراً في ما قدّمه من آراء، ولو كان هذا الفيلسوف مثالياً وليس واقعياً أو خارج إطار الحسابات الروسية لما كانت كتبه ومؤلفاته تدرّس في كليات الدفاع الروسية، وتعتبر ملهمةً للمؤسسة العسكرية والأمنية هناك!
السياسة الروسية، بالضرورة، لا تسير على خطّ تفصيلي لما كتبه دوغين، وليس هذا المقصود، إنما هنالك إطار مهم وضعه الفيلسوف، حظي بالقبول والتبنّي من بوتين والمؤسسات العسكرية والأمنية، يمثّل مخرجاً أو خياراً بديلاً عنوانه الأوراسية، ومضمونه إيجاد أيديولوجيا خاصة، قادرة على محاكاة الشعور بالمجد الروسي وتمثّله، ورفض القبول بالهزيمة الأيديولوجية أو اعتبار الليبرالية الغربية الخيار الوحيد المتاح، وهو خطّ أيديولوجي ذكي، يجمع ما بين عوامل ومستويات متعدّدة؛ مستوى التاريخ والتراث الروسي وضرورة أن يكون جزءاً من الأيديولوجيا الروسية، سواء تحدّثنا عن البعد الديني – الأرثوذوكسي أو البعدين، القومي والتاريخي، ومستوى الشعور الروسي بالفخر والمجد الإمبراطوري ورفض التبعية للغرب، ومحور المجال الاستراتيجي الروسي، بداية من الأمن الداخلي في مواجهة الأيديولوجيات الأخرى، مروراً بدول آسيا الوسطى التي تمثّل، ضمن هذا التصور، جزءاً رئيسياً من الأمن القومي الروسي، وصولاً إلى النظر في التحالفات والدول، من خلال هاتين الزاويتين، الأيديولوجية والاستراتيجية.
لقد أعطى دوغين لروسيا فكراً استراتيجياً جديداً وإطاراً مختلفاً لمفهوم الأمن القومي والمجال الحيوي والعلاقة مع الغرب، بعد سنوات التسعينيات التي مثّلت ما يشبه مرحلة الضياع والشعور بالانكسار، وهي الاعتبارات التي تساعد كثيراً في فهم سلوك بوتين تجاه الغرب، وتجاه كازاخستان وأوكرانيا وروسيا، فهي سياساتٌ واقعيةٌ تقوم على اعتبارات المصالح الاستراتيجية والأمن القومي الروسي بالتأكيد، لكنّها مسكونةٌ بالروح التي نفخها دوغين فيها.
جرّنا الحديث عن دوغين ونظريته وتنظيره وعلاقته ببوتين والمؤسسة العسكرية الروسية إلى حديث المنطقة العربية، لكن من زاويةٍ أخرى، تتمثّل في ضعف التنظير الاستراتيجي للأمن القومي لدى أغلب الدول العربية، وغياب المنظور الفلسفي – النظري الواضح لبناء مقاربات تؤطر المصالح الحيوية ومصادر التهديد والمجال الاستراتيجي لهذه الدول، ولا يقتصر الأمر على الأدبيات النظرية، بل حتى دور مراكز الدراسات والأبحاث والتفكير، فجميع هذه المؤسسات والطاقات معطّلة وغير فاعلة، وكأنّ السياسة الخارجية للدول العربية تسبح في فراغ استراتيجي نظري!
تتميّز مصر، بسبب وفرة النخب الأكاديمية والمدارس الفكرية فيها، بنظريات عديدة لمفهوم الأمن القومي المصري ولدور مصر في المنطقة وسياساتها، لكنّ الفجوة في مدى تبنّي الدولة أو الرئاسة هذه النظريات واعتماد تصور محدد واضح. أما أغلب الدول العربية الأخرى فتعاني، في الأصل، ندرة شديدة في مستوى التنظير الفلسفي والاستراتيجي، فضلاً عن الفجوة العميقة بين الأطر الأكاديمية والمدارس الفكرية من جهة وصنّاع السياسة من جهةٍ أخرى، بخلاف دول الجوار، كإيران وتركيا وإسرائيل، التي تحظى بحضور واضح للتنظير الأكاديمي والفكري للسياسات الرئيسية، بخاصة الخارجية.
في إيران، عديد من الأدبيات والمساهمات النظرية والفلسفية، ونجد باحثاً وأكاديمياً، كيهان بارزيجار (Barzegar)، (في مركز البحوث الإستراتيجية المقرّب من دوائر الحكم في طهران)، يقدّم تصوّراً واضحاً لدور العامل الشيعي في السياسة الخارجية الإيرانية، وذلك في مقالته الهامة “Iran and the Shia Factions: Strategic Coalition”. وفي تركيا، رأينا كيف أنّ أحد أهم السياسيين هناك، وهو أحمد داود أوغلو، كتب “العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” يقدّم فيه منظوراً مغايراً لتركيا ومجالها الحيوي عن ذلك الذي ساد خلال عقود سابقة. وفي الكيان الصهيوني، تجري مناقشة قضايا الأمن القومي والاستراتيجيات بصورة سنوية عبر مراكز ومحافل عديدة، من أبرزها مؤتمر هرتسليا، الذي يجمع كبار السياسيين وقادة الجيش والأمنيين، ويتناقشون في مصادر الأمن القومي والتهديد والتحدي الداخلي والخارجي.
في الأردن، مثلاً، تم إقرار مجلس للأمن القومي، في التعديلات الدستورية أخيرا، وهو أمر يعني أنّ هنالك صحوة في ما يتعلق بالأمن القومي الأردني وأهميته، لكنّ هذا الاهتمام ليس مقترناً بدراسات وأبحاث تؤطّر السياسات بقدر ما هو معنيٌّ بالتعامل مع التطورات السياسية والأمنية بصورة آنية يومية، ما يعكس الأزمة الحقيقية في التنظير الفلسفي – السياسي الأردني خصوصاً، والعربي عموماً.
أين المفكرون أو الفلاسفة أو السياسيون العرب الذين قدّموا لدولهم تصوّراً فلسفياً بديلاً عن السياسات الراهنة التي قادت إلى ما نحن فيه؟ فحتى المعارضة عندما تصل إلى الحكم تلتزم بالسياسات القائمة، خارجياً وإقليمياً واقتصادياً، وكأنّها نسخة كربون واحدة لا بديل لها!
المصدر: العربي الجديد