أحمد مظهر سعدو
تعاني الساحة السياسية السورية، ومنذ بدايات الثورة السورية، بشكل أكبر، من مسألة الاستغراق الكبير في حالة الاصطفافات الأيديولوجية التي تعوق الكثير من الحراكات، وتلجم العديد من حالات الوصول إلى المشتركات، وتنبيء بمزيد من التمترس وراء مسبقات فكرية أيديولوجية كانت قد تمكنت من الناس أو الطبقة السياسية بشكل أخص، بحيث لم تعد تترك المجال الرحب للانفتاح نحو انبثاقات باتت ضرورية من أجل امتلاك القدرات الوطنية التوحيدية، والمشتركات المتشابهة التي تنتج أجسامًا سياسية وتنظيمية أكثر جدوى، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الكبرى التي تمسك بتلابيب وخناق الثورة السورية/ ثورة الحرية والكرامة، لدرجة أنها أعطت انطباعات وإشارات للناظرين من الخارج على أن هذا الواقع آيل للسقوط وعدم الجدوى.
وحتى نكون أكثر إنصافًا نقول: إن الإمساك بالمسألة الأيديولوجية في الواقع السوري الحالي وماضيه القريب أيضًا، يبين أن الانجرار نحو إعلاء سور الأيديولوجيات كان ومايزال إحدى العثرات الكبرى التي عوقت وتعوق أي تقدم نحو الأمام، ومعروف أن الواقع السوري أساسًا تتنازعه وتتداول على منصاته السياسية عدة أيديولوجيات نذكر منا: الإسلامية والقومية والماركسية وكذلك بشكل أخف الليبرالية. وقد عملت هذه التوضعات الأيديولوجية في الماضي القريب على إمداد الخلافات والاختلافات عمرًا جديدًا ومديدًا، وسعة أفق زمني، بحيث بات الوصول إلى توافقات بين هذه الأيديولوجيات أو بعضًا منها أمرًا غاية بالصعوبة، خلا بعض التجمعات السورية التي حاولت الخروج من عباءة الأيديولوجيا في لحظات زمنية معينة وجدت أن من الضرورة بمكان الوصول إليها، ومنها تجربة التجمع الوطني الديمقراطي في سورية التي جمعت أيديولوجيات قومية عربية، وماركسية شيوعية، لكنها لم تستطع أن تستوعب داخلها الأيديولجيا الإسلامية الدينية أبدًا. كان ذلك إبان أزمة الأخوان المسلمون وتنظيم الطليعة مع السلطة الأسدية الغاشمة، أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الفائت، وكانت تجربة فريدة ومتميزة تمكنت من تنحية الأيديولوجيا جانبًا، أو وضعها على الرف مؤقتًا تهيئة لعمل وطني ديمقراطي يمتلك مشروعًا وبرنامجًا وطنيًا للتغيير، في مواجهة سلطة الأسد الأب التي اتكأت على بناءات الدولة الأمنية وألغت السياسة من المجتمع، وزجت في السجون والمعتقلات معظم من حاولوا تعاطي السياسة في شقها السوري المعارض.
لكن تجربة التجمع الوطني الديمقراطي المتميزة لم تستطع أن تستمر طويلاً بعد رحيل مؤسسها الدكتور جمال الأتاسي، فقد عاجلتها مرة أخرى الخلافات الأيديولوجية والتحجر الفكري وبعض السياسي والشخصاني، فانفلت عقدها مع بدايات ثورة الحرية والكرامة أو ماقبل ذلك بقليل.
واليوم تعود مسألة الاصطفافات الأيديولوجية إلى الواجهة من جديد، وتعيد المأساة إلى سابق عهدها، وتعوق أية محاولات لبناء عقد اجتماعي جديد يُخرج المسألة السورية من عنق الزجاجة الخانق شكلًا وموضوعًا. ويبدو أن تشريح هذه التمترسات يضعنا أمام ماهية ماتفعله الأيديولوجيات والاصطفافات من أخطار فهي:
_ تمنع التفكير الواعي والصريح والعقلاني في السياسة، وتحيل المرء والحزب إلى أداة مطواعة ليس إلا، تنظق باسم التنظيم الذي ينتمي إليه.
-الأيديولوجيا والتمسك بها تجعل من المرء غير ممتلك لحرية التعبير أو التفكير أو الكتابة، إذ لايمكنه أبدًا الخروج من عباءة الأيديولوجيا، حتى لايُكفًّر أو يطرد من التنظيم، ومن الفكر الذي ينتمي إليه.
_ الاصطفاف الأيديولوجي يضع الجميع في حالة عداء واستعداء يومي مع الأخر دون القدرة على الخروج من هذه العدائية التي تعيق أي فعل تقاربي، حتى لو كان داخل الأسرة الواحدة.
_ كما أن الانخراط داخل أتون أيديولوجبا معينة تساهم في (حجر الإنسان) داخل إطاره المحدد فقط، وتساهم شاء المرء أم أبى، وعى ذلك أم لم يعيه في إعلاء سور الخلافات الفكرية النظرية التي تصل بالإنسان إلى حد تكفير الآخر دون وعي.
_ وعندما يصل الانسان الذي يتعاطى السياسة إلى درجة تكفير الآخر، فإن ذلك يمنع أي لقاء توحيدي بينهما حتى لوكان اللقاء لصالح الوطن ومن أجل خلاصه، وفي مواجهة الاستبداد الذي يشترك الجميع في مناهضته.
-والأهم من كل ذلك أن داء الاصطفاف الأيديولوجي مرض من الصعب الشفاء منه، فهو مرض مزمن، ويمنع ويعيق كل أنواع الدواء أو اللقاح من معالجته، ويقوض الحوار، فيشعر المرء أنه وخلال أية عملية حوار مع أيديولوجات أخرى أن الداخل الأيديولوجي الكامن جوانيته، يخرج بين الفينة والأخرى ليقول: أنا هنا وأنا مازلت موجودًا، ولايمكن تجاوز محدداتي وأطري الأيديولوجية.
ويبدو أن معظم (إن لم يكن كل) الذين يتحدثون عن الأيديولوجيا اليوم، على أنها باتت تعيق العمل الوطني السوري، وتمنع قيام التجمع الكبير الذي يستوعب الجميع، هم أنفسهم من لم يتمكنوا بعد من الخروج عقلانيًا وفكريًا من أسر الأيديولوجيا، وقد يبدو ذلك مسألة منطقية وطبيعية أن يبقى كل فرد أو مجموعة تحافط على أطر فكرية أيديولوجية جوانيته، وهذه قضية صحيحة ولايمكن الخلاص منها موضوعيًا، بل هي من حق الناس أو المجموعات، لكنها لايجب أن تبقى معوقًا حقيقيًا في طريق البناء على مشتركات سياسية ضرورية لقيام الأوطان، وهو مادرجت عليه كل التجمعات السياسىة في العالم الحديث والقديم. وفي كثير من الأحيان تتبدى المسائل الوطنية الكبرى فهي الأهم والأبقى والأكثر جدوى، من أجل وطن حر كريم سيد، بلا استبداد ولا أحزاب شمولية، أو أدوات قمع أمنية.
ويبقى السؤال: هل بات من الصعوبة حقًا الوصول ألى لقاءات والتقاءات سياسية وطنية ديمقراطية تعمل من أجل دولة المواطنة، دون السماح للايديولوجا أن تكون معيقًا في ذلك؟ وهل تعجز النخب السورية اليوم عن تخطي حالة التحجر والتمترس وراء الأيديولوجيا؟ وهل إن كل الذي حصل في الواقع السوري المعاش منذ عشر سنوات خلت، لم يدفع السوريين إلى مزيد من عمليات إعادة النظر حتى في بعض هذه الأيديولوجيات، إن لم يكن جميعها، ليقام البناء الوطني المتين من جديد على أسس مختلفة وصياغات فكرية حداثية، تستوعب وتنظر بعين ناقدة لكل ماجرى من مياه تحت الجسر، وتنتج حالة أيديولوجية جديدة ومتجددة تأخذ من الجميع وتستوعب الجميع، وتحرض الجميع على إعادة إنتاج المنتج الجديد، والقادر على التعاطي مع الواقع السوري والاستعصاء الوطني السوري، خروجًا من حالات الاستنقاع الكبرى التي يحياها السوريين.؟ أسئلة كثيرة مازالات برسم كل السياسيين، وكل النخب دون استثناء، بل وكل السوريين. فهل تحرك هذه المسألة ساكنًا في واقعنا السوري؟!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا