معقل زهور عدي
العقلانية في فكر الأربعة
تميزت مساهمة الدكتور جمال في تيار الأربعة بالاستمرارية والفعالية السياسية والتناغم بين الفكر والممارسة وقدر من البراغماتية بينما تميزت مساهمة عبد الكريم زهور عدي بوضع الممارسة السياسية الواعية في المقدمة والإصرار على الجانب الأخلاقي ” وصفه جمال عبد الناصر بالرجل الذي يميل في السياسة للمثالية ” والتأثير الشخصي في النخب السياسية والقدرة على الإقناع , أما الياس مرقص فقد منح ذلك التيار الزخم الفكري والفلسفي بمؤلفاته , حاول ياسين الحافظ الانطلاق من آخر ما توصل اليه التيار لتكوين نخبة سياسية سورية رائدة بدمج الفكر مع الممارسة السياسية بأقل قدر من البراغماتية , ونأتي لأهم ملامح ذلك الفكر السياسي الذي لايمكن الاستغناء عنه في الحاضر والمستقبل ألاوهو العقلانية .
كتب ياسين الحافظ في كتابه : ” اللاعقلانية في السياسة العربية ” في المقدمة :
“خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية , عانينا صدمات بددت كل التفاؤل المهين ( إن لم تكن خطأ بالطباعة فربما يقصد الكاتب التفاؤل الهين أو المهيمن ) الذي خيم على المشرق العربي مع أواخر الستينات , أشد هذه الصدمات ايلاما جاءت عندما تجلى بوضوح أن الكتلة الأساسية من الأنتلجنسيا المصرية تقف من موقع يميني ومتأخر بالطبع مع عملية نزع الناصرية , ومع السياسة المصرية الراهنة , الصدمة الثانية التي لاتقل شدة وايلاما عن الأولى جاءت عندما رأينا ملايين من الشعب العربي في مصر تخرج , وكأنها فقدت ذاكرتها السياسية لاستقبال نيكسون , رمز أعتى امبريالية مابرحت منذ عشرين عاما تنزل بالأمة العربية أشد الاذلال وأعتى الأذى ” , يتابع ياسين ” ….في السياسات العربية نحن لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر , لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لاعقلانية ….إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها ( يقصد حاكمين ومحكومين ) إنها سياسات قرية في عالم مدن .”
يشير ياسين الحافظ هنا إلى زيارة نيكسون لمصر عام 1974 واستقباله من قبل السادات , وتنظيم استقبال شعبي واسع له في عربة مكشوفة بحيث أدهش ذلك الاستقبال غير المتوقع نيكسون نفسه , كما تسبب بخيبة وإحباط لدى تيارات اليسار العربي في مصر وخارجها .
بالطبع لسنا هنا في نطاق مناقشة الزيارة أو الاستقبال وفهم أسبابه أو تبريرها , المهم هو التقاط ياسين لفكرة ثمينة ملخصها أن العقل الجمعي العربي مازال متخلفا , وهو في تخلفه وبسبب ذلك التخلف يصبح بإمكان الحاكم سحبه إلى موقف لايتصف بأي قدر من العقلانية , إنه عقل جمعي يشبه عقل الطفل , أو كما قال ياسين عقل القروي الساذج في عالم المدينة .
مشكلتنا ليست فقط مع الأنظمة إنها أكبر وأعمق من ذلك , هي مع النخب وهي مع الشعوب أيضا في وعيها المتأخر , في لاعقلانيتها الطفولية .
ماهو مطلوب إذن مواجهة تلك المشكلة بحجمها الحقيقي وعدم الهروب منها , فاللاعقلانية ليست فقط في السياسات الرسمية , إنها أيضا وبدرجة أكثر خطورة في العقل الجمعي العربي .
ذلك ليس تشكيكا بالانسان العربي كما يقول ياسين ” الانسان العربي ” ليس شيئا متعاليا خلرج وفوق التاريخ , لقد مر في الماضي في أطوار مختلفة , ازدهار , ركود , تقهقر , كذلك اليوم , سيتقدم عندما يتعلم ماهو التقدم , وعندما يضع نفسه في سياق تقدم “
” العقل الانساني واحد , الثقافة ارث مشترك لجميع الشعوب , والعالم توحد ويتوحد رغم الطابع التناقضي في وحدته ,والشعب العربي جزء من هذا العالم الذي يتحرك للخلاص , لاشك أن ثمة خصوصية عربية ما , نجمت عن سيرورة التطور التي مر بها المجتمع العربي , لا عن جوهر مطلق معلق فوق التاريخ “
تلخص الفقرة السابقة النظرة الواقعية للخصوصية العربية , هنا لم تعد تلك الخصوصية ” ذات رسالة خالدة ” لم تعد أمة فوق الأمم , أمة متميزة بمعنى الفوقية , هي خصوصية جاءت من سيرورة تاريخية , هذه السيرورة تضمنت الازدهار والركود والتقهقر , نحن الآن مازلنا في التأخر , ومن أجل أن نتقدم علينا أن نعترف بتأخرنا , وأن نتعلم جوهر التقدم , مفتاح التقدم , ليس على صعيد التقنيات فقط , لكن على صعيد الفكر , وذلك لايمكن احرازه بدون تمثل التقدم الذي أحرزه الفكر الانساني خلال الفترة التاريخية السابقة .
هذه هي الأرضية التي يمكن أن تمنحنا الثقة بمستقبل الانسان العربي , ” ثقة أمتن وأكثر واقعية من ثقة تقوم على قبليات ( يقصد مسلمات مسبقة) ميتافيزيقية عن ” إنسان عربي ” متخيل , ذي ماهية خالدة , ثابتة , محلقة فوق الواقع , ومتسامية عليه , ينحط إذا انفصل عنها , ويترقى إذا عاد إليها , ماهية يسميها البعض “أرواح الأجداد” .
مشكلة النخب السياسية العربية خاصة الثورية اليسارية أنها أهملت أو تجاهلت مسألة النفاذ للعقل الجمعي العربي وسحبه من حالته المتأخرة نحو عقلانية ملائمة للعصر , لقد عملت تلك النخب بموازاة ذلك العقل , وخاضت غمار السياسة في حقول محددة ومختارة معتقدة أن على الجمهور اللحاق بها , وهكذا تفاجأت حين رأت الجمهور ذات يوم في واد آخر .
هل مازالت المشكلة راهنة بعد 47 عاما مما كتب ياسين الحافظ ؟ بالتأكيد .
بل لقد ازدادت وضوحا اليوم بعد سيادة تيار الاسلام السياسي بتشكيلاته المتعددة ساحة الفكر والممارسة وتراجع التيارات الأخرى بحيث أصبحت أضعف في التأثير على الجمهور من أي وقت .
في مكان آخر يقول ياسين بصيغة أكثر تجريدا الآتي : ” السياسة الثورية ( والسياسة القومية في البلدان التابعة والمتأخرة تصب في سياق ثوري ) إما أن تكون عقلانية تامة أو أن تتحول إلى خبال سيكزوفريني تارة أو لفظية ثورية تارة أخرى , وهي باعتبارها سياسة قلب الواقع , سياسة فعل فيه , مضطرة إلى مواجهة عقبات , اختيار احتمالات , اهتبال فرص , وهذا فرض عليها أقصى درجات الواقعية التي لايداخلها وهم , ولا أحكام قيمية , خلافا للسياسة المحافظة أو التطورية التي لاتتطلب أكثر من تشغيل استمرارية الواقع القائم , ومتابعة حركته المنسابة , وبالتالي فإن الأولى تتطلب عقلانية أكثر ممن الثانية , لأنها ملزمة بتحقيق تركيبة بين الواقعي والثوري : الواقعية – الثورية .”
توضح الفقرة السابقة ليس فقط ضرورة العقلانية في السياسة الثورية ولكن أيضا المدلول السياسي للعقلانية وأعني بذلك الواقعية السياسية تلك الواقعية التي هي الوسيلة الوحيدة لمنع النزعة الثورية من الجموح نحو الرومانسية وتحولها إلى لفظية ثورية , والتي تتيح أيضا للنزعة الثورية الفعل في الواقع وتغييره بدلا عن مجرد نقده .
العقلانية في السياسة لاتعني عدم الوقوع في الأخطاء لكنها تعني عدم الوقوع في الأخطاء الفادحة والقدرة على معالجة الخطأ بسرعة وبأقل الخسائر , مثل تلك العقلانية لايمكن أن توجد عند النخب السياسية فقط بينما يرزح المجتمع تحت وطأة الايديولوجيات المتأخرة التي تحمل مفاهيم اسطورية يغيب فيها العقل مثلما يغيب حضور العصر .
يفسر لنا هذا لماذا كانت الاشتراكية في البلدان المتخلفة متخلفة أيضا , لماذا سقطت المفاهيم الديمقراطية بسهولة وتحول النظام الاشتراكي للديكتاتورية وعبادة الفرد .
يرى ياسين الحافظ أن عبد الناصر قد فتح بداية للعقلانية العربية فهو قد ناضل لنقل السياسة العربية من الرغبات والمطلقات والمسبق إلى الاحساس بالزمن والصيرورة إلى اعتبار الوقائع والتراكم , مالم يقله ياسين أن عبد الناصر في عقلانيته أيضا نقل السياسة من مرجعياتها الضيقة إلى مرجعياتها الأوسع في النظر لمصلحة الأمة . والعقلانية هنا لاتظهر فقط كتجليات لطريقة التفكير لكنها تظهر بوصفها فهما صحيحا لوظيفة السلطة باعتبارها ممثلة لمصالح الأمة .
يصف ياسين الانتكاسة التي حصلت في السياسة العربية بكونها تراجعت لتكون “مبنية على الشعور , على الرغبة , على المعتقد , وبالتالي على اللاعقلانية” .
” إننا هنا نحاجج انتصارا لأساس عقلاني للسياسة العربية ……وما كنا بحاجة لهذه المحاججة لو أن العقل العربي كان قادرا على تحقيق تراكم ما في تجربته السياسية , لذا نبدو , وهذا واضح في سائر الصعد , وكأننا نبدأ على الدوام من جديد , التأخر العربي العام ( لابد أنه يقصد تأخر الفكر العربي ) جعل العقل العربي وكأنه برميل بلا قعر , لايجمع ولايراكم , مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة , وننسى تجربة البارحة , كما لانفكر باحتمالات الغد , على الدوام نبدأ من جديد وكأنا ولدنا اليوم , أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أن المصيدة تصيد .
إذن فهذا الانتكاس المريرالذي لاحظه ياسين بحزن يعود لكوننا لانستطيع مراكمة التجربة التاريخية .
في مكان آخر يذكر ياسين أن الانتكاسة في السياسة المصرية بعد عبد الناصر عائدة أيضا إلى افتقار نظامه لطبقة سياسية حديثة . في الحقيقة ذلك يعكس فوات المجتمعات العربية وتأخر الفكر العربي .
الطبقة السياسية الحديثة لاتنزل من السماء , هي ناتج فكر متقدم , وحياة سياسية غنية .
السياسة العربية تعيش بمعزل عن المجتمع إلى حد كبير سواء كانت سياسة الحاكم أم سياسة المعارضة .
بالتالي لانتاج سياسة عقلانية لابد من التفكير بنقل العقلانية للعقل الجمعي العربي , أن تذهب النخب للمجتمع بدل أن تذهب للسلطة تاركة المجتمع ليسير خلفها في حين أنه يزداد انفصالا عنها في الواقع .
في كتابه الأخير قبل وفاته( نقد العقلانية العربية ) يقول الياس مرقص : ” عيب الفترة السابقة ( يقصد الفكر اليساري العربي في الفترة السابقة أي الخمسينات والستينات بصورة خاصة ) كان من بين جملة أمور , اكتفاؤها بمقولات عامة شبه لفظية , عدم عرضها الانحدار والانحطاط , الابتعاد عن دراسة المجتمع والأمة , حصر نظرها في الاستعمار والامبريالية ,وفي مجتمع وطني مفهوم كطبقات ….في صراع مع اتجاه معارض لهذا المنحى ..وهانحن أمام تشكل جديد لاتلبسه المقولات الطبقية الاجتماعية السابقة , أمام نمو استبدادية وتوتاليتارية…حديثة جدا , وعريقة جدا , أصيلة ومستوردة “
يمثل ماسبق نموذجا للعقلانية العربية التي ترفض الانسياق وراء المقولات العامة , والفهم المبسط للطبقات , وتركيز الانتباه نحوالخارج المعادي كطريقة للهروب من فحص الداخل بتناقضاته والعلل الكامنة فيه. وتلك الطريقة في التفكير تقطع بالكلية مع الفكر السياسي السابق الذي كان سائدا في سورية القومي واليساري وتحاول شق طريق مختلف يتسم بتفحص الفكرة من مختلف جوانبها والعودة دائما للواقع في تناقضاته وتطوره وفي غناه بالتاريخي والديني والقومي وكيف تتفاعل مختلف العناصر الاجتماعية والاقتصادية داخله دون مواقف مسبقة تفرضها الايديولوجيا أو الأهواء الحزبية والفردية . وهي تسعى لتحرير العقل من أجل استخدامه في تشكيل الوعي السياسي المطابق للواقع , باعتبار أن مثل ذلك الوعي فقط هو المؤهل لنهوض الأمة .
نعثر أيضا في الكتاب نفسه على فقرة هامة ولو أنها جاءت بصورة عرضية إلى حد ما : ” أية “ديمقراطية” ؟ “ديمقراطية ” أكثرية وأقلية بلا حقوق الانسان ؟ , بلا مساواة الأفراد الحقيقية ؟ بلا مفهوم المواطن ؟ أم ديمقراطية بلا مزدوجين بندها الأول حقوق الانسان , وحقوق المواطن , حقوق الانسان ثم حقوق المواطن .”
توقف الياس مرقص عند مفهوم الديمقراطية قليلا وتفحصه وتوصل بسرعة إلى المسألة التي نحن فيها اليوم , الديمقراطية لاتعني حكم الأكثرية للأقلية بدون حقوق الانسان أولا وبدون حقوق المواطن ثانيا .
الفرق بين من تسحره أو تأسره كلمة ” الديمقراطية ” وبين من يضع تلك الكلمة , ذلك المفهوم تحت الفحص ويفكر في جوانبه وفي الواقع هو في الفقرة السابقة لالياس مرقص .
عقلانية الياس مرقص قادته إلى اتخاذ مواقف نقدية من كل التيارات الفكرية – السياسية التي حفل بها عصره في سورية خاصة والمنطقة العربية , من اليسار الطفولي والشيوعية الستالينية والمقاومة الفلسطينية ومن القوميين وأضدادهم العدميين القوميين , مثل تلك المواقف النقدية العقلانية كانت فتحا جديدا في الفكر السياسي في سورية . لاحقا سوف يكون لنا وقفة أكثر تفصيلا مع بعض تلك المواقف , لنتأمل الآن نقده للشيوعية الستالينية :
” إن كل مذهب المادية التاريخية ( والمادية الجدلية ) الستاليني والستاليني المصحح باطل من أساسه , فهو كلام ملتبس جزئي , يختلط فيه الصواب بالخطأ , ويقوم على حذف الأساس الماركسي :الشغل , إنتاج البشر لوجودهم ومجتمعهم المشروط , الفكر , العمل كفاعلية هادفة , اختلاف وتعارض الأهداف والنتائج , الذاتي والموضوعي , قضية التموضع والتخورج والتوقعن والانخلاع , ستالين لم يفهم بتاتا ” إنتاج البشر اجتماعيا لوجودهم ” شوه هذه العبارة الرباعية الكلمات كلمة كلمة .”
يقول عبد الله هوشة الأمين العام السابق لحزب الشعب ” المكتب السياسي سابقا ” عن الياس مرقص :
” نوجز الأمر بالقول: إنه، ابتداء من عام 1956، شرع بإنشاء خط آخر. درس انتقادياً تاريخ الأحزاب الشيوعية المحلية. كشف غرقها في استراتيجية ثورة ديمقراطية مزعومة غير ديمقراطية، ذيليتها، موقفها من الوحدة العربية ومن قضية فلسطين. انتقد نظرية ستالين في المسألة القومية، وبيّن سير تعمق وتعميق التجزئة العربية على يد الإمبريالية، وأن الوحدة العربية لا يمكن أن تأتي من التطور الموضوعي للاقتصادات العربية، وأنها الطريق الذي لا غنى عنه لتحرير البترول العربي وفلسطين العربية.
انتقد الفكر القومي وكشف حدوده وعجزه عن تحقيق المهام القومية اعتبر دائماً أن إنشاء الفكر الماركسي العربي، أو استنباط قراءة عربية للماركسية، يمر بالدرجة الأولى عبر تفنيد الأفكار والخطوط المناهضة للماركسية داخل صف القوى المنادية بالماركسية. والأفكار الماركسية المزيفة كانت حتى أمس قريب هي بالدرجة الأولى أفكار الستالينية اليمينية وانحطاطها البكداشي. ومن جهة ثانية عبر دحض التيارات التي تسترت بأقنعة جديدة “يسارية” على أساس الاشتراكية “القطرية وجملها عن “الحرب الثورية ” مع حرصها الدائم على ضرب حركة الجماهير تعويق الوحدة العربية.
لقد خاض الياس نضالاً فكرياً دؤوباً ضد من جعلوا من المفهوم بديلاً عن الواقع، ومن نظرية التاريخ بديلاً عن علم التاريخ، ومن منهج العلم بعيداً عن موضوعه، ومن مذهب صراع الطبقات بديلاً عن الصراعات الواقعية والقومية والسياسية، ومن لفط “الثورة” بديلاً عن الثورة الاجتماعية الحقيقية.”
نقد الياس مرقص للستالينية وغيرها والمساهمات الفكرية السياسية لجمال الأتاسي وعبد الكريم زهور عدي وياسين الحافظ ساهمت بقوة في انشقاق الحزب الشيوعي السوري , انشقاقه يعكس بصورة ما انتصار تيار الأربعة في تلك الفترة التاريخية
في فكر الياس يتصدر النقد , في النقد , وفقط في النقد يمكن امتحان الفكرة وتصويبها , “..يجب إذن كشف الأخطاء , تحديدها , أخطاء الماركسيين , عرضها بالنصوص وتفنيدها , حين نجد أن أكثر الماركسيين يتهربون من هذا العمل , إذ يكتفون بعرض الماركسية , أو الدعوة إليها , أي عمليا بعرض أفكارهم , ويستغنون عن مهمة نقد الماركسيين الآخرين ,متخذين بديلا عن هذا النقد ,نقد أو شتم الجهات الأخرى غير الماركسية , …هؤلاء أناس لايعرفون التاريخ “
يلخص الياس محطات هامة في خطه السياسي خلال الستينات والسبعينات كالتالي : ” في عام 1970 ظهرت مبادرة روجرز , وأعلن عبد الناصر قبوله المبادرة, أنا وغيري صفقنا لهذا القبول , وأعتز بأن مؤلفاتي أو معظم مؤلفاتي في الستينات والسبعينات كانت موجهة ضد المزاودة , وضد الديماغوجيا وضد اليسارية , أكان ذلك في قضية فلسطين وحرب التحرير الشعبية , ورفض قرار مجلس الأمن 242 أم في الاشتراكية , والماركسية العلمية , والاشتراكية العلمية , وفي الطبقة والطبقات وهذا الكلام كله ..” .
لاتتجسد عقلانية الياس مرقص في شيء أوضح مما تتجسد في عدائه المرير مع المزاودة السياسية : ” كنت أتمنى أن يجعل عبد الناصر في عام 1964 مسألة المزاودة القضية المحورية في الوعي العربي , وأن يشطر أمة العرب وكل شعب عربي على هذه القضية وليس على سواها ….هذا موقفي قبل عام 1970 , المزاودة جاءتنا بالخراب , خربنا الموقف من اسرائيل في قضية فلسطين , خربنا الاتجاه نحو الديمقراطية , أقمنا سجونا وقمنا بمجازر في شتى البلدان , انقسامات عربية لاطائل فيها , خربنا معيشتنا , وساهمنا في تسليط نظام نهب لانهاية له علينا , الذي لايرى مافعلت المزاودة بالقضية الفلسطينية , وبالقضية الاجتماعية الاشتراكية , وكم أصابنا من تدهور بسببها , فهو بعيد بعدا مطلقا عن الواقع , وهو إما جاهل أو تاجر سياسي , يكسب من المزاودة , ويستخدمها في ضرب الأطراف بعضها ببعض . “
في وقت مبكر منذ بداية الستينات بدأت تظهر ملامح ذلك التيار الفكري , الظاهرة الأكثر دلالة كانت مقالات جريدة ” البعث” في عهد الانفصال . فهنا نجد موقفا عقلانيا مستقلا من مسألة الوحدة وعبد الناصر .
” أخطاء الوحدة لاتبرر جريمة الانفصال ” هكذا قالت جريدة البعث مبتعدة عن الناصرية العاطفية التي لم تكن ترى في تجربة الوحدة السابقة أية عيوب , وأيضا عن تفكير تيار في حزب البعث العربي الاشتراكي انحاز بالكلية نحو العداء مع مصر الناصرية وتأييد الانفصال باعتباره أمرا لابد منه .
في محاضر مباحثات الوحدة الثلاثية نجد أن عبد الكريم زهور عدي يواجه عبد الناصر بخطاب نقدي عقلاني , مثل ذلك الخطاب لم يكن معتادا , عبد الناصر استمع للنقد وحاول الرد ما أمكن , لكنه في النهاية اقتنع أنه لايواجه خطابا معاديا بل صديقا غايته تصحيح تجربة الوحدة , لاحقا سيتخذ عبد الناصر موقفا جديدا من مسألة ” الحزب السياسي ” وضرورة تنظيم الشعب في أطر سياسية . وكذلك في اعتماد النقد الذاتي .
سوف نقف قليلا عند مباحثات الوحدة الثلاثية .
يقول عبد الكريم زهور عدي في المباحثات التمهيدية التي دارت في القاهرة في 14 آذارعام 1963 بين الوفد المصري برئاسة عبد الناصر والوفد السوري برئاسة نهاد القاسم والوفد العراقي برئاسة علي صالح السعدي :
” الحقيقة أن الوحدة العربية ليست حلما فقط ولكنها طريق الخلاص الوحيد للأمة العربية , الطريق الوحيد الذي يجعلها تقوى في هذا العالم ……..لاشك أنه يجب أن تتم الوحدة تدريجيا ..شيئا فشيئا وفقا للدراسات الاقتصادية والعسكرية , والوحدة السياسية آخر هذه المراحل “
هنا لايشير عبد الكريم إلى الخطأ الذي ارتكب سابقا بالارتجال في عقد الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 فقط لكنه يشير أيضا بطريقة غير مباشرة لما هو مطلوب الآن في مسألة استعادة الوحدة .
وفي المقدمة يقدم عبد الكريم الهدف الوحدوي ليس كرغبة وحلم قومي , لكن بوصفه ضرورة لبناء القوة العربية القادرة على الخروج من التبعية نحو الاستقلال الحقيقي .
في الاشارتين السابقتين نرى خطابا سياسيا عقلانيا مختلفا , نقد لتجربة الوحدة السابقة من نقطة البداية – الارتجال – بالتالي الدعوة لتجنب الخطأ السابق وتقديم خطاب وحدوي قائم على الضرورة الواقعية وليس الرغبة والحلم .
يتابع عبد الكريم في السياق ذاته : ” لنسأل لماذا حدثت النكسة ( يقصد الانفصال ) ….لابد من دراسة الوحدة والانفصال والأخطاء …..لانريد أن نقع في نفس الأخطاء القديمة , لاأدري إذا كان من الممكن عمليا دراسة أخطاء الوحدة التي ساعدت على الانفصال وفي مشروع الوحدة القادمة أن نتجنب كل تلك الأخطاء “
يتابع في ذات السياق : ” ولا شك أنه يجب أن تتم الوحدة تدريجيا , شيئا فشيئا ..وفقا للدراسات الاقتصادية والعسكرية , والوحدة السياسية آخر هذه المراحل “
لم يكن ذلك رأي بعض الحضور , وربما كان مختلفا مع الجو العام , لكنه كان الأقرب للعقلانية والاستفادة من تجربة وحدة 1958 , مشكلة ذلك الطرح أنه يتطلب ثبات إرادة الوحدة لدى الأنظمة الثلاثة فترة زمنية ربما تمتد لعدة سنوات .
إذن يفتتح عبد الكريم المباحثات من الجانب السوري بالنقد , لم يكن الأمر سهلا , لاحقا سنرى أن المباحثات انتهت ليس باعلان الوحدة كما في عام 1958 ولكن باعلان ميثاق للاتحاد الثلاثي في 17 نيسان بمعنى تعهد والتزام بتحقيق الوحدة وفق برنامج مدروس , بسرعة انقض التنظيم العسكري للبعث على الشركاء الناصريين وعلى قياداته المدنية ليدفن مشروع الوحدة . قبل ذلك استقال عبد الكريم وجمال الأتاسي من الحكم .
في عام 1964 أدرك جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور عدي أن لابد من تنظيم سياسي للتيار الوحدوي – اليساري خارج حزب البعث , لقد استولى التنظيم العسكري لحزب البعث على الحزب وانتهى الأمر .
جمال الأتاسي الخارج من حزب البعث والفكر القومي يتجه نحو اليسار ونحو الناصرية المعقلنة , يجمع بطريقة لافتة بين الفكر والممارسة , يدخل العقلانية للناصرية كما يدخل شيئا من البراغماتية السياسية , في توجهه نحو اليسار يقترب من الماركسية لكنه يبتعد عن أن يكون شيوعيا يدور في فلك الاتحاد السوفييتي , في منتصف الستينات يصبح الاتحاد الاشتراكي حزبا حقيقيا يمتلك النظرية ويمتلك قاعدة شعبية واسعة نسبيا , حتى في مصر لم تمتلك الناصرية حزبا حقيقيا بقاعدة شعبية متحررا من الارتباط بالسلطة كحزب الاتحاد الاشتراكي السوري , سوف يلعب هذا الانجاز التنظيمي في سورية منذ ذلك الوقت دورا مركزيا في أي تجمع سياسي معارض , خصوصا في التجمع الوطني الديمقراطي .
جمال الأتاسي كان مرجعية فكرية وسياسية هامة في سورية , لم يترك ميدان العمل والممارسة كما لم يترك الكتابة حتى وفاته , بمقدار ماكان براغماتيا في السياسة كان صلبا في المبادىء ,
كتب جمال الأتاسي في ” إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي ” متحدثا عن مرحلة مابعد هزيمة حزيران 1967 :
” لقد ظل عبدالناصر هو نفسه من حيث توجهه العام الفكري والسياسي ، الوطني والقومي والاشتراكي، ومن حيث مبادئه ومنطلقاته، ولكنه انتقل نقلة نوعية الى طور جديد، وأضاف وأصبح شيئاً جديداً وتسلح بخبرات جديدة . لقد ظل الثورة ، ولكنه أصبح عقلنة الثورة وعقلانيتها التي تضع كل شيء على محك الواقع الملموس وعلى محك الجدوى” .
في مكان آخرمن الكتااب السابق تبدو الروح النقدية أكثر وضوحا عند جمال الأتاسي فهو ليس ناصريا تسوقه العاطفة والحماسة لكنه مع انتمائه للخط السياسي لعبد الناصر قادر اتخاذ موقف نقدي منه :
” لقد أشار عبدالناصر أكثر من مرة الى واحدة من تلك الثغرات في تجربته ونص على ذلك في الميثاق بقوله “… إن هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فان هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظرية كاملة للتغيير الثوري ” … ولكن ما لم يقله عبدالناصر هو أنه بحضوره ، وبحركة فعله وحركة فكره ، كان يسد حيزاً من هذا الفراغ في حياة الجماهير وفي تقدم حركة الثورة . واذا ما كان لهذا الدور ايجابياته فلقد كانت له سلبياته أيضاً ، فمثل ذلك الاكتفاء بقيادة عبدالناصر وترله الأمور لمبادراتها ، كان حائلاً دون الدفع على طريق سد تلك الثغرة ، وبذلك أضعف جانبآ من جوانب بناء أداة الثورة وتنظيمها ، ليفقدها بالتالي ضمانة استمراريتها من بعده” .
” لعل الخطأ الكبير الذي وقع به نظام عبدالناصر والأدوات التنفيذية لسلطته الثورية ، كما وقعت به ثورات ونظم ثورية أخرى ، هو أنها لم تساعد على تفتيح هذا الوعي النقدي ، أي تقدم الوعي الثوري عن طريق النقد المتواصل للتجربة الثورية في مساراتها كلها، ولم تعمل على خلق أدوات مثل هذا الوعي الجماعي ، الذي يصنع حيوية الثورة وتجددها المستمر، فضلاً عن أنها في عدد من مراحل هذه الثورة ، عملت ضد تفتح هذا الوعي النقدي وأدواته”
ومن العام إلى الخاص : ” …. ذلك أن هذه القصورات كانت مرتبطة بقصورات الجانب الديمقراطي في التجربة .
وهذه مسألة أساسية تستحق أن نقف عندها ، لأن الاجابة عليها هي التي تضعنا على طريق تكملة ذلك ” المشوار ” الذي انقطع .”
من نقد السياسات العربية غير العقلانية لدى ياسين الحافظ إلى نقد الفهم الستاليني للماركسية لدى الياس مرقص إلى نقد تجربة الوحدة لدى عبد الكريم زهور عدي إلى نقد قصور الناصرية لدى جمال الأتاسي يمكن تلمس انبثاق عقلانية فكرية عربية متحررة تستند إلى مفاهيم العصر والقراءات الأكثر تحررا للماركسية ولا تجد حرجا في تمثل المفاهيم الليبرالية التي اعتبرها الفكر الاشتراكي التقليدي منتجا بورجوازيا يخص الأنظمة الرأسمالية.