حسن النيفي
عن السؤال المتكرر الذي يتداوله السوريون وغيرهم منذ انطلاقة ثورة آذار 2011، حول الأسباب والبواعث التي حالت دون وجود أحزاب سياسية ذات فاعلية في المشهد السوري، تطالعنا أجوبة باتت تحمل السمات النمطية التي يحملها السؤال ذاته، إذ تكاد تُجمع معظم تلك الأجوبة على أن طبيعة السلطة الشمولية التي مارسها حافظ الأسد وابنه بشار، بما تنطوي عليه من سمات القمع والإقصاء ومصادرة الحريات، والتفرّد بالسلطة والحيلولة دون تداولها سلمياً، الأمر الذي أدى إلى تجفيف السياسة من كافة الحقول المجتمعية، بل إن ارتفاع منسوب القمع الذي وصل إلى درجة التوحّش قد جعل أي حراك سياسي سواء أكان حزبياً أم فردياً، عملاً محظوراً يوجب المساءلة والعقوبة التي تتراوح بين الاعتقال والتصفية الجسدية.
ولئن كان جميع ما ذُكِر صحيحاً، وكذلك من الصحيح أن تداعيات تلك الأسباب المذكورة كان لها الأثر الحاسم في تغييب العمل الحزبي السياسي طيلة المرحلة العقود الماضية، ولكن ما هو صحيح أيضاً، أن عقداً من الزمن قد مضى على انطلاق الثورة السورية، ألا تكفي عشر سنوات من الزمن أن تزوّد السوريين بالوعي الكافي للانطلاق نحو إحياء العمل الحزبي وتأطير نشاطهم للخروج من الحالة الفردية إلى العمل الحزبي المؤسساتي؟ ثم إن الأحزاب العديدة التي ولدت وتأسست بعد انطلاقة الثورة، لماذا كانت محدودة التأثير والفاعلية ولم تستطع أن تجسّد نموذجاً حزبياً ذا أثر، أو أنها استطاعت أن تُحدث اختراقاً سياسياً لحالة الركود السياسي المجتمعي في سورية؟ ربما استدعت الإجابة الكافية على هذين السؤالين المزيد من البحث والحوارات والدراسات، ولكن حسب هذه المقالة الوجيزة أن تشير بإيجاز إلى أمور خمسة، كان لها الدور المباشر في إعاقة العمل الحزبي في أوساط الثورة السورية:
أولاً – غياب أي دور فاعل للأحزاب التقليدية في الثورة السورية، إذ إن تلك الأحزاب – بكل تلاوينها السياسية والإيديولوجية – لم تكن – إبان انطلاقة الثورة – سوى أشلاء ممزقة، وذلك بفعل عوامل القمع والسجون والتصفيات التي تعرضت لها من جانب السلطة، مما أفقدها أي قدرة على مواكبة الحراك الثوري في طوره السلمي الأول، ولعل هذا الغياب قد عزز في نفوس الكثيرين عدم جدوى الأثر الحزبي في الوسط الثوري، فضلاً عن أن هذا الغياب لدور الأحزاب قد حال دون بروز حوافز لتوجه أنصار الثورة نحو الكيانات الحزبية.
ثانياً – إن الإنزياح المُبكّر للثورة من طورها السلمي إلى الطور المسلّح لم يسهم في تحييد الحراك السياسي فحسب، بل أسهم كذلك في تحييد أو تقليص معظم الأنشطة المدنية الأخرى، كالإعلام والثقافة والفن وسوى ذلك، ومع ارتفاع وتيرة العنف وهيمنة السلاح باتت القناعة تتعزز أكثر فأكثر لدى الكثير من الناشطين بعدم جدوى العمل المدني في ظل عنفوان الرصاص و القذائف التي لم تعد ترى سوى ذاتها في الميدان، ولعل هذا ما دفع قسما من الناشطين للالتحاق بالعمل العسكري، بينما انكفأ القسم الآخر مُؤثِراً الابتعاد عن المشهد.
ثالثاً – إن نشوء أي حزب سياسي سوري خارج الجغرافية السورية سوف يُفقِد هذا الكيان أو الحزب أهمّ مقوّمات عمله وتأثيره، وأعني بذلك افتقاد الحاضنة الشعبية بسبب افتقاد الحزب إلى التموضع على الأرض فضلاً عن عدم قدرته على التحرك والتفاعل مع المواطنين واللقاء بهم ومقاربة همومهم واستقبال تصوراتهم وأفكارهم، أضف إلى ذلك أن معظم الأحزاب التي تشكلت خارج سورية ليس بمقدور أعضاء الحزب الواحد منها أن يلتقوا أو يجتمعوا فيزيائياً ولو لمرة واحدة، وذلك بسبب تعدد بلدان اللجوء وعدم قدرة الكثير من اللاجئين على التنقل بحرية تامة، بينما يقتصر العمل لدى تلك الأحزاب على منصات ومواقع التواصل الاجتماعي فحسب، وهذا ما يجعل تلك القوى والأحزاب لا تغادر حيّز الوجود الافتراضي.
رابعاً – الظروف المعيشية التي يواجهها السوريون في بلدان اللجوء، والتي تصبح هي الناظم الأقوى لسلوكهم، أكثر من رغباتهم وتطلعاتهم، وربّما تحوّل العامل المادّي في كثير من الأحيان، ولدى قطاعات شبابية واسعة، من عامل كفاية معيشية، إلى عامل إغراء، فيستمرئه المرء بعد إدمانه، ولم يعد يرى في سواه إلّا ما هو نافل، وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور السلبي لما يدعى ( منظمات المجتمع المدني) التي استغلّت طاقات الشباب والشابات العلمية والإبداعية، مقابل وفرة مالية مغرية، ساعيةً إلى تعزيز القناعة لدى هؤلاء الشباب بأن العمل داخل هذه المنظمات يقتضي منهم الانفصال والتجرّد من قضاياهم الوطنية، بل إن أولى محاذير تلك المنظمات وخطوطها الحمراء – كشرط أساسي للعاملين فيها – هو عدم الاقتراب أو الانخراط في أي عمل سياسي، ما جعل كثيرا من الفئات العمرية الشبابية – ذكوراً وإناثاً – وبدافع الحاجة المادية حينا، وباستمراء الرخاء المادي حيناً آخر، لا يرى في الشأن السياسي سوى عمل مَنْ ليس لديه عمل.
خامساً – لئن اعتقد جيل شباب الثورة في سوريا أن الطبقة التقليدية التي تمارس السياسة في مرحلة ما بعد انطلاقة الثورة، هي تلك الشريحة التي يتوزّع وجودها في الكيانات الرسمية للثورة (المجلس الوطني ثم الائتلاف، ثم هيئة التفاوض، ثم اللجنة الدستورية)، وإن هذه الكيانات هي التي حالت دون حضور وازن للعنصر الشبابي الثوري في صفوفها، فينبغي القول: إن هذه الكيانات لم تقطع الجسور بينها وبين القطاعات الشبابية فحسب، بل بينها وبين جميع البنى السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، ولئن كان من الصحيح أن نشأتها كانت تلبي حاجة وطنية آنذاك، إلّا أن طريقة تصنيعها كانت محكومة بالنفوذ والإرادات الإقليمية والدولية، التي منحتها شرعيتها، وبحكم طبيعة القائمين عليها وانتماءاتهم الإيديولوجية والسياسية، وكذلك بحكم طبائعهم الشخصية، لم تسع تلك الكيانات، بعد مرور أعوام على تشكيلها، إلى استبدال شرعيتها البرّانية (الإقليمية والدولية) بشرعية وطنية تستمدّها من السوريين، ولعلّ هذا ما جعلها تعمل في محيط معزول – ميدانياً وسياسياً واجتماعياً – عن جميع شرائح الثورة، وما تزال حتى الآن تكتفي بممارسة دور (وظيفي)، ربما استدعته المصالح الخارجية أكثر مما تستدعيه الحالة الوطنية.
مما لا ريب فيه، أن الوعي السوري الجديد الذي انبثق مع ثورة آذار 2011 ، والذي يجسّده جيل شبابي سوري متحرر من الكوابح النفسية والإيديولوجية المتجذّرة لدى المعارضة التقليدية، إن جيلاً كهذا غير قابل للقوننة ضمن مفاهيم وأطر حزبية تنتمي إلى عهود قديمة، ولئن كان العمل الحزبي التقليدي يجعل من الوصول إلى السلطة هدفه الأساسي، وبأدوات ومناهج عمل غالباً ما تكون منبثقة من صميم الإيديولوجيا، أو على الأقل لا تتناقض معها، فإن ممارسة السياسة كما تعكسها تصورات الجيل الجديد، غالباً ما تكون أهدافها وآلياتها وبرامجها مستقاة أو منبثقة من الحقوق الأساسية الضامنة لكرامة المواطن، وكذلك من حاجاته الحياتية وتطلعاته إلى حياة كريمة ومستقبل مزدهر بالأمن والسلام.
المصدر: موقع المجلس العسكري السوري