محمود الوهب
تلقيت من صديق يعمل في مركز حرمون للدراسات، (من المهتمين بسلامة اللغة العربية نحواً وإملاءً وأسلوباً) أسئلة تتعلق بالواو في بعض مفردات لغتنا العربية، لإعطاء الكلمة معنى جديداً، غالباً ما يكون عكس المعنى الحقيقي للكلمة، أو تشويهاً له. وحدّد كلمة “شعبوي” نموذجاً، وكان جوابي إنني لا أستخدمها، وأعدّها نوعاً من “الفذلكة الكلامية”، ومثلها كلمات: إسلامي التي تغدو إسلاموياً، وماركسي: ماركسوياً، وقومي: قوموياً… إلخ. وتضمنت الأسئلة إشارة إلى أنّ المصطلح لدى الباحثين الغربيين غير محدّد بدقة. ثم قرأت في “العربي الجديد” مقالًا للكاتب معن البياري بعنوان “حاشية بشأن الشعبويات” عن الموضوع، فانفتح لي بابٌ واسع على هذا الموضوع الذي عقدت له ندوات ومؤتمرات، وألفت فيه كتب ودراسات… ما دفعني إلى الاستزادة من “النت” الأقرب تناولاً، وهكذا فعلت، ليتبين لي أنّ تلك الواو (الزائدة؟) قد فعلت فعلها العجائبي في اختزال المصطلح، فجرْسُها في الذهن أعطى المفهوم الدقيق الذي عجزت عنه لغات أخرى، وتبين أن الشعبوية قديمة، ردّها بعضهم إلى أفراد في مجلس الشيوخ الروماني، منهم يوليوس قيصر. وآمن آخرون بفكرة حشد الجماهير للاستفتاء، وتجاوز مجلس الشيوخ، إلا أنَّ تداول المصطلح أخذ يظهر، ويتسع، منذ غدا الشعب كله، بنخبه وقاعه، مصدراً مؤثراً في بنية الدولة الحديثة التي تشكّل الديمقراطية دعامتها الرئيسة، وأصبح للصوت الشعبي فعله في تكوين النخب الحاكمة.. لكنه، من جهة أخرى، غدا سلعةً تتاجر بها نخب سياسية على اختلاف إيديولوجياتها، ومعتقداتها وأحزابها ومرجعياتها السياسية، كما تتاجر به التنظيمات الشعبية المختلفة، من نقابات وجمعيات ومنظمات اجتماعية. ما يعني أن سلطة الشعب لم تتحقق فعلياً حتى في البلدان الديمقراطية نفسها. وكان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، شعبوياً في حملته الانتخابية، وفي بعض مواقفه، ومنها ما نال من حقوق الشعب الفلسطيني، وتجاوز قرارات الأمم المتحدة، ثم رفضه نتائج الانتخابات، ما دفع بعض أنصاره لدخول بناء الكونغرس في سابقة نادرة الحدوث.
تتضارب معاني الشعبوية، إذ تتراوح “بين الرومانسية الثورية والدُّونِيّة السياسية، لكن ما يجمع معظم دُعاة الشعبوية: مقاربتهم التبسيطية في استخدامهم مفردة “الشعب”، وادعاؤهم أنهم صوته وصداه وضميره فضلاً عن احتكارهم تمثيله من دون مراعاة مفاهيم التفويض والتعاقد السليم، وتركيزهم على خطابٍ عاطفيٍّ يفتقر للرؤى الواضحة، مع ترويجهم، المباشر أو غير المباشر، لعداء الفكر”. وتوجد الشعبوية في الأحزاب والحركات الراديكالية، كما في الأخرى المحافظة، وتوجد لدى اليسار الذي غالباً ما يوصف بالتطرّف، كما في الحركات اليمينية الموسومة بالعنصرية أو القومية المتطرّفة، فتقف في أوروبا وأميركا ضد المهاجرين من قوميات وأديان وشعوب.
ويرى بعضهم أن الخطاب الشعبوي هو “خطابٌ مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد الأفكار والرؤى، بل يميل إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر، ليتماشى تماماً أو يتطابق مع المزاج السائد، من غير أن يفيد في التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية. ويُكْثِرُ الخطاب الشعبوي من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور في شكلٍ مسرحيٍّ كرنفاليٍّ، مع الإحالة إلى التاريخ الذي يستحضر، ويستخدم وسيلة إيديولوجية ذات عمقٍ انفعالي”. ولا يمكن فهم الشعبوية مصطلحاً أو مفهوماً دقيقاً بمعزل عن معرفة دقيقة بالواقع الاجتماعي الذي ينتج هذه الظاهرة. إذ يتوقف الكثير على عمق ما في المجتمع المعني من فروق اجتماعية، ولعلَّ ذوبانها يساهم في تمكين المجتمع من إغلاق نوافذ ظاهرة الشعبوية على نحو منطقي سليم، فظاهرة الشعبوية مرتبطة بمستوى الوعي العام الذي يعكس بنية المجتمع الداخلية، وما فيها من فجواتٍ تسمح لها بالنمو والتفاقم.
وتظهر الشعبوية في البلدان المتخلفة، ومنها عالمنا العربي، وذلك لعمق الهوّة بين الحاكم وشعبه، ولما يجري من تضليل للشعب بشعارات وطنية واجتماعية، فكم من رئيس عربي أعلن أنه سيحرّر فلسطين خلال ساعات أو أيام، وأنه سوف يحقق الوحدة العربية، ويؤمّن للشعب الحرية والعدالة، وكم من رئيسٍ اختبأ وخبّأ استبداده، ونهب شعبه وراء المؤامرة عليه بالذات، فهو الوطني والمقاوم، وهو المستهدف من أعداء الوطن! وما إلى ذلك من وعودٍ تصبّ في الاتجاه الشعبوي ذاته.
وإذا كانت الشعبوية ظاهرة لدى النخب، وبخاصة “الديماغوجية” منها، فإنها تجد أذناً صاغية في قاع المجتمع، فكلاهما يتكامل مع الآخر في تأدية دور سلبي ينعكس على الوطن والشعب. وغالباً ما تستند الشعبوية غير النخبوية، في حراكها السياسي، إلى قضايا ومطالب وطنية واجتماعية وحقوق إنسانية متراكمة، فتتجلّى على شكل انفجاراتٍ قد لا تكون منظمة تنظيماً جيداً أو لا تمتلك برنامجاً محدّداً أو قيادة خبيرة. وقد تبتعد عن الممارسات العقلانية ما يدين تحرّكها.
وترافق الشعبوية حالات ثورية كثيرة، كما حصل خلال الثورة الفرنسية في مراحلها الأولى، إذ ذهب ضحايا مفكرون ثوريون كثيرون، وأعقب ذلك عودة للدكتاتورية، وإنْ إلى حين، كذلك يحدث اليوم في ثورات الربيع العربي، وفي الأخرى المضادّة لها، فإذا كان نوع من الشعبوية قد خالط بعض تلك الثورات التي تعود، في أسبابها، إلى ظواهر قمع بغيض، وفساد شامل، ومستبدّ مقيم لا يتورّع عن إراقة دم شعبه، إن هو طالب بحق مهدور، فقد ولد ذلك كله حالات احتقان وكراهية مشروعة للأنظمة الحاكمة المسؤولة، أولاً وأخيراً، عن تغييب الشعب وإبداعه.
ولعلَ الشعبوية وجدت لها مجالاً في سياق الثورة السورية، فتجلت ظواهرها الأولى، غير الوطنية، في ردِّ عاطف نجيب الشعبوي على أهالي أطفال مدينة درعا، وتوبع بتحشيد رامي مخلوف الطائفي، من خلال استخدام “جمعية البستان” وشبّيحته، ما أدى إلى ارتكاب جرائم قتل المتظاهرين السلميين في اللاذقية، تلت ذلك مجازر في قرية البيضا والحولة وغيرهما، لتمتد بعد ذلك إلى قمة الهرم الرئاسي وعسكره مع شعار “الأسد أو نحرق البلد”، ولتغدو قانوناً تجسّد في خطاب بشار الأسد عن “التجانس”، وتخوين أكثر من نصف سكان سورية بين نازح ومهجّر.
وفي المقابل، وجدت الشعبوية لدى قيادة الثورة في رد عسكري مواز لم يقده جيش نظامي من المنشقين الذين بينهم أكثر من خمسة آلاف ضابط ركنوا جانباً، وكذلك في قرارها الاعتماد على القوى الدولية، تحت زعم إن هذا النظام لا يسقط إلا بفعل خارجي، رافق ذلك القرار ابتعاد عن غاية الثورة، وهي الحرية، وإلغاء جوهر الاستبداد، لا ردّ مظلومية هذا المكون السوري أو ذاك، المتضمنة أصلاً في تلك الغاية. وتلت ذلك إقامة القيادة خارج الأرض السورية واستقرارها، وكأنما جرى فصل بين الداخل والخارج.
ما نخلص إليه فائدة تؤكد أن الشعبوية غير الشعب بل هي ضده، وتشويه لأصالة قيمه وتطلعاته.
المصدر: العربي الجديد