د- عبد الناصر سكرية
لا يحتاج الحب إلى عيد..الحب بأشكاله المختلفة ومضامينه المتنوعة هو جوهر الحياة الإنسانية..دافعها إلى اللقاء والحنان والتضامن والغوث واللهف والبر والإحسان والصداقة أيضا..يشكو الناس عموما من نقص في الرومانسية أو غيابها..ويعبرون عن حاجتهم الدائمة إليها حتى أصبحت – على أهميتها البالغة – صعبة المنال بل شبه غائبة عن علاقات البشر فيما بينهم..هذا يترجم إحتياج الناس إلى الحب فلا يدركوه..فيترحم أكثرهم على ازمنة مضت كان للحب فيها مضمونا خالصا من الشوائب ..بل كانت له تلك الأبعاد الإنسانية الحقيقية التي جعلت منه قيمة بذاته يسعى البشر إليها بحثا عن أمان نفسي وطمانينة باتت اليوم مفتقدة..
يحتاج الإنسان المعاصر إلى أمن نفسي يجعله متوازنا قادرا على التفاعل الإيجابي البناء مع متغيرات الحياة وشؤونها وشجونها..الحب أهم مصادر الطاقة التي تبلور الامن النفسي للإنسان..وعلى الرغم من التقدم الهائل في العلم والأبحاث الإنسانية المتنوعة ومعها تقدم فائق لوسائل الإتصال والإعلام والتسويق والتشويق إلا أن المسافات العاطفية بين البشر تتباعد..وأحاسيس الذات الفردية وغرائزها تتصاعد وترتفع حتى تكاد تهيمن على كل شيء وكل جوانب الحياة والعلاقات..
ليست العواطف الإنسانية في تصاعد متناغم مع التطور العلمي والمادي والتقني والاعلامي ..لا بل أنها تتعاكس معه فتضعف وتهبط أكثر كلما تقدم البشر في العلم والتقنيات والوسائل…وهنا إحدى معضلات الحداثة وما بعد الحداثة..ما يجعلها تنحدر إنسانيا فيما تتقدم ماديا..
وعلى الرغم من تزايد الحاجة الى الحب يوما بعد يوم ؛ إلا أنه يبتعد عنا حتى يكاد يهرب من الحياة العصرية أو لنقل أنه يتهرب منها ضيقا من نوازعها المادية وطغيانها الغرائزي وما فيه من أنانية وجشع وطمع وحسد وفساد وغش وخداع ونفاق..
وكلها مشاعر نقيضة الحب اللازم المأمول..وتزداد أزمة الإنسان النفسية في تقهقر الحب وتقدم الغرائز..فتنشأ أمراض وعاهات وإعاقات عاطفية وإجتماعية لم يستطع الطب النفسي علاجها أو التخفيف من حدتها ووطأتها على الانسان والجماعات البشرية..
فيما يشكو معظم النفس من غياب المضمون الحقيقي للمشاعر الإنسانية التي يجملها الحب ؛ لا يدركون كنه الأسباب الحقيقية لذلك الغياب فيتهمون الجماعة بأنها تغيرت وساءت أخلاقها وفسدت مشاعرها حتى باتت المصلحة الشخصية اساس العلاقات ومعيارها…
وعلى الرغم من أن الشكوى تلك عامة بل عمومية إلا أن أحدا لا يستطيع إبطال مفعولها..فما السبب ؟؟
إن نظرة فاحصة موضوعية للحياة البشرية في العقود الخمسة الأخيرة تثبت وجود ذلك التراجع المضني والمرهق في جوانب الحياة ومضمونها الإنساني..
فقد حملت المتغيرات السياسية والإقتصادية والثقافية ؛ تغيرات فكرية وإجتماعية لازمتها ؛ كانت الأساس فيما يشكون الناس منه لجهة غياب الرومانسية وتراجع المضمون الإيجابي للمشاعر والعلاقات بين البشر..إستطاع النموذج الرأسمالي الصاعد بزخم كبير ؛ لا سيما بعد إزاحة أية نماذج أخرى من طريقه ؛ أن يتسيد على العقل البشري ومنهج التفكير والتعاطي والتعامل ..هذا النموذج الرأسمالي ليس إلا منهجا يعتمد الفردية أساسا والمنفعة المادية معيارا..وحينما استطاع ان يفرض ذاته على البشرية ؛ حمل اليها معه قيمه الفردية وما فيها من نفعية زادت حدة مع تصاعد الحاجة إلى الإستهلاك المادي وملاحقة كل جديد في عالم التقنيات والأدوات المادية..فما كان منه إلا أن جعل الإنسان يلهث وراء الكسب المادي دونما أعتبارات اخلاقية أو إنسانية فأسقط من حسابه الرومانسية والعواطف الانسانية والحب والمشاعر الصادقة لأربعة أسباب اساسية :
– الأول انها قيم غير منتجة لا تدر مدخولا ماديا وبالتالي لا اهمية لها..
– الثاني أن اللهاث وراء الكسب المادي يستهلك الوقت والطاقة والتفكير أيضا. فلم يعد هناك متسع من الوقت لتلك المشاعر الإنسانية الراقية والنبيلة..وهي التي تحتاج تعمقا وصدقا وأصالة لا تتناسب مع السرعة كسمة للحياة العصرية..
– الثالث ان النموذج الراسمالي فردي في منطلقاته وغاياته.لا يعترف بالجماعة ولا يقر لها بأية حقوق..فالانسان الفرد هو الاساس والمعيار . لذا غابت عنده قيمة تلك الإعتبارات التي تعطي أهمية للمجتمعات وما فيها من قيم ومن مضمون للعلاقات بين البشر…فصار كل فرد بذاته معيارا يقيس ما عداه عليه هو وعلى مصلحته واهوائه..
– الرابع أن الراسمالية منهج عقائدي متكامل ..له إمتدادات قيمية ونظام حياة خاص يتكامل مع المنطلقات والغايات المادية..وحيث أن قوة الرأسمالية لا تستطيع التوقف عن طلب الربح والمزيد من الربح فإنها تحارب كل ما يعرقل طريقها أو يعيق مسيرتها..وبين أهم تلك العراقيل التي تضر بمصالح الرأسمالية ؛ القيم الأخلاقية التي تعطي جوهرا إيجابيا ومضمونا انسانيا نبيلا لكل المشاعر والأحاسيس والعواطف..لذا باتت محاربة تلك القيم جزءا من منهج الرأسمالية لأنها تحول دون تحول الإنسان الى مستهلك متجرد من غطاءاته الروحية وابعاده الإنسانية وهو ما لا تريده الراسمالية ولا مصلحة لها فيه..الامر الذي أبعد المشاعر الإنسانية عن تلك الرومنسية التي تعطي الحب بعده الرابع المتسق مع إرتقاء الإنسان الى مستوى النبل والصدق والإستعداد للتضحية والبعد عن الانتهازية والزيف..
وهكذا تحول الإنسان المعاصر – عموما – إلى مستهلك منقاد لغريزته المادية ونفعيته الإستحواذية التي يريد بها إمتلاك كل شيء بأقل قدر من العمل وبدون مقابل من العطاء والسخاء..
ليست مبالغة القول أن النموذج الرأسمالي المعولم ينشر ثقافة التفاهة والتفكير السطحي وقيم الإنتهازية والفردية والنفعية الإستهلاكية..
وجميعها لا تتناسب مع الحب كمضمون جوهري أصيل للعلاقات بين البشر..
وهكذا وجد الناس أنفسهم يفتقدون شيئا فشيئا جمال الحب وعمق الصداقة وأصالة المشاعر بعد ان حل مكانها نموذج الرأسمالية المعولم..
الناس لم تتغير لكنها ظروف الحياة ومعطيات التأثير وتشكيل العقول وتوجيه الإهتمامات وتسطيح التفكير ؛ هي التي تحاصر الإنسان بما تملكه من إمكانيات مرعبة وقدرة على التلاعب بالعقول والنفوس معا ، فتجبره على التحول تدريجيا ليكون مثلما تريد وتستفيد..
يفتقد البشر رومنسية الحب وأصالته بتأثير النموذج الصاعد للعولمة الرأسمالية..فإذا كانوا يحتاجون لأصالة الحب ومضمونه الانساني الراقي ؛ فما عليهم إلا التخلص من تأثير النموذج الرأسمالي المعولم في عقولهم وفي سلوكهم أيضا ؛ ومقاومته بما يتوفر لهم من عناصر المناعة واسباب المقاومة ريثما يتبلور نموذج إنساني حضاري بديل عن النظام العالمي الفاسد السائد حتى الآن رغم كل مظاهر شيخوخته وضعفه وإنحداره والويلات التي جلبها على البشرية..
أما الركون إلى التحول من جمال المشاعر ورقيها ونبلها وديمومتها إلى بهيمية الغريزة وذاتيتها وآنيتها ؛ فلن يجلب للإنسان سوى المزيد من البؤس والتوتر والقلق والإضطراب النفسي الذي أوصله إلى كل أنواع الشذوذ والفساد..
ليس في العولمة الرأسمالية مكان للحب..ولا حاجة لها به..
فليعمل من يريد ان يكون إنسانًا حقيقيًا على التخلص من ذلك النموذج الفردي النفعي الاستهلاكي..فليس كل البشر ناس أولاد ناس..
نبل الانسانية وأصالتها شرف لا يستحقه تجار الحروب والنخاسة والتزييف والربا والباطل والإستغلال والرياء. أما الحب فلا يدركه إلا الأنقياء.