إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” تقريرا أعده ستيفن فيدلر قال فيه إن هدف لعبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هي تفكيك ترتيبات ما بعد الحرب الباردة التي أهانت روسيا. وقال إن اهتمام العالم يتركز على شرق أوكرانيا حيث تحيط بها القوات الروسية مع أن طموحات الرئيس بوتين تذهب أبعد من هذا، فهو يريد إعادة التفاوض على نهاية الحرب الباردة. وسواء أتبع بوتين اعترافه بالإقليمين المنفصلين عن أوكرانيا بنشر قواته هناك أم لا فقد كان واضحا في مطالبه بإعادة رسم خريطة الأمن الأوروبية لما بعد الحرب الباردة. وقدم في خطابه الذي استمر ساعة، أمس، بعضا من المظالم التي تشعر بها بلاده “لروسيا كل الحق لكي تقوم بأعمال انتقامية والتأكيد على أمنها” و “هذا ما نفعله الآن”. ويكشف خطابه ومطالبه من الولايات المتحدة قبل الأزمة عن رؤية بوتين للمستقبل والتي تعتمد بطرق عدة على إحياء الماضي. ويريد الزعيم الروسي وقف توسيع حلف الناتو الذي يرى فيه اختراقا لأمنه وجزءا من الخداع والوعود التي كسرها الغرب.
ويريد من الناتو تخفيض توسعه إلى مستويات التسعينات من القرن بعدما تمدد شرقي ألمانيا، وسيلغي هذا الكثير من التغيرات في أوروبا. وباختصار، يريد بوتين التخلص من التداعيات الأمنية لانهيار الإتحاد السوفييتي في عام 1991، وهو حدث يصفه بوتين “بأعظم كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين. وفي ضوء ما حدث فيه من حربين عالميتين وهولوكوست فالمبالغة في الوصف كاشف، فهو يعني نهاية الإمبراطورية السوفييتية واعتماد روسيا على معونات الغرب في ظل انهيار اقتصادها والفوضى الداخلية. وفي الوقت نفسه احتفل الغرب بانتصاره في الحرب الباردة.
وكانت هذه السنوات جزءا من تجربة بوتين الشخصية كما تقول ماري ساروتي، استاذة التاريخ بجامعة جون هوبكنز. وكان حينها بوتين عميلا للكي جي بي في دريسدن الألمانية حيث انهار جدار برلين وقبل أن يستدعى إلى موسكو في عام 1990 حيث كان الإتحاد السوفييتي على حافة الإنهيار.
ويحاول الزعيم الروسي الآن خلق منطقة عازلة حول بلاده، كما كان الحال أثناء الإتحاد السوفييتي السابق كما تقول ساروتي وإعادة روسيا مرة أخرى إلى طاولة القوى العظمى إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وهدف بوتين الرئيسي هو الولايات المتحدة وعلى حساب بقية الدول في حلف الناتو، كما انعكس في عدد من معتقداته: مثل أن شؤون العالم يجب تسويتها من قبل القوى العالمية بمن فيها روسيا. وأن الناتو هو أداة في يد الولايات المتحدة بنفس الطريقة التي كان فيها حلف وارسو أداة بيد السوفييت. وأن اعضاء حلف الناتو الآخرين لا يملكون السلطة وأن على موسكو السيطرة على حديقتها الخلفية كما فعلت في ظل الإتحاد السوفييتي.
وقالت فيونا هيل، التي عملت مديرة لملف روسيا وأوروبا بمجلس الأمن القومي أثناء إدارة دونالد ترامب “تريد روسيا أن يكون لديها قوة هيمنة، وهذا هو جوهر الأمر”، ولم يتم طرح موضوع أوكرانيا التي لا يعترف بوتين بوجودها. وحاول بوتين تبرير موقفه بمقال مطول نشره الصيف الماضي، وأن الأوكرانيين والبيلاروسيين والروس ينحدرون من اصل واحد وهي روسيا، التي كانت أكبر دولة في أوربا بالقرن التاسع عشر. وتعتبر العاصمة كييف هي أم المدن الروسية. وتقول هيل “بالنسبة لبوتين لا يتعلق بأخطاء تاريخية تعود إلى 30 عاما ولكن جراح قرون عانت منها روسيا، الإتحاد السوفييتي والإمبراطورية الروسية”.
وعلق المستشار الألماني أولاف شولتز في مؤتمر ميونيخ للأمن أن بوتين كمؤرخ لا يترك مجالا للتفاؤل، وقال “المبدأ الوحيد الذي يضمن الأمن في أوروبا هو قبول الحدود كما هي”. وبالعودة للوراء يرى الكثير من المسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين أن الولايات المتحدة وحلفائها تعاملوا مع روسيا بطريقة سيئة أثناء التسعينات من القرن الماضي وأنهم أظهروا مشاعر مبالغ فيها بالنصر بعد نهاية الحرب الباردة. ويقول البعض أن أمن أوروبا بحاجة لإعادة بناء، وذلم لأن الكثير من اتفاقيات التحكم بالسلاح أثناء العهد السوفييتي كانت تهدف لتخفيف التوتر ونسخت بسبب الإتهامات المتبادلة بالخداع.
وفي الوقت الذي يريد هؤلاء المسؤولين ضم موسكو إلى النقاش إلا أنهم ليسوا مستعدين للتحول إلى متواطئين مع بوتين وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. ويقول رودريك براثاويت، الذي كان سفير لندن في موسكو أثناء انهيار الإتحاد السوفييتي “رغم اعتقادي بغطرسة الدبلوماسية الغربية وعقمها في التسعينات ونحن ندفع الثمن الآن، لكن هذا ليس سببا لبوتين لأن يموضع نفسه بطريقة تجعل الناس يعتقدون أنه سيش حربا”. وقال إن أفكار بوتين ليست استثنائية “فما يقوله بوتين عن الإهانة بانهيار الإتحاد السوفييتي السابق وتوسيع الناتو والرابطة التاريخية العاطفية بين التاريخ الروسي والأوكراني ليست أفكاره الخاصة”.
ومع ذلك فقد انضمت روسيا في عام 1994 إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا لاحترام “استقلال وسيادة وحدود أوكرانيا القائمة” و “تجنب العودة لاستخدام القوة” ضدها، وهو ضامن أمني اقنع الأوكرانيين للتخلي عن أسلحتهم النووية. والمطالب الروسية الحالية من الولايات المتحدة عدم الموافقة على توسيع الناتو، هي خطوة قد تمنع انضمام أوكرانيا والسويد وفنلندا. وردت الولايات المتحدة على المطالب لكنها لم تكشف عن محتوياته. وتريد روسيا من الولايات المتحدة وبقية القوات التابعة للناتو الإنسحاب من الدول التي انضمت إليه بعد عام 1997. وتريد سحب الأسلحة النووية الأمريكية من أوروبا. وتريد روسيا الإلتزامات الجديدة على شكل معاهدة، وهي تعرف أن أي رئيس أمريكي لن يوقع على طلب كهذا وأن مجلس الشيوخ سيرفض الموافقة على المعاهدة. كما وسترفضها الدول الحليفة لأمريكا والأعضاء الجدد في الناتو.
ويبدأ سرد بوتين عن الطريقة التي خدع فيها الغرب روسيا من توحيد الألمانيتين بداية التسعينات إلى التفاوض على المعاهدة التأسيسية بين روسيا والناتو عام 1997. وتقول روسيا إنه في النقاش بشأن توحيد ألمانيا عام 1990 وعدت الولايات المتحدة والساسة الغربيين ميخائيل غورباتشوف بأن الناتو لن يتوسع شرقا. وقالت إن الناتو وعد عام 1997 بعدم التمدد أبعد من حدوده الشرقية في ذلك الوقت. وقالت ساروتي إنها درست السجلات الشخصية والرسمية لفحص الزعم الروسي، ووجدت أن الساسة الأمريكيين والأوروبيين اقترحوا عام 1990 ان الناتو لن يتوسع شرقا. وفي عام 1997 أعلن الناتو أنه لن يحرك قواته قريبا من حدود روسيا، لكن موسكو لم تحصل على التأكيدات بصيغة قانونية. وفي كتابها الذي صدر بعنوان “ولا بوصة واحدة” وصفت فيه كيف وضع وزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس بيكر عام 1990 مقايضة نظرية مع غورباتشوف الذي كان لديه ألاف الجنود في ألمانيا الشرقية: ماذا لو تخليت عن الجزء من ألمانيا ونتفق على عدم اقتراب الناتو ولا بوصة شرق وضعه الحالي؟ وأخبر المستشار الالماني هيلموت كول غورباتشوف في موسكو أن الناتو لن يتوسع شرقا. لكن لم يتم وضع هذا في صيغ قانونية لأن الرئيس جورج هيربرت بوش كان يريد أن تشمل ألمانيا الشرقية في الناتو. ووسع توحيد ألمانيا في عام 1990 الناتو إلى ألمانيا الشرقية.
ويعرف بوتين بقدرته على إدارة الازمة كما يقول السفير السابق براثاويت، كما في غزو جورجيا عام 2008 وأوكرانيا 2014 و”كان يعرف بالضبط ما يريد وحصل على ما أراده”. لكنه هذه المرة زاد من الرهانات بدون أن يكون لديه خطة خروج، فقد يسحب قواته ويقول إنه حصل على ما يريد وهو إثارة انتباه الغرب ووعد بإعادة النقاش حول أمن أوروبا. ولو غزا أوكرانيا فالرهانات ستكون أعلى، ويعتقد المحللون العسكريون أن الجيش الروسي سينتصر، لكن محاولة إخضاع شعب معاد قد يقود إلى مستنقع. وحتى إرسال قوات إلى جزء من أوكرانيا وبناء جسر بري مع شبه جزيرة القرم سيؤدي لفرض عقوبات غربية عليه، مما سيزيد من المعارضة لبوتين الذي يتوقع إعادة انتخابه عام 2024.
ولا يعرف من أعطى النصيحة لبوتين، ففي أثناء كوفيد-19 كان معزولا، وربما توصل لاستنتاج أن الوقت قد حان لهز الامور، إلا ان حملة عسكرية لا تسير في العادة حسب المخطط. ويرى براثاويت أن هناك تشابه بين مارغريت تاتشر التي قضت وقتا طويلا في الحكم وبوتين. وقال “ربما أصبح بوتين في موضع – وعلينا ألا نقارن هذا- السيدة تاتشر عام 1989 و1990 عندما خسرت حدسها السياسي”. “والحدس الأفضل هو أنه فقد غريزته ومعرفته للتوقف”.
المصدر:“القدس العربي”