راغدة درغام
لا عودة عن آثار الحرب الأوكرانية في كامل النظام العالمي كما في العلاقات الثنائية لروسيا، ليس فقط مع أعداء اليوم في معسكر الغرب، بل أيضاً مع أصدقاء الأمس الذين بدأوا التموضع بعيداً من الكرملين، بعدما أدركوا أن روسيا قابلة للتدمير عبر التطويق الاقتصادي التام في غضون نصف سنة.
استيعاب دهشة ما أسفرت عنه الحرب الروسية على أوكرانيا تحوّل بسرعة نحو الجلوس الى طاولة رسم السياسات الجديدة التي تحفظ مصالح الدول، بغضّ النظر عن مصافحات التضامن والتحالف للأمس القريب. بسرعة مذهلة، تغيّر العالم بعد غزو روسيا أوكرانيا، وباتت روسيا على مفترق الخروج من النظام العالمي كدولة كبيرة وكاقتصاد كبير وكنفوذ كبير.
صَغُرت روسيا نتيجة غزوها أوكرانيا، صغرت كدولة وكاقتصاد وكنفوذ، وانحسرت هيبتها ومركزيتها في حسابات الأصدقاء والحلفاء، من الصين الى فنزويلا الى إيران. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ظنّ أن بوسعه حشد هؤلاء الحلفاء في تكتّل العداء للولايات المتحدة والغرب عموماً، لكن رهانه سقط على واقع مغامرته في أوكرانيا وعلى واقعيّة خسارته المدوّية في غزوها، وما ترتّب عليه من عقوبات كرسحت الاقتصاد الروسي برمّته. فهرب بعض الأصدقاء، وتململ البعض الآخر، فيما تظاهر بالتعاطف والمؤازرة السياسية.
وهذا سيزيد من غضب فلاديمير بوتين ويجعله أكثر خطورة وانتقاماً بأدوات بيولوجية وكيماوية ونووية. فهو يحمّل الغرب مسؤولية ما آلت اليه الأمور، عندما استفزّه عبر بوابة عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فورّطه ورسم له خطوات مشى فيها، كما سبق ومشى صدام حسين في خطوات التوريط في العراق، وكلاهما بفعله وغطرسته زجّ نفسه وبلاده في نفق الهلاك.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية صديق – حليف لروسيا، لا سيّما في سوريا، حيث كلاهما جنى عبر الآخر ما عكف على إنجازه لنفسه هناك. بالأمس القريب كانت روسيا لطهران سنداً وحليفاً غير قابل للاستغناء عنه. اليوم، هناك مؤشرات الى افتراق بينهما بسبب انعكاس الحرب الأوكرانية على المفاوضات النووية في فيينا. بالأمس القريب كانت موسكو الحامي الأول والأبرز لمصالح إيران في محادثات فيينا، أما اليوم فإن طهران منزعجة من ربط موسكو بين الحرب الأوكرانية ومفاوضات فيينا التي تريدها إيران أن تُستَكمَل بسرعة كي تستفيد من رفع العقوبات عنها.
إدارة بايدن مستعجلة الى رفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بموجب صفقة إحياء الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA التي أُبرِمَت في عهد باراك أوباما. فهي تدفع الى إتمامها بأسرع ما يمكن وقبل الانتخابات النصفية، منذ فترة. لكن غزو أوكرانيا أضاف عنصراً حيوياً الى المعادلة، وهو عنصر النفط والغاز الإيرانيين، ليكونا من البدائل للنفط والغاز الروسيين في الأسواق العالمية بعد فرض الولايات المتحدة الحظر على صادرات النفط والغاز الروسيين التي كانت في غاية الأهمية لأوروبا.
لذلك بدأت إدارة بايدن محادثاتها مع الحكومة الإيرانية بشأن النفط والغاز. طهران أجابت بأنها جاهزة ومستعدّة لتصدير نفطها حالما تُرفع العقوبات عنها. ولذلك هي تدعو واشنطن الى إتمام محادثات فيينا فوراً، بالتأكيد على أساس شروطها ومطالبها وجدوى رفع العقوبات كاملة عنها، بحسب رأيها.
أوروبا أيضاً في غاية الاستعجال الى إتمام الصفقة مع إيران، لأنها في حاجة الى النفط الإيراني مع إطلاق استراتيجية فطم أوروبا عن عادة الاتّكال على النفط والغاز الروسيين تدريجياً.
الموقف الأوروبي ليس متجانساً في شأن فرض الحظر على صادرات النفط والغاز من روسيا، إذ إن ألمانيا وهنغاريا وإيطاليا وهولندا في طليعة الدول التي لا يمكنها الاستغناء عن الصادرات الروسية، ولذلك هي تحتاج الى نحو تسعة أشهر لتخفيض اتكالها على روسيا. الاتحاد الأوروبي يسعى الى تخفيض نسبة الاعتماد الأوروبي على النفط والغاز الروسيين الى ثلث الواردات إليه مع نهاية عام 2022. وهو، شأنه شأن الولايات المتحدة، يبحث عن مصادر بديلة من هذه الطاقة.
إيران باتت بفضل الغزو الروسي لأوكرانيا في طليعة المستفيدين. فأوروبا في اندفاع تام نحو إتمام الصفقة النووية بأسرع ما يمكن، حتى وإن انطوت على تنازلات أميركية جذرية أمام المطالب الإيرانية. أسعار النفط التي تحلّق نتيجة الحرب الأوكرانية تأتي كهبة في أفضل الوقت للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا يتطلّب الإسراع في استكمال مفاوضات فيينا. فما المشكلة مع روسيا؟
فوجئت طهران واستاءت من مطالب موسكو بأن تقدّم الولايات المتحدة ضمانات بعدم فرض عقوبات مستقبلاً على إيران ما بعد التوقيع على إحياء الاتفاقية النووية. استاءت لأنها لا تريد ما من شأنه أن يعرقل إتمام الصفقة أو يؤخرها. ما كان في ذهن موسكو هو منع فرض العقوبات مجدّداً على إيران تحت أي ظرف كان، لأن في نيتها بيع النفط الروسي عبر إيران بوسائل معروفة لتخطّي العقوبات المفروضة على النفط الروسي.
لكن طهران، كما يبدو، اختارت مصالحها مع اللاعب الأميركي والأوروبي، بعدما اتضح لها أن اللاعب الروسي خاسر، لا بد، نتيجة المغامرة الأوكرانية. هذا لا يعني أن القيادة الإيرانية قرّرت الاستغناء الكامل عن تحالفها الاستراتيجي مع روسيا، لكن يعني أنها تجلس الى طاولة رسم السياسات، وترتئي أن الورقة الأميركية – الأوروبية المتاحة أمامها اليوم لها قيمة ثمينة تضاهي مؤازرتها لروسيا في زمن تطويقها بالعقوبات المدمِّرة.
براغماتية القيادة الإيرانية تقودها الى الاستنتاج أن تجميد 340 مليار دولار من الاحتياطي النقدي الروسي سيكبِّل موسكو ويمنعها من المعاملات التجارية، فيما الانفتاح الغربي على إيران سينقلها الى القدرة على تنفيذ مشاريعها الإنمائية والإقليمية على السواء. لذلك، إن قرار فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا قدّم الى إيران منجم ثراء، وعزّز الانفتاح الإيراني على الغرب، ونسف فكرة الكتلة الشرقية التي كان يفترض أن تشكّل أكبر تحدٍّ للولايات المتحدة لتضم الصين وروسيا وإيران.
كيف سيؤثّر هذا التطوّر المهم في السياسات الإيرانية، بالذات الإقليمية منها؟ من المبكّر التخمين في ذلك. الأرجح أن تستفيد إيران من الفرصة لتمويل مشاريعها التوسعية الإقليمية. منطقياً، يفترض أن يؤثر تحوّل إيران الى الغرب في السياسات الإيرانية لناحية عدم تنفيذ مشاريعها التوسعية، ولناحية ضبط تصديرها ثورتها ونموذجها الى الجغرافيا العربية.
لعلّ الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية تتوصّلان في عهد إدارة بايدن الى تفاهمات غير مسبوقة، تكرّس ما حققته طهران في دول مثل سوريا ولبنان، وربما أيضاً العراق. ذلك أن حاجة إدارة بايدن الى نفط حكومة الملالي في طهران قد يجعل منهما شريكين جديدين، لا سيّما إذا “كوّعت” إيران أو انعطفت نحو الغرب، بعيداً من الكتلة الشرقية، أقله تكتيكياً الى حين استتباب الأمور ما بعد الهزة الأرضية تحت أقدام روسيا التي تؤثّر بالتأكيد في تقويم الصين لخياراتها المستقبلية.
الصين عنصر غامض في المعادلة، ومواقفها من روسيا تفيد بأنها لن تغامر بمصالحها الحيوية وتقفز الى شراكة مع روسيا في وجه الغرب، ولن تُعرّض نفسها الى عقوبات تؤثّر في مشاريعها البعيدة المدى على نسق مشروع “الطريق والحزام” الاستراتيجي.
تتضارب النظريات في ما إذا كانت الصين شريكاً باطنياً لروسيا في المواجهة مع حلف شمال الأطلسي، أو إن كانت حريصة على إبعاد نفسها عن تلك المواجهة الروسية مع حلف الناتو مباشرةً أو في الساحة الأوكرانية. بغضّ النظر عن صحة هذه النظرية أو تلك، الصين لن تتدخّل عسكرياً وتدعم شريكها الاستراتيجي الروسي، وهي رفضت توفير قطع الغيار لطائرات روسية. الصين لن تُعرّض نفسها للعقوبات تضامناً مع فلاديمير بوتين.
القيادة الصينية ستستفيد براغماتياً واقتصادياً، ولن تقدّم للقيادة الروسية سوى الدعم الشفوي الناقد للغرب وقيمه وعقوباته، مع اتهام الولايات المتحدة بالتدبير المسبق لما آلت اليه الأمور وللفخ الذي نُصِبَ لروسيا وأوقع فلاديمير نفسه وروسيا فيه بصورة مرعبة.
حتى فنزويلا تنعطف الآن نحو الولايات المتحدة، بعدما قرّرت إدارة بايدن أن تطورات أوكرانيا تفتح الباب أمام رفع العقوبات والعزل عن فنزويلا ورئيسها المنبوذ نيكولاس مادورو، بلغة الصادرات النفطية. فالنفط الروسي والنفط الفنزويلي من الخامة ذاتها، والمحادثات بدأت بزيارة وفد أميركي لكاراكس، ومادورو يبدو جاهزاً للتخلّي عن حليف وصديق الأمس القريب لأنه يرى أن بوتين لن يخرج من الورطة.
إدارة بايدن تتحرك لدى جميع الدول المصدِّرة للنفط والغاز، وتحاول إصلاح علاقات كانت متوتّرة معها، وفي طليعتها الدول الخليجية العربية. قد يؤدّي ذلك الى تصحيح جذري في العلاقات الأميركية – الخليجية، علماً بأن دول الخليج كانت قد فتحت أبوابها على الصين وروسيا بدلاً من الاستمرار حصراً في علاقات مميّزة مع الولايات المتحدة الأميركية. هذا التصحيح، سويّة مع ارتفاع أسعار الغاز والنفط ربما لاحقاً الى 200 دولار للبرميل، سيضع الدول الخليجية العربية في مرتبة مهمّة من التأثير في صنع القرارات والاستراتيجيات الدولية. هذه الدول ستدرس التطورات في الحرب الأوكرانية وتداعياتها بنضج وبراغماتية، ولربما يؤدي كل ذلك الى صفحة جديدة في علاقاتها الثنائية.
توازن القوى والعلاقات الثنائية سيأخذ منحى جديداً ما بعد الحرب الأوكرانية. فلاديمير بوتين خاسر حتى وإن ربح معركةً أو احتل العاصمة كييف، وقد يجد نفسه مضطراً لذلك، ما يعني إسدال الستار الحديدي برمّته على روسيا، وليس كما حصل حتى الآن، تدريجياً. فإذا دمّر كييف أو أوديسا، يكون يدمّر نفسه ويصعِّب أكثر وأكثر على أصدقائه الوقوف معه، ولو رمزياً. خسارته للحرب الأوكرانية ستستكمل نفور أصدقائه وحلفائه منه، وفي مقدمتهم الصين والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
حرب بوتين على أوكرانيا نسفت القواعد التقليدية للشراكات الاستراتيجية وغيّرت معالم العالم. بالأمس كانت الصين حليفاً، واليوم إنها صديق من بعيد. بالأمس كانت إيران شريكاً استراتيجياً، واليوم إنها تلعب اللعبة التي في مصلحتها بعدما أدّت مغامرة أوكرانيا الى انشقاق في العلاقات الروسية – الإيرانية من جهة، والى دفع طهران وواشنطن الى إتمام صفقتهما. بالأمس ظن بوتين أن مادورو لن يجرؤ على التخلّي عنه، واليوم يؤمِّن مادورو للولايات المتحدة ما تحتاجه وهي تضرب الحصار الاقتصادي على روسيا.
كل هذه التطورات ليست مُطمئِنة. ذلك أن فلاديمير بوتين لن يخضع بسهولة، وكلما ازدادت عليه الضغوط والعزل والعقوبات والخسارة وتخلّي الأصدقاء عنه، عقد العزم على إبراز قوته بشكل أو بآخر.
لذلك قد يكون من المبكّر القول إن الغرب انتصر في حربه على روسيا أو في اعتزامه التخلّص من رئيسها فلاديمير بوتين. فالمرحلة الراهنة في غاية الخطورة على القارة الأوروبية كما على الولايات المتحدة، مهما صفّقت الحكومات الغربية لنفسها لتعاملها بحزم مع بوتين. ففي هذا الحزم القاطع والتطويق والعزل لرجل بشخصية فلاديمير بوتين، يقع خطر لجوئه الى إجراءات استثنائية في زمن انهيار روسيا على أيدي مغامرة رئيسها بحرب لم تكن أبداً ضرورية.
المصدر: النهار العربي