ألون بنكاس
هل ستخسر روسيا في الحرب أم أنه تقدير مبالغ فيه؟ هل يعد أي تعادل عسكري سقوطاً استراتيجياً بالنسبة لروسيا؟ هل ستبدأ مفاوضات دبلوماسية؟ على ماذا وبين من ومن بالضبط؟ هل تبدو العقوبات ناجعة إلى درجة وجوب عرض “جسر ذهبي” على روسيا؟ هل يفحص بوتين توسيع الحرب بالمساحة أم بقوة التدمير؟ إذا كان الأمر هكذا، فهل سيستخدم السلاح النووي؟ هل يوجد لبوتين هدف نهائي؟ هل يوجد للولايات المتحدة هدف؟ كل هذه الأسئلة لها إجابة واحدة تتكون من ثلاث كلمتين “لا أعرف”.
كل من يصدر أو يتاجر بسيناريوهات بصورة قاطعة ومؤكدة، وبقناعة داخلية عميقة، على شاكلة “هكذا سيفعل بوتين”، “بوتين غير عقلاني”، “لماذا محظور على بايدن فعل ذلك”، إنما هو شخص يلعب مع نفسه بمحاكاة. مع ذلك، هناك ثلاثة أمور واضحة: أولاً، الولايات المتحدة والناتو خدعا روسيا، ودفعاها إلى وضع تكون فيه البدائل سيئة، وكشفت عيوبها وضعفها الاقتصادي وسلطت الضوء الساطع على ضعفها الأساسي- فلاديمير بوتين. ثانياً، الوضع العسكري غير ناجح في هذه المرحلة؛ فهو على المستوى التكتيكي يعتبر فشلاً، وعلى المستوى العملي أدى إلى وضع راهن، وعلى المستوى الاستراتيجي بدت روسيا قريبة من فشل شامل. ثالثاً، العقوبات الثقيلة التي فرضت على روسيا تجبي ثمناً باهظاً أكثر مما توقع بوتين. ولكن لا يقل عن ذلك خطورة أنها تزيد اعتماده على الصين.
الحرب الآن في معضلة مزدوجة أمام اللاعبين الأساسيين. الأولى، هي معضلة بوتين؛ فإذا كان يتفهم الوضع في روسيا، فماذا يمكنه أن يفعل لانتزاع ما يشبه الإنجاز؟ وفي المقابل، إذا كان يتحرك بدوافع مسيحانية لترميم بيت رومانوف والإمبراطورية الروسية، فكم يمكنه الذهاب بعيداً في ذلك؟
المعضلة الثانية هي معضلة الرئيس الأمريكي، جو بايدن. فجزء من نموذج تصرف بوتين عشية الغزو وبعده، ينبع من معرفته بأن الناتو لن يتدخل عسكرياً في أوكرانيا. فبعد نجاح سياسة توحيد الناتو وفرض العقوبات السريع والفعال وعزل بوتين التام تقريباً، هل يملك بايدن في ترسانته السياسية أدوات تجبر روسيا على انسحاب محترم؟ في هذه اللحظة، يبدو أن انقلاباً داخلياً وإسقاط بوتين، هو احتمالية لا تستبعد الولايات المتحدة حدوثها، لكنها لا تعرف كيفية تقييمها. وأي تدخل صيني كبير سيضع ضغوطاً مباشرة على بوتين لإنهاء الحرب فوراً، وهو خيار لا يبدو معقولاً في الوقت الراهن، على خلفية تردد الرئيس الصيني. فوجهة الحرب هي نحو التصعيد، وهذا تفسير قاس. لا يستطيع بوتين إيقاف الحرب. وثمة مصلحة واضحة لأمريكا والناتو في استمرار الحرب التي ستضعف روسيا، والصين لا تعرف أو هي غير قادرة على التصرف كدولة عظمى.
قبل استخلاص النتائج، من الجدير النظر بصورة انتقادية لعدد من الأساطير:
الأولى، الحديث عن أن روسيا خسرت الحرب الآن من ناحية عسكرية، فهذا غير صحيح. صحيح أن العملية العسكرية فشلت في هذه المرحلة، وصحيح أن تقدير روسيا بأن أوكرانيا ستنهار وتستسلم ولن تكون هناك مقاومة عسكرية وأنه سيتم تشكيل حكومة مؤيدة لروسيا في كييف، وأن بوتين سيجري مفاوضات مع الناتو حول ترتيبات الأمن في أوروبا… كل ذلك تم دحضه. ولكن الافتراض بأن أوكرانيا ستنتصر لأنها لم تهزم، فتلك صورة وضع قد تكون مؤقتة؛ فمن ناحية عسكرية، تستطيع روسيا تقسيم أوكرانيا إلى أجزاء، وتدمير مدنها.
الأسطورة الثانية: بعد نشوء وضع راهن، وإدراك بوتين بأن الهدف الاستراتيجي لن يتحقق، مما يقود إلى المفاوضات السياسية على الباب، فتلك أمور غير صحيحة أيضاً، إذ لا يوجد أي دليل على أن بوتين توصل إلى هذا الاستنتاج. هو يحاول إصلاح وملاءمة نفسه مع الإخفاقات العسكرية. سيجري المفاوضات مع الولايات المتحدة وليس مع أوكرانيا. ولن يوافق على وقف إطلاق النار إلا بعد تحقيق إنجاز سياسي، وهو أمر ما زال غائباً.
الأسطورة الثالثة: الحديث عن استعداد روسيا اقتصادياً للعقوبات، وأن التحالف مع الصين قد يعوض الخسائر. هذا غير صحيح. اقتصاد روسيا ضعيف وهش ولن يصمد أمام العقوبات. التحالف مع الصين هو مصالح خاصة فورية ورغبة مشتركة لتشكيل نظام جديد. الصين تراقب توحد الغرب وفشل بوتين بكل اهتمام ودهشة، وهي لن تسارع إلى إنقاذه.
الأسطورة الرابعة، وهي المحببة لأشخاص في العالم، أن الغرب أخطأ استراتيجياً عندما وسع الناتو ودفع بوتين إلى الوضع الذي اضطر فيه إلى غزو أوكرانيا. ولكن توسيع الناتو منع بولندا ودول البلطيق من أن تكون أمس هي أوكرانيا الآن. هذا هو الذي منع بوتين في هذه المرحلة من توسيع الحرب إلى حرب أوروبية شاملة.
الديناميكية التي نشأت والضائقة والدافع المسيحاني، القومي – الروسي، حولت بوتين إلى أكثر خطورة، من هنا يأتي الحديث عن “الجسر الذهبي”. في كتاب “فنون الحرب” من القرن الخامس قبل الميلاد، أوصى الفيلسوف الصيني سون تسو بمبدأ “عندما تطوق عدوك اترك ثغرة… لا تضغط بقوة على الأعداء اليائسين”. اعتبرته التفسيرات الغربية “الجسر الذهبي”، وهو المسار الذي يمكن العدو من الانسحاب دون استسلام أو إهانة.
الحديث عن “الجسر الذهبي” ينبع من القلق على قوة ونوعية التصعيد الذي يستطيع بوتين استخدامه. تدمير المدن في أوكرانيا، وتوسيع الحرب إلى دول في الناتو مثل دول البلطيق أو بولندا، ووقف مبادرة تزويد النفط والغاز من أجل رفع أسعار النفط إلى 250 دولاراً للبرميل، أو استخدام السلاح غير التقليدي… جميع السيناريوهات غير معقولة. ولكن من يستبعد احتمال حدوثها فهو ربما لا يقرأ بوتين بشكل صحيح.
بوتين يعتبر نفسه كمن يوجه روسيا الضعيفة في مستوى بطرس الأكبر من القرن الثامن عشر، وفي مستوى ألكسندر الأول الذي صد غزو نابليون في 1812، وفي مستوى ستالين الذي هزم هتلر. بالنسبة له، أوكرانيا ليست هي القصة على الإطلاق. هو طاغية معزول ومتشكك ومحاط بمنافقين نهبوا روسيا بقوة قربهم منه. ويبدو أنه لا يثق بهم أيضاً، بل يعتمد على عدد صغير من الجنرالات والضباط في جهاز المخابرات الروسي الفيدرالي. من غير الواضح ما هي طبيعة المعلومات التي يحصل عليها، لكن من الواضح أن جميع أجهزة الإصلاح والتوازنات والكوابح، غير موجودة. في وقت بات فيه على شفا كارثة استراتيجية تأسيسية، فقد نفدت بدائل بوتين، باستثناء التصعيد. في هذا الوضع “الجسر الذهبي” هو الذي سينقذه، لكنه لن يحل أي مشكلة لفترة طويلة.
المصدر: القدس العربي/ هآريتس