أحمد مظهر سعدو
أيقظت موجة الربيع العربي الأولى مع بدايات عام 2011، جل الساحات العربية، وحركت الساكن في هذه الساحات، في محاولة لإعادة رسم ملامح مستقبل جديد لشعوب العرب، والمنطقة برمتها، فقد كانت شرارة تونس مشعل نور أضاء الطريق لكل الذين يقعون تحت ظلام الاستبداد وظلمته، وتغول السلطات الأمنية، ضمن عمل جدي لانقاذ ماتبقى من حيوات الناس الممكنة، وانطلاقًا من أن انبثاقات الحرية لابد قادمة إذا ماكانت هناك إرادة حقيقية لدى الشعوب، وقدرة موضوعية على اقتلاع الطغيان الممسك بتلابيب الأوطان، وصولًا إلى مجتمع ودولة تعبق فيهما شهب الحرية والكرامة المفتقدتين في منحنيات الواقع العربي الرسمي، الذي خطف الأوطان وراح يعبث بها فسادًا وإفسادًا، دون رحمة، وعلى أساس أن كل هذه الأوطان ملكية ومزرعة خاصة لمن يتمكن من الخطف أولًا، ويدفع الجميع إلى حالات من الفساد والإفساد لم يسبق لها مثيلاً.
كان من هذه الأوطان والساحات التي انطلقت شرارة ثورتها الساحة السورية التي كانت تمور فيها في كثير من الأحيان وتتجلى علامات الغضب وتطلع الناس إلى بعضٍ يسيرٍ من الحرية التي أخذها نظام الطغيان منذ عام 1970 إلى مهاوي القمع والاستبداد وإلغاء السياسة من المجتمع وتصفية كل من يحاول الاعتراض على سياسات البيع والمتجارة بالوطن.
فقد خرج السوريون صبيحة 15 آذار/ مارس 2011بدمشق ، ثم يوم 18 من نفس الشهر في مدينة درعا، لا يلوون على شيء، ولا يفكرون إلا بكنس الطغيان الذي استباح الأرض والإنسان على مدى عقود أربعة من العسف والقهر وهدر كرامة الإنسان.
خرج السوريون من أجل حريتم وكرامتهم، بالرغم من إدراكهم ومعرفتهم مدى قدرة النظام الأسدي على ممارسة العنف والقمع وارتكاب المجازر، خرج السوريون وخرجنا جميعًا يوم 25 آذار/ مارس 2011من الجامع الكبير في مدينة دوما نصرة لدرعا، وتصميمًا على متابعة الثورة حتى إسقاط النظام وعودة الوطن المنهوب إلى أهله وناسه، لم تكن جحافل وقطعان قوات الأمن المدجج بالسلاح يومها تخيف الناس، فقد حاولوا منعنا من الخروج بكل قوتهم، وكان هدير الناس وتصميمهم أقوى وإرادتهم أصلب، وخرجت آلاف الناس إلى شوارع دوما تهتف سلميًا بالثورة والحرية، ووجدنا أنفسنا في شوارع دوما نملأ المكان وراحت جموع الناس تنضم إلينا، كنت أنظر إلى حالنا وكيف أننا تمكنا من الخروج ورفع الشعارات والهتافات التي نريد ضد الطغيان والحكم الشمولي، أمام عجز قوى النظام على منعنا من ذلك، كنتُ غير مصدق لما يجري، وأنا الذي خبرت النظام وأجهزته الأمنية التي كانت تمنعنا حتى من الهتاف لفلسطين والعراق، إلا بموافقتها وعلمها ومراقبتها. نحن اليوم نمتلك الشارع، ونعيد بناء الوطن السوري بلا خوف ولا وجل. فماكانت عيناي إلا وفاضتا دمعًا بفرح غير مسبوق، فقد كسرنا حاجز الخوف والصمت وتمكنت ثورة الحرية والكرامة من الوصول إلى الساحات، لتهتف بعلو الصوت( واحد واحد واحد الشعب السوري واحد) .( الشعب يريد إسقاكط النظام) .و (يادرعا نحنا معاكي للموت).
هذه الثورة التي جابت ربوع الوطن كل الوطن، وأخافت النظام وزلزلت أركانه، وبينت أنه يمكن للشعوب الحية أن تفيق من رقادها وترفع هاماتها وتنتج وطنًا حرًا كريما بلا آل الأسد وبدون كل طغاة الأرض. لكن ماذا جرى بعد ذلك؟ ولماذا وصلت (اليوم) الثورة السورية الأكثر نصوعًا من كل الثورات، لماذا وصلت إلى هذه الحالة من الاستنقاع والعثار؟ وعلى أية معطيات كانت مآلات الثورة في أزمتها الحالية؟ في محاولة للإجابة عن ذلك كان لابد لنا من أن نكون أكثر واقعية وأكثر صراحة وشفافية ونقدًا للذات، ولكل ماجرى خلال أحد عشر عامًا من عمر الثورة السورية. وإذا ما أردنا ذلك فإنه يمكننا أن نقف عند بعض النقاط التي حالت دون وصول الثورة السورية إلى غاياتها ومبتغاها ثم أعاقت مسيرتها، وساهمت في حالة الاستنقاع الكبرى للمسألة السورية، ونذكر من ذلك:
_تحول الثورة السورية السلمية الجماهيرية إلى السلاح، كرد فعل مباشر على استخدام العنف المفرط من قبل نظام القمع والاستبداد الأسدي، وهو خطأ استراتيجي لم يأخذ بالحسبان مافعله النظام خلال هبة الثمانينات، وهو الذي لديه ترسانة كبرى من السلاح، والحقد أيضًا. إذ لايمكن للشعوب أن تجاري الأنظمة بما تمتلك من سلاح، وصدرها مكشوف، وإمكانياتها متواضعة وبالتالي ستكون خسائرها أكبر وأكثر مرارة.
_ الأسلمة التي تحولت فيها الكثير من حالات السياسة والتسلح في الثورة إلى الارتباط بمشاريع خارجية تحت لبوس الإسلام السياسي، دوم وعي منها إلى أن النظام المجرم نفسه هو من يدفع إلى هذا المنحى كي يتسنى له (شيطنة الثورة) واتهامها بالارهاب والتطييق. وهو ماحصل إذ تحولت الثورة عبر الأسلمة والتطرف إلى ماهي عليه الآن.
_تشظي المعارضة وتفتتها وعدم قدرتها على الولوح في أتون عمل وطني ومؤسسات سياسية وطنية منسجمة مع بعضها، دون الوصول إلى الاحتراب الداخلي السياسي والعسكري، لكن ماجرى بعدها على المستويين السياسي والعسكري هو مزيد من التذرر والتشظي وعدم القدرة على لم الوضع السوري وإعادة بناء مداميك عمل وطني جامع وموحد.
_ سياسة الانتظار أمام الخارج كي يأتي هذا الخارج الذي لم يأت، ولن يأتي أبدًا ليقوم بالعمل بديلاً عن الشعب السوري، وينقذ السوريين من قمع وعنف هذا النظام، وكانت الخيبات تلو الخيبات آتية ونازلة فوق رؤوس السوريين دون وعي حتى الآن إلى أن رهاناتهم كانت خاطئة، ومن يتكيء على سواه لن يصل إلى مبتغاه أبدًا. وهو الذي أدى إلى أن وضعت المعارضة السورية كل بيضها في سلة الخارج، وراحت تعيد إنتاج نفسها عبر مصالح ذاتية أنوية لم تفضِ إلا إلى مزيد من التشتت واللاجدوى واللافعل.
_ تمكن طبقة الإنتهازيين والوصوليين من الإمساك في خناق كثير من مؤسسات المعارضة السورية، حيث لم ترتق هذه القيادات إلى مستوى الدم السوري الطاهر الذي أريق على مذبح الحرية والكرامة، واستمرار هذه الطبقة في التحكم في سياسات ومؤسسات العمل الوطني السوري والقضية السورية برمتها، حتى بات أكثر همهم هو المشاركة في رحلة الشتاء والصيف إلى اجتماعات أستانا تارة وإلى سوتشي تارة أخرى وإلى جنيف/ اللجنة الدستورية تارات أخرى، بينما يدرك القاصي والداني أن كل هذه المسارات هي مضيعة للوقت، وهي غير قادرة ولا تمتلك الجدية في المضي نحو أي عملية انتقال سياسي في سورية، بل هي التفاف على كل القرارات الدولية والأممية ذات الصلة.
_ علاوة على العجز الحقيقي اليوم عن إنتاج أي لقاء وطني جامع أو أي مؤتمر وطني كبير يضم كل السوريين بين ظهرانيه، ودون ارتماءات في أحضان الخارج حتى لو كان صديقًا.
بعد أحد عشر عامًا من عمر الثورة السورية وجملة التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري، كان لابد من جردة حساب واعتراف ومراجعة لكثير من المنعرجات التي آلت بنا إلى مانحن فيه وعليه. ويبدو أن هذه المراجعة تقتضي بحق أن تكون لدى كل الطبقة السياسية المتحكمة بمؤسسات المعارضة السياسية منها والعسكرية، وبدون المكاشفة والمراجعة والإعتراف بالأخطاء والعمل على تغييرها، ومن ثم تغيير كل الشخصيات التي ساهمت فيها، عاجلًا قبل أن يكون آجلًا، فليس هناك من إمكانية إلى الولوج نحو العام الثاني عشر لثورة الحرية والكرامة، إلا ونحن أكثر قدرة على الفعل حتى نقول حينها أن الثورة باقية ومستمرة وصولًا إلى غاياتها المنشودة.