أخي الكريم، …….. المحترم.
قرأتُ الأوراق المرفقة بجوابي هذا، والمرسلة إليّ … لمطالعتها وإبداء رأيي حولها.
وأرفق لـ.. جوابي بشأنه لتقديمه إليه.
*موضوع هذه الأوراق*:
تتضمَّن هذه الأوراق التي بلغت صفحاتها ستًّا وثلاثين صفحة كبيرة سؤالًا من بعض أعضاء البعثة التعليميَّة السعوديَّة إلى اليمن مُوجَّهًا إلى الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس مجلس إدارات البحوث العلميَّة والدعوة والإفتاء (وهو المجلس الذي حَلَّ محلَّ المفتي العام للمملكة السعوديَّة، المرحوم الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ) عن جواز الصلاة بأذان الزيديَّة الموجودين في اليمن الذين يزيدون في صيغة الأذان المأثورة جملة بعد (حي على الفلاح) هي جملة: (حي على خير العمل)، وعن جواز الصلاة مع الزيدية المذكورين.
وقد تضمَّن جواب الشيخ ابن باز، أنَّ هذه الزيادة في الأذان بدعة، لكنها لا تمنع الصلاة به، ويجب على أهل السُّنَّة أنْ يُؤذِّنوا لأنفسهم أذانًا خاليًا من هذه البدعة، وأمَّا الصَّلاة خلف إمام زيدي فلا يراها الشيخ ابن باز صحيحة (لأنَّ الزيديَّة يغلب عليهم الغلو في آل البيت بأنواع من الشِّرك، وإظهار بعض البدع، ويسبُّون بعض الصحابة…).
وقد تصدَّى بعض علماء الزيديَّة (لم يُبيِّن اسمه) للردِّ على الشيخ ابن باز وتبرئة الزيديَّة ممَّا نسبه إليهم، ردًّا مطوَّلًا مسهَبًا بلغ خمسا وثلاثين صفحة، وتضمَّن هذا الردُّ تجريحًا ووصمًا كثيرا للشيوخ النَّجديِّين (الوهابيين) في المملكة السعودية بالجمود الفاحش، وبالغلو السلبي الذي يُشوِّهون به الشريعة الإسلاميَّة، ويحكمون بمقتضاه على كلِّ مَنْ خالفهم بالكفر والشِّرك. وقد وصل بهم الغلو في التكفير إلى درجة أنَّ النَّجديين الوهابية قتلوا قافلة من الحجَّاج اليمنيِّين فيها عدَّة آلاف من الحجَّاج أبادوهم عن آخرهم بحُجَّة أنهم مشركون!!
وذكر كاتب الرد أنَّ الملك عبد العزيز رحمه الله تألَّم أشدَّ الألم لهذه الحادثة واعتذر عنها، وعرض ديَات القتلى، ولكنَّ إمام اليمن أبَى أخذَ الدِّيات.
وقد ذكر كاتب الردّ أيضًا أمثلة عديدة غريبة جدًّا من جمود الشيوخ النَّجديين الذين يحكمون على من خالفهم بالكفر والشِّرك، وفي الوقت نفسه يُثني كاتب الرد في عدَّة مواطن على حكمة الملك عبد العزيز بن سعود، ثمَّ على ابنه الملك فيصل بن عبد العزيز رحمهما الله، ويُبيِّن كيف أنَّهما كانا يقاسيان كثيرًا من غلو الشيوخ النَّجديين وجمودهم ممَّا كان يفسد على العاهليْن الحكيميْن مخطَّطاتهما الإصلاحيَّة الحكيمة في المملكة.
*رأيي في الموضوع*:
المعروف عند أهل العلم أنَّ الزيديَّة (وهم الذين ينتسبون مذهبيًّا إلى الإمام النَّقيّ التَّقي العالم الصَّالح زيد بن علي زين العابدين ابن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم) هم أقرب فرق الشيعة إلى الاعتدال، وأنَّ مذهبهم في الفقه وأصوله أقرب إلى فقه أهل السنَّة ولا سيَّما إلى المذهب الحنفي. وكتبهم الفقهيَّة تشهد بذلك.
1-إنَّهم يفضِّلون سيدنا عليًّا رضي الله وكرَّم الله وجهه على سائر الصحابة، حتى أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ولكنهم لا يغلون غلوَّ الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة في السبِّ والشتم، ولا يقولون كالاثني عشرية بعصمة الأئمَّة.
2- أنَّهم يُقرُّون بخلافة أبي بكر وعمر، ويتَّخذون من ذلك قاعدة يقرِّرونها، وهي: جواز إقامة المفضول مع وجود الأفضل.
3- وأنَّ الإمامة في نظرهم اختيار بشريّ خلافًا للاثني عشريَّة الإماميَّة، فهم يرون أنَّ خلافة عليٍّ بوحي من الله، ولذلك فالالتزام بها عندهم قضيَّة إيمان، ومخالفتها عصيان لله، وأمَّا خلافة من بعده من الأئمة الاثني عشر فكذلك بإلهام من الله، ولذلك فالخلاف مع الزيديَّة في الإمامة خلاف تاريخي وخلاف في الرأي، وأمَّا مع الإماميَّة فخلاف في العقيدة، ولذلك لا يطلقون في كتبهم كلمة (مؤمن) إلا على من كان على مذهبهم، ويطلقون على أهل السنَّة كلمة (مسلم).
وإضافتهم في الأذان جملة (حي على خير العمل) لهم فيها مُستَنَدات مرويَّة عن بعض الصحابة، وإن كانت لم تثبت صحَّتها عند أهل السنَّة الذين اعتبروا هذه الزيادة بدعة. بل وردت في بعض كتب الحديث عند أهل السنَّة ( ).
ولا شك أنَّ القول بعدم صحَّة الصلاة خلفهم فيها غلوٌّ وإفراط في السَّلبيَّة، فإنَّ الفقه الزيدي يعتبره ويقدِّره جميع فقهاء العصر.
ولا شك أيضًا أنَّ الشيوخ النَّجديين في المملكة السعودية لديهم من الجمود إلى اليوم حالات تفوق حدودَ التَّصوُّر.
فالشيخ ابن باز نفسه (وهو من أعدلهم وأوسعهم صدرًا وفكرًا) منذ بضع سنوات فقط (حين كان رئيسًا للجامعة الإسلاميَّة في المدينة المنورة) نشر مقالًا أنكر فيه أشدَّ الإنكار على من يقول بكرويَّة الأرض وبدورانها لتكوين الليل والنهار، وتكوين الفصول، ثمَّ بعد الانتقاد الشَّديد عليه في ذلك من قِبَل بعض المخلصين له تنازل إلى القول بإمكان كُرويِّتها. أمَّا القول بأنَّها هي التي تدور وليست الشمس، فهذا لا يزال إلى اليوم يعتبره مستحيلًا لمخالفته المحسوس في نظره، كما يراه قريبًا من الكفر؛ لأنه تكذيبٌ للقرآن (بحسب فهمه هو للقرآن)، ولا يُصدِّق بإرسال المركبات الفضائيَّة للدوران حول الأرض، ولا بالنزول على القمر إلخ… إذ لا دليل في نظره على أنَّ الصُّور التي تُبثُّ بواسطة التلفزة هي حقيقة من الفضاء أو القمر فلعلَّها مُزيَّفة.
ومن هؤلاء الشيوخ من يعتبر استعمال الراديو حرامًا، ولا يُصدِّق بأنه ينقل الأصوات المذاعة، بل يرى أنَّ هذا الذي نسمعه من الراديو هو صوت إبليس الذي اتَّفق مع الكفَّار ليصنعوا هذا الجهاز فيوهموا به المسلمين أنَّه ينقل الكلام من الهواء، والشيطان يتكلم في داخله لكي يُضلِّل المسلمين وتسْري عليهم الخدعة!!
فهؤلاء بهذه العقليَّة يحكمون على كلِّ من يخالفهم بالشِّرك أو الكفر أو بما يقرب منه، ويريدون أن يتَّبعهم الناس في تفاصيل عقيدتهم وفرعيَّاتها، وأن يفهموا الإسلام من زاوية نظرهم هم، وإلا كانوا فاسقين أو كافرين أو مشركين.
نعم لقد خفَّ كثير من غلوائهم، ولكن لا يزال في شيوخهم إلى اليوم نماذج من هذه العقليَّة!
ألقى الشيخ عبد العزيز محاضرة في الرابطة حضرتها بجواز الصعود إلى القمر عقلًا ونقلًا. ورجع عن تكفير من يقول بدوران الأرض مع قوله: إنَّ إجماع أهل السنَّة! على ثبوت الأرض، وأنَّ من يقول بدوران الأرض مع ثبات الشمس فهو كافر، ولا تزال هذه الرسالة التي ألَّفها تُوزَّع على النَّاس في الجامعة الإسلاميَّة وغيرها.
نعم إنَّ للوهابيَّة منذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فضلًا كبيرا في أنَّها قاومت كثيرًا من البدع الزائفة التي شوَّه به الجهلاء وجْهَ الشريعة الغرَّاء، ولكن الغلو الذي حمله شيوخ المذهب في العصر الحاضر، ثمَّ المرتزقة المنافقون المتاجرون من حولهم بالدين بعد ظهور البترول وتدفق الأموال، وصيرورة النفاق الديني لمذهب الشيوخ، كالنفاق السياسي للحكام، طريقًا قصيرًا مُعبَّدًا لسرعة الثراء، واجتراف المال بمُجرَّد احتراف النفاق، واستعداد هؤلاء المرتزقة لأن يقوموا بوظيفة الأبواق، واجْتناب طريق النَّهج المخلص والنقد البنَّاء- كل ذلك قد غطَّى بمساوئه على حسنات المذهب في الحدود الصحيحة المعقولة.
إنَّ الزيديَّة يخالفون مذهب السلف الصالح من أهل السنَّة بتفضيلهم سيِّدنا عليًّا رضي الله عنه وكرَّم وجهه على سائر كبار الصحابة حتى أبي بكر، ويرونه أحقّ بالخلافة منهم، ويستدلون لذلك بأدلَّة لا تنهض حُجَّة معادلة لأدلة أهل السنة، ولكن الزيديَّة لا يمكن أن يُصنَّفوا مع الشيعة الإمامية (الاثني عشرية) في صف واحد كما يفيده جواب الشيخ ابن باز موضوع البحث، وليس للزيديَّة غلو الإماميَّة وانحرافاتهم وابتداعاتهم.
وكتب الفقه الزيدي محل تقدير لدى فقهاء العصر من مختلف المذاهب.
ويرون أن أبا سفيان لم يسلم إلا ظاهرًا، ويسبُّون (معاوية) وأصحابه، ويشكون في إيمانه، وهذه هي النقطة التي اعتبرها الشيخ مطعنًا فيهم، فقال: إنهم يسبُّون الصحابة. والفرق كبير بينهم وبين الإماميَّة في هذا، فهؤلاء يطعنون في أكثر الصحابة ولا يقبلون روايتهم كالشيخين وأبي هريرة وكل من لم يبايع عليًّا، وأمَّا الزيديَّة فدائرة هجومهم محصورة في معاوية ومن حوله، ولذلك يقبلون رواية أكثر الصحابة، ومنهم الشيخان وأبو هريرة. وينْبني على هذا قبول الزيديَّة بكتب أهل السنَّة في الحديث كالبخاري ومسلم واعتمادهم عليها في فقههم خلافًا للإماميَّة.
المصدر: صفحة الدكتور مخلص الصيادي