بشير البكر
لم يعد السياسي الروسي القومي فلاديمير جيرينوفسكي وحده حامل لواء الدعوة لتتويج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قيصراً لروسيا، فقد تفاعلت مع دعوته، على نحو إيجابي، الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، بينما لم يصدر عن بوتين أو أجهزة الدولة أي رد فعل سلبي تجاه ذلك، في الوقت الذي يعتبر فيه الرأي العام بوتين قيصراً فعلياً ولا ينقصه غير التتويج. ويمكن ملاحظة أن هذه المسألة غير منفصلة عن الجهود الكبيرة التي يقوم بها الرئيس الروسي من أجل إحياء تراث روسيا القيصرية، ورد الاعتبار لقياصرتها.
إحياء تراث روسيا القيصرية
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021 حصل في مسقط رأسه مدينة سان بطرسبرغ أول حفل زفاف ملكي منذ قرن، جمع بين الوريث السيادي للعرش جورجي رومانوف، حفيد الدوق الأكبر كيريل، ابن عم القيصر نيقولا الثاني آخر قياصرة روسيا الذي أعدمه البلاشفة في 18 يوليو/ تموز 1918 بعد الثورة الروسية.
وجرت مراسم الزفاف قبل أن تطلب لجنة رئاسية في يناير/ كانون الثاني من بوتين الموافقة على طلب أحد أقارب نيقولا الثاني الباقين على قيد الحياة إعادة الاعتبار لعائلة رومانوف، التي حكمت روسيا من عام 1613 حتى الثورة.
وناشدت الدوقة الكبرى ليونيدا رومانوفا، زوجة الدوق الأكبر فلاديمير، نجل ابن عم القيصر الأخير، اللجنة الرئاسية لإعادة الاعتبار لضحايا القمع السياسي وإعلان “الجرائم” التي أدين بها النظام الملكي القيصري باطلة.
ومثّلت هذه المبادرة خطوة أخيرة مهمة في رحلة روسيا لاحتضان تاريخها القيصري. فبوتين يصوّر نفسه على غرار بطرس الأكبر (1672-1725)، الذي يذكّرنا عهده بالعظمة الإمبراطورية الروسية التي يحرص الكرملين على الترويج لها.
جرى التوقف مطولاً أمام حدث الزفاف، وغطته الصحافة بشكل واسع لمدة ثلاثة أيام، اجتمعت خلالها سلالات عديدة من العائلات المالكة في أوروبا، من صوفيا ملكة إسبانيا إلى سيمون الثاني آخر ملوك بلغاريا، وشخصيات من النخبة الروسية الجديدة.
وكان من بين الضيوف البالغ عددهم 1500 المليونير كونستانتين مالوفييف، صاحب القناة التلفزيونية القومية Tsargrad، الذي يخضع لعقوبات دولية بسبب دوره في تمويل الانفصاليين في شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس. وتعهد تقديم الطعام “طباخ بوتين” يفغيني بريغوزين، الذي يخضع بدوره لعقوبات بسبب الجمع بين عمله في مجال تقديم الطعام وتشكيل جيش المرتزقة المعروف باسم “فرقة فاغنر” التي استخدمتها الدولة الروسية على نطاق واسع في سورية وليبيا ومالي وبلدان أفريقية.
بوتين يعيد تعريف التاريخ
كشف بوتين النقاب في عام 2014 عن تمثال برونزي للإمبراطور ألكسندر الأول (حكم بين 1801 و1825) على جدار الكرملين، وأشاد بالقيصر الذي هزم نابليون بونابرت في عام 1812، وطرد جيوشه من روسيا. وقدّم الرئيس الروسي هذا القيصر باعتباره “استراتيجياً ودبلوماسياً بعيد النظر، ورجل دولة” خلق شروط ما يسمى بالتوازن، المبنية ليس فقط على مراعاة المصالح المشتركة للدول، ولكن أيضاً على القيم الأخلاقية.
وتزامن تولي بوتين الرئاسة الروسية في مطلع القرن مع جهود منسقة لاستعادة كنوز عائلة رومانوف التي باعها البلاشفة خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وقاد فيكتور فيكسيلبيرغ، أحد أفراد مجموعة “الأوليغارشية” المقرب من بوتين، العملية، ووضعت تحت تصرفه موازنة تصل إلى 9.3 مليارات دولار، ولذا هو يمتلك الآن أكبر قدر من هذه الكنوز الأثرية (بيض إمبراطوري) أكثر من أي فرد آخر، بعدما اشترى تسعاً منها من عائلة ناشر مجلة “فوربس” الأميركية في عام 2004 مقابل مبلغ كبير قدره 100 مليون دولار.
تم نقل هذه المقتنيات التي يعود بعضها إلى عام 1885، التي تم صنعها بطلب من القيصر ألكسندر الثالث، وبناء على تعليمات بوتين جرى على الفور عرضها في الكرملين. وبعد ذلك جرى ترميم قصر يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر في سانت بطرسبرغ ليصبح متحفاً على طراز متحف “الأرميتاج”، وحقق بوتين هدفه المتمثل في إعادة “البيض الإمبراطوري” إلى مدينته الأصلية، وبذلك ربط صورته ببراعة مع الإرث الإمبراطوري.
إذا كان هناك زعيم روسي جرى تكريمه وإعادة الاعتبار له بشكل لا لبس خلال عهد بوتين، فهو نيقولا الثاني، الذي عُرف خلال الأيام الشيوعية باسم “الدموي”، وأصبح معروفاً لدى الروس أكثر باسم “القيصر الشهيد”.
ومنذ أن جرت مراسم تكريمه وعائلته من قبل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في عام 2000، ظهرت الكنائس والأضرحة المخصصة لمن يسمون “شهداء الإمبراطورية المقدسة” في جميع أنحاء روسيا.
وتماشياً مع الممارسات الأرثوذكسية، صارت توزع أيقونات في مجموعة متنوعة من الأوضاع، بدءاً من البطاقات المصفحة ذات الإنتاج الضخم إلى اللوحات المزدوجة الفخمة الموضوعة في علب حمراء ناعمة، وتحولت قصورهم السابقة وأماكن نفيهم وإعدامهم إلى وجهات حج.
انقلاب الذاكرة الروسية
وبعد مرور مائة عام على ثورة 1917، انقلبت الذاكرة العامة دورة كاملة، وبعدما تم تشجيع الروس ذات مرة على نبذ آل رومانوف بوصفهم “مضطهدي الشعب”، يتم تشجيعهم اليوم، حرفياً، على عبادتهم.
ومن المعروف عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن دورها كان مصفقاً للقياصرة، ومنحت الشرعية مقابل الامتياز. الآن، تم تبني عائلة رومانوف إلى حد كبير من قبل الكنيسة، التي تسعى إلى تبرير وضعها المتجدد والتحكم في كيفية إعادة تقييم تاريخ البلاد. ولهذا رفعت نيقولا الثاني وزوجته ألكسندرا وأولاده في عام 2000 إلى مرتبة القديسين، وأطلقت على القيصر لقب “القديس نيقولا حامل العاطفة” لتحمله مصيره “بتواضع وصبر ووداعة”، وبذلك حوّلت الكنيسة السلالة إلى جزء من سرديتها الخاصة.
اعتبر بوتين أن جزءاً من إرثه كرئيس هو ربط الزمن الروسي، ما يضمن تواصل تاريخ روسيا، كما قال عندما دشن في أغسطس/ آب 2014 أول نصب تذكاري لضحايا روسيا في الحرب العالمية الأولى، التي شُطبت في العهد السوفييتي بوصفها “مشروعاً إمبريالياً شائناً”.
وتحدثت الصحافة في حينه عن أن بوتين لا يريد أن يُنظر إليه على أنه مجرد استمرار لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، التي وصلت إلى الفشل نتيجة وجود خطأ فيها، ولذا لم يكن مهتما بأن يجري تقديمه على أنه كالأمين العام للحزب الشيوعي. بل هو يعتبر نفسه ديغول روسيا أو فرانكو، ديكتاتور إسبانيا الشهير. رئيس “نظام انتقالي”، واعٍ بذاته يهدف إلى استعادة نظام سياسي واجتماعي شبه تقليدي، وقد يشمل ذلك النظام الملكي. وستكون عودة آل رومانوف جزءاً من دوره التاريخي، ولذا لم يصدر عن الرئيس الروسي رد فعل عندما قارن جيرينوفسكي، السياسي القومي الذي يرأس الحزب الديمقراطي الوطني الليبرالي الروسي، بينه وبين فرانكو في وجوده.
والسؤال هل يخطط بوتين حقاً لإعادة عائلة رومانوف إلى الحكم؟
من بين فلاسفة بوتين الثلاثة “المفضلين” (فلاديمير سولوفيوف ونيكولاي بيردييف وإيفان إيليين)، يعتقد أن إيليين كان له التأثير الأكبر على فهم بوتين لتاريخ روسيا السياسي والروحي. ويصور إيليين جميع مشاكل روسيا في القرن العشرين “انزلاقها إلى الطغيان، وانهيارها الاقتصادي، وخرابها الثقافي والروحي”، على أنها نابعة من تنازل القيصر نيقولا الثاني عن الحكم.
ومن خلال إدراك جوهر ما يسميه “الوعي الذاتي القانوني الوطني” لروسيا والذي يرتكز على “أساسين، الأرثوذكسية والإيمان بالقيصر”، يتساءل إيليين عن سبب فشل هذا الوعي بالذات في عام 1917 وما الذي يمكن فعله لإصلاحه. والجواب “الالتزام يقع على عاتقنا”، على هذا الجيل من الشعب الروسي الذي عانى من هذه الثورة بحزن وعذاب، “أن نسأل أنفسنا أين يتكون جوهر الوعي القانوني الملكي القوي والعميق وكيف نعيد غرسه في روسيا”.
ومهما كانت الآمال التي تخامر بعض الشتات الأرستقراطي من الباقين على قيد الحياة، فإن آل رومانوف لن يعودوا إلى العرش في أي وقت قريب. وتفيد الاستطلاعات بأن 3 في المائة فقط من الروس يؤيدون العودة إلى القيصرية القديمة. ومع ذلك، فإن داعمي فكرة الملكية الدستورية يساوون تقريباً أولئك الذين ما زالوا يعارضون أي شكل من أشكال الملكية، ولكن في ظل غياب وريث شرعي واحد، فإن الملكيين الروس مغرمون بشكل ملحوظ بملاحظة أنه في حال حصول استفتاء، لا أحد يريد أن يكون قيصر روسيا القادم من آل رومانوف.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالذاكرة العامة لروسيا، فإن الكرملين يتقاسم السلطة مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وهذا أمر حاسم في أي استفتاء في المستقبل. وفي الواقع، كانت البطريركية هي التي أحبطت خطة الحكومة لإعادة دفن رفات اثنين من أطفال رومانوف إلى جانب والديهما في الضريح الإمبراطوري، خشية أن تثير جدلاً لا داعي له بين العديد من الروس، الذين ما زالوا يشعرون بالحنين إلى أيام الاتحاد السوفييتي.
وحذر فاختانغ كيبشيدزه، المتحدث باسم البطريركية الروسية، من أي تصور بأن الكنيسة كانت تبحث عن استعادة الدور، وقال إن “النضال السياسي” “ليس على أجندة الكنيسة”. كان الهدف بدلاً من ذلك روحانياً، وهو ما أطلق عليه بطريرك موسكو وعموم روسيا كيريل في خطاب ألقاه عام 2015 أمام مجلس الدوما اسم “المصالحة التاريخية”.
المصدر: العربي الجديد