إياد الجعفري
بينما يُفكّك كبار الأوليغارش الروس، أصولهم غير المنقولة في دول غربية، للفرار بها من العقوبات المتصاعدة، وينقلون ما يستطيعون من سيولة إلى ملاذات آمنة جديدة، يثير المشهد حنق المراقبين داخل أروقة نظام الأسد، دون شك. فهذا النظام راهن في وقتٍ من الأوقات، على أموال هؤلاء، كي يعمّروا سوريا، التي هدمتها دولتهم، بالتوافق مع النظام ذاته.
مردّ الحنق، يرجع تحديداً إلى أن الملاذات الجديدة المرشحة، لا تضم في قائمتها، سوريا، مطلقاً. إذ لم يرشح عن أي مصدر ذي مصداقية، أي خبرٍ يفيد بأن أموالاً روسية ساخنة، قد تتجه إلى سوريا، الخاضعة لنظام حليف لـ “قيصر” الكرملين. رغم أن صور ذاك الأخير أخذت تنتشر على لوحات الإعلانات بدمشق، وسط دعم النظام العلني للحرب في أوكرانيا.
قائمة الملاذات الجديدة، تشمل دبي وإسرائيل، وبدرجة أقل، تركيا. خاصة بعد أن باتت خيارات مثل قبرص، وجزر فيرجن البريطانية، وجزر كايمان، مشوبة بالمخاطر، من جراء التدقيق الغربي، فيها. الملاذات الأخيرة المشار إليها، كانت على مدار العقد الفائت، هي الوجهة الفُضلى لغسيل أموال أثرياء روسيا، المقربين من النظام الحاكم في موسكو.
وبطبيعة الحال، يمكن تفهم حنق النخبة الحاكمة في دمشق، حيال تجاهل الأموال الروسية للوجهة السورية، حتى ساعة كتابة هذه السطور. فرهان رأس النظام، بشار الأسد، كان بدايةً، على الخيار الروسي. وفي آذار/مارس 2016، أطلق الأسد أولى تصريحاته بهذا الخصوص، حينما قال إن الحرب في سوريا خلّفت دماراً بقيمة 200 مليار دولار. وسوّق الأسد هذا الدمار، بوصفه عامل جذب للمستثمرين، ليقول في مقابلة نشرتها حينذاك، وكالة الأنباء الروسية، ريا نوفوستي، إن إعادة الإعمار في سوريا “عملية رابحة بجميع الأحوال بالنسبة للشركات التي ستساهم فيها، وخاصة إن تمكنت من تأمين قروض من الدول التي ستدعمها”. مضيفاً أن رهانه في هذه العملية –إعادة الإعمار- سيرتكز على ثلاث دول أساسية، هي “روسيا والصين وإيران”. الكلام ذاته، كرره الأسد، بصيغة أخرى، في تموز/يوليو 2018، مؤكداً أن نظامه يراهن في إعادة الإعمار على “الدول الصديقة”.
خلال تلك السنوات، كان حديث الأسد إيعازاً لبروباغندا ملأت وسائل إعلام النظام، وأطّرت تحليلات منظّريه، حول نيّة النظام حرمان الغرب والخليج، من فرص الاستثمار في سوريا، نظراً لموقفهم “المتآمر” ضد البلاد. فالأسد قرر منح هذه “الجائزة” لمن وقف معه. تحديداً لـ “روسيا والصين وإيران”.
لكن هذا الخطاب الممتلئ بالثقة بالنفس، تهاوى تدريجياً، بحيث بات دخول أي “شبح” لشركة خليجية إلى سوريا، إنجازاً يتطلب الكثير من “التطبيل والتزمير” في وسائل إعلام النظام. ويكفي أن نذكر الحملة الإعلامية التي أعقبت زيارة رأس النظام إلى الإمارات، الشهر الماضي، والتي بشّر بعدها، مسؤولون مقربون منه، ببشائر اقتصادية كبرى ستنعكس على سوريا، لم نر منها شيئاً حتى الآن. بطبيعة الحال، يتطلب الأمر المزيد من الصبر -قد يجيبك أحد المؤيدين-. في هذه الحالة، من حقنا أن نسأل هذا “المؤيد”.. لماذا لم تندفع أموال الروس -حلفاء النظام- للاستثمار في البلاد، على مدار السنوات الأربع الأخيرة، منذ أن هدأت معظم الجبهات، وانتهى أي خطر جدّي يمكن أن يهدد استمرارية النظام؟
قد يحدثنا البعض عن استثمارات كبيرة لروسيا في سوريا. لكن توصيف هذه الاستثمارات بـ “الكبيرة”، يبدو مجافياً للموضوعية. يكفي أن ننظر إلى الحالة الاقتصادية السورية الراهنة، والتي تفرض على مسؤول بحجم “رئيس دولة” أن يتسوّل شحنة قمح من دولة خليجية، كانت إلى وقت قريب، موضع “شتم” في إعلامه، لنستنتج أن روسيا لم تُقل الأسد من عثرته الاقتصادية، بعد أن أقالته من عثراته السياسية والعسكرية، سابقاً. ولا فعلت ذلك، أموال الصين، أو حتى إيران مثلاً.
وبهذا الصدد، قد يكون من المفيد، كي نفهم المشهد من كل زواياه، أن نستشهد بإحصائية لمركز الأبحاث الأميركي، “أتلانتيك كاونسل”، يقول فيها إن للروس نحو تريليون دولار، من “الأموال الساخنة” المخبأة في الخارج. وأن ربع هذا المبلغ على الأقل، يعود إلى شخصيات مقرّبة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بحيث يستطيع، هذا الأخير، التحكم بها. أي إن بوتين يستطيع أن يتحكم بثروات تصل إلى 250 مليار دولار. وهنا، يطرح السؤال نفسه: لماذا عكفت الدبلوماسية الروسية على توسل الاستثمار الغربي والخليجي في سوريا، على مدار السنتين الأخيرتين، وعقدت في سبيل ذلك مؤتمرات لإعادة اللاجئين، مقابل إعادة الإعمار، لإقناع الغرب بالمشاركة في هذه العملية، دون جدوى.. ما دامت الأموال الروسية، تكفي لإعمار سوريا، أو معظمها؟ لماذا لا تتجه هذه الأموال إلى سوريا، للمشاركة في هذه العملية؟ ولماذا تكتفي روسيا باقتطاع موانئ ومرافق حيوية، مقابل ديونها على الأسد، دون أن تقوم بأي مشاركة حقيقية يمكن أن تخلق فارقاً نوعياً في الوضع الاقتصادي السوري؟!
بهذا الصدد، قد يذكر لنا أحدهم، اسم الملياردير الروسي، غينادي تيموشينكو، بوصفه مثالاً على استثمارات الروس في سوريا. هذا المثال، هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فمن أصل 20 شخصاً، هم أثرى أثرياء روسيا، -عدّدهم تقرير نُشر مؤخراً من جانب “بلومبيرغ”- نجد أن تيموشينكو، هو الوحيد الذي كانت له استثمارات في سوريا. وهي استثمارات تعد متواضعة أيضاً، مقارنة بثروة الرجل. أي من أصل 20 ثرياً من النخبة الروسية، واحدٌ فقط، قرر الاستثمار في سوريا. كيف يمكن قراءة هذه الحقيقة؟ ببساطة، سوريا ليست جذّابة للمستثمرين الروس. وفي هذا السياق، من غير اللائق أن يذكر لنا أحدهم اسم، يفغيني بريغوجين، بوصفه نموذجاً عن دور نخبة الأثرياء الروس في سوريا. فالرجل لا يعد من نخبة الأثرياء، ولم يسبق أن أوردته “فوربس” أو “بلومبيرغ” ضمن قوائم الأثرياء الكبار. ناهيك عن أنه يمثّل، في نظر معظم المتخصصين بالشأن الروسي، واجهة مباشرة، للأعمال “القذرة” للكرملين، دون أن يتمتع بأي سمعة ذات قيمة، على صعيد عالم الأعمال الدولي.
حتى على صعيد الاستثمار في قطاعات الطاقة، بسوريا، والتي قِيل الكثير عن “رهان” روسي عليها. نجد أن الشركات الروسية التي تستثمر في سوريا، إما ناشئة حديثاً كـ “فيلادا”، أو من الحجم المتوسط كـ “ميركوري”، أو حتى غير معروفة كـ “كابيتال”. حتى شركة “سويوز نفط غاز”، انسحبت عام 2015 من استثمار التنقيب عن النفط والغاز في الجرف القاري لسوريا. فيما نجد أن الشركات العملاقة في قطاع الطاقة الروسي، مثل، غازبروم، وروسنفت، وترانسنفت، ولوك أويل، تغيب تماماً، أو بشكل نوعي، عن المشهد السوري.
قد يستغرب بعض القراء، نقاشنا المستطرد أعلاه. فالإجابة، موجزة وبسيطة، إنها “لعنة العقوبات” على النظام، التي تجعل سوريا غير جذّابة للمستثمرين حتى من الدول “الصديقة”. ومعهم كل الحق في ذلك. يكفي أن نذكر مثالاً حيّاً نعايشه اليوم. فالشركات الصينية تتريث في ملء فراغ الشركات الغربية المنسحبة من روسيا، من جراء العقوبات. ووفق تقارير لـ “سي إن إن”، و”بلومبيرغ”، فإن الصين تنأى بنفسها عن الاقتصاد الروسي المتضرر من جراء العقوبات، في حين يستفسر عملاء صينيون من مستشاري المخاطر، عن أفضل السبل للامتثال للعقوبات المفروضة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
المثال الصيني الحيّ اليوم، يكفي لنفي نظرية لطالما رددها أنصار النظام، بوحي من رأسه، مفادها أن سوريا ستعُمّر بأموال “الحلفاء”. فـ “لعنة العقوبات”، لم تتح قدوم تلك الأموال من “الحلفاء”، ومن المستبعد أن تتيح في وقت قريب، قدومها من “الأصدقاء” الجدد، في الإمارات أو عُمان أو سواها. فـ “سوريا الأسد” ما تزال غير جذّابة للاستثمار. ولا ينفي هذه الحقيقة استثمارات محدودة من الحجم الصغير، ما دامت لا تعني تغيّراً نوعياً في روافد الاقتصاد السوري المتهاوي. فهذا النوع من الاستثمارات، قد يندرج في سياق جس النبض، أو “المجاملة” لغايات سياسية، لا اقتصادية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا