محمد قواص
يطيب لألكسندر دوغين أن يوصف بأنه عقل فلاديمير بوتين. تشكك بعض مؤسسات الفكر الروسية والدولية بهذا الأمر، ومع ذلك فإن من حقّ المفكر والفيلسوف الروسي أن يقارن نظرياته بالسلوك الجيوستراتيجي للرئيس الروسي.
تعود شهرة دوغين إلى كتاب “أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبولتيكي” الصادر في تسعينات القرن الماضي، قبل تولي بوتين سدّة الحكم في روسيا. يقوم الكتاب، كما جلّ كتبه التي تجاوز عددها الـ 60، على فكرة إحياء مجد روسيا من خلال “إحياء الامبراطورية الأوراسية” التي تشرّع تمدداً وهيمنة في مجال البلد الحيوي في أوروبا وآسيا من دون أي اكتراث باستقلال الدول المعنية التي كانت يوماً خاضعة لقيصرية أو سوفياتية غابرتين ورأيها وخياراتها.
دوغين ابن ضابط في الاستخبارات السوفياتية KGB، والدته كانت طبيبة ويصف نفسه بأنه كان “سوفياتياً بسيطاً”. لم يجد في الزمن السوفياتي بيئة هوياتية، فعارض ذلك الزمن إلى حدّ الانشقاق كما يقول. لكنه في عهد بوريس يلتسين عاد وفضّل السوفياتية على الليبرالية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. يقول: “فهمت أن وطني هو التقاليد أو العالم الروحي، عالم الأديان”. هو أرثوذكسي متديّن يسعى الى روسيا قومية تحيط بالكنيسة، وهو مبشّر بـ”النظرية السياسية الرابعة” المختلفة عن الشيوعية والليبرالية والفاشية.
في أفكاره كثير مما راج في أوروبا في القرن الماضي من تلك التي قام عليها نظام هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا وفرانكو في إسبانيا. وهي أفكار تروج لهيمنة الحضارات والأعراق، وتمقت التعددية الثقافية واختلاطها، وتقوم كلها على أساس الكنيسة والقيم المحافظة. يشكو دوغين من أن “ورثة الاتحاد السوفياتي والنزعة المادية متغلغلون في مناحي الحياة في روسيا وأن النزعة الغربية في الداخل تعرقل سعي روسيا ليكون لها تاريخها الخاص”.
في روسيا معارضون لدوغين. يعتبرونه شعبوياً قومياً متطرفاً. المدارس الأكاديمية الغربية التي تتناول أعماله تضعه، من جهتها، في خانة “الفاشيين الجدد”. حين قام بوتين بعمليته العسكرية ضد القرم عام 2014، قال دوغين في مقابلة إن الحلّ مع الأوكرانيين هو “اقتل، اقتل، اقتل، يجب ألا يكون هناك أي نقاش، كأستاذ أقول ذلك”. أثارت المقابلة تململاً في بعض أوساط الإنتلجنسيا الروسية. وجمعت عريضة تطالب بإقالة دوغين من رئاسة قسم علم الاجتماع في جامعة موسكو أكثر من 10 آلاف توقيع.
يفتخر دوغين بأنه طالبَ بضمّ القرم وهذا ما حصل. ويفتخر بأنه طالب بقيام ما سمّاه “روسيا الجديدة” أي منطقة الدونباس وهذا ما يحصل. وهو يطالب بتقسيم أوكرانيا ما بين غرب وشرق على النحو الذي تسعى الحملة الروسية الى تحقيقه على ما يبدو.
روسيا التي يريدها دوغين مستوحاة من غابر التاريخ وهي تخلط ما بين قيصرية كنسية وسوفياتية بلباس قومي متشدد. يبشّر بما ينفي الحداثة وما أدخلته الليبرالية منذ الثورة الفرنسية من قيم العدالة والمساواة وحقوق الانسان والديموقراطية والتناوب على السلطة. هو ضد الحداثة إلى درجة قولته الشهيرة: “الله ضد الانترنت”.
يرفض دوغين الليبرالية التي تعامل الإنسان بصفته فرداً في مفهومها لحقوق الإنسان، فيما لا يمكن، وفق منطقه، أن يكون الفرد في روسيا منفصلاً عن بيئته الاجتماعية.
يذهب أكثر من ذلك. يعتبر الدكتاتورية والاستبداد والإرهاب وجهات نظر لا مكان لمفرداتها في علم الجيوبولتيكا. وفي معرض تبريره لحماية روسيا النظام في سوريا يرى أن الصراع هناك يجري “بين دعاة سوريا ذات سيادة برئاسة بشار الأسد وبين قوى معارضة مدعومة من الغرب. وليست المشكلة هنا في من هو محقّ أو غير محقّ، وإنما المشكلة هنا الغرب. فأولئك المدعومون من الغرب علينا أن نواجههم”.
معركة دوغين هي مع الغرب حتى لو كان هذا الغرب محقّاً أو يدافع عن قضية عادلة. والرجل عدو للديموقراطية، تماماً كما النازية التي كانت تعتبر الديموقراطية انحطاطاً. يحاجج فرانسيس فوكوياما الذي يرى أن الديموقراطية تحمي الأقلية من الأكثرية، فيردّ دوغين بأن “الديموقراطية إذا كانت كذلك، فهي اليوم تدافع عن مصالح الأقلية ضد الأكثرية”. ويضيف أن “الأقليةّ يحقّ لها أن تبقى لكن لا يحقّ لها أن تسيطر”، وفي هذا ما يناقض بوقاحة الحملة الروسية في سوريا.
عمل دوغين في دوائر الكرملين وبناء على ذلك، بحسب قوله، “اكتسبت عملية تبادل الأفكار طابعاً منظّماً”. لكن لم يكن دوغين في الدائرة الضيقة لبوتين، بل كان مستشاراً مرات عدة لرئاسة البرلمان الروسي. يروي دوغين شامتاً أن “هناك من هم أقرب مني إلى بوتين لكن نفوذهم صفر. أنا أبعد منهم من بوتين ولكن تأثيري ونفوذي أكبر”. وذهب في نرجسيته إلى أنه صانع أفكار يطبقها بوتين، واعتبر في هذا الصدد أن في روسيا اليوم “هناك بوتين وهناك أنا وهناك الشعب”.
وربما بسبب ما هو مثير للجدل في شخصية دوغين، لا يوجد في خطب بوتين وتصريحاته أي استعارة من أفكاره. والأرجح أن دوغين هو أداة من أدوات السلطة وليس ملهمها. في المقابل كان إيفان إيلين المرجع النظري الأهم للرئيس الروسي، الذي استشهد بمقولاته مراراً في خطابه السنوي أمام الجمعية الفيدرالية وكذلك في خطابه عن حالة الأمة.
والمفكر الروسي إيفان إيلين هو مُنظّر الفاشية الروسية. توفي قبل أكثر من 60 سنة، وتم إحياء أفكاره في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأعيد نشر كتبه بعد عام 1991. ولرد الاعتبار له، أعاد بوتين رفاته من سويسرا، واستعاد أرشيفه من ولاية ميشيغن الأميركية، كما زار ضريحه في موسكو ووضع الزهور عليه.
اهتمت وسائل الإعلام الدولية بدوغين واهتم هو بأن يروّج لنظرياته من خلالها. حين يتحدث إلى إعلام عربي قريب من الإسلام السياسي يفرط في التحدث عن الإسلام وعن الإسلاموية، وحين يتحدث إلى إعلام معادٍ للإسلام السياسي يهاجم “الدور الأميركي الخبيث في الربيع العربي”.
دوغين معجب بالدولة الدينية في إيران لأنه يراها ضد الليبرالية، ويأخذ على الإسلام السنّي أنه “كان حليفاً للغرب في العقود الماضية”. يتمسك دوغين بأفكاره القومية الشعبوية التي يعجب بها أنصار دونالد ترامب في أميركا، ولطالما جرت مقارنة بين أفكاره ونظريات ستيف بانون منظّر الترامبية. يغبط دوغين أنه بات لسان التيارات الشعبوية في العالم، لكنه يعلن بتكلّف التجار إعجابه بأنطونيو غرامشي واليسار. فلا عجب من تطوّع بعض هذا اليسار في العالم للدفاع عن قيم دوغين وبوتين، وهي نقيض التقدم والإنسانوية الأممية التي يحمل هذا اليسار بيارقها.
المصدر: النهار العربي