سمير التقي
في الأيام الأخيرة من شهر نيسان (أبريل)، بث التلفزيون الروسي فيلماً وثائقياً لمدة 150 دقيقة عن الزعيم الروسي فلاديمير #بوتين في الذكرى السنوية لتنصيبه. كانت رسالة الفيلم ساطعة كالشمس: فخلال 15 عاماً، أنقذ بوتين #روسيا من قوى الدمار، سواء الداخلية، الشيشان والرأسماليين الجشعين، أم النفوذ الغربي الخبيث. فبوتين هو القوة الوحيدة التي تضمن وحدة البلاد.
ووفقاً للفيلم، فإن بوتين ليس مجرد منقذ سياسي، فقد كانت قيادته مهمة أيضاً لإحياء روسيا وشعبها روحياً. لكن أهم ما يلفت في هذا الفيلم أنه خصص ست دقائق لسرد أعمال الفيلسوف الروسي “الأبيض” إيفان إيلين، وإعادة رفاته إلى روسيا.
كان الفيلم بداية حملة لرفع إيلين، هذا الفيلسوف الشعبوي، إلى مستوى أحد القادة الروحيين لنهضة روسيا الحالية. وبدأ الترويج لأعماله في دوائر الكرملين، وظهر اهتمام بوتين به عام 2006، عندما بدأ إبراز الفيلسوف في خطاباته. بل وصل الأمر عام 2014 الى أن كلف بوتين حكامه الإقليميين بقراءة كتب إيلين خلال العطلة الشتوية. وعلى طرفي الطيف السياسي انطلقت جوقة الترويج، فأشار إليه أعضاء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية على أنه “فيلسوف ديني بشّر عن التجديد الروحي والولادة الجديدة لروسيا”. وقال عنه زعيم الحزب الشيوعي إنه شخص “قدم مساهمة كبيرة جداً في تطوير أيديولوجية الدولة الروسية الوطنية”.
إذاً، من هو السيد إيلين؟ ولد إيفان ألكسندروفيتش إيلين عام 1883. في شبابه كان يتعاطف مع وجهات الراديكالية الفوضوية، لكنه انتقل في نهاية المطاف ليصبح ربيباً لأحد أنشط الليبراليين الروس قبل الثورة، بافل نوفغورودتسيف، إلى أن رحل من روسيا عام 1922 كعدو للدولة البلشفية، مع 160 فيلسوفاً ومؤرخاً واقتصادياً أصبحوا معروفين باسم “الروس البيض”.
وعلى مدى السنوات العشر التي تلت نفيه، عمل إيلين في ألمانيا، أصبح منخرطاً بعمق في مجتمع المهاجرين المثقفين الروس. وكان محاضراً في المعهد العلمي الروسي في برلين. وكان مثل العديد من زملائه الروس البيض، مهتماً بفكرة الأوراسية، التي نظرت إلى الجغرافيا في محاولة لخلق بديل للبلشفية.
لكن التطور الجذري لإيلين جرى في الثلاثينات، عندما بدأ الثناء على هتلر وموسوليني. ففي مقالته عام 1933 “الاشتراكية القومية” تحدث عن “الروح الجديدة”، التي يبعثانها، ورحب بالفاشية كرد فعل مشروع على البلشفية، ودعم تطلعات هتلر اليمينية، وهاجم اليهود الألمان بسبب “تعاطفهم” مع الشيوعية. لكنه سرعان ما غادر ألمانيا إلى سويسرا بعد بضع سنوات.
يجادل إيلين بأن الدولة الروسية – المتمثلة بالإمبراطورية الروسية القديمة وسليلتها الجغرافية، الاتحاد السوفياتي – هي كيان جغرافي تاريخي مقدس لاهوتي وفريد، مرتبط بالوحدة الروحية للدول الأوروبية الآسيوية. فبالنسبة إليه، كانت اشتراكية هتلر القومية، وفاشية موسوليني، والحركة البيضاء الروسية متشابهة جداً و”قريبة روحياً”. وقد وصفها بأنها تشترك في “عدو مشترك وموحد هو الليبرالية والشيوعية والمجتمع المدني”، وأيضاً بـ”الوطنية، والشعور بالشرف، والخدمة التطوعية – التضحية، والانجذاب إلى الانضباط تحت قيادة دكتاتور”، كما “تشترك في منهج التجديد الروحي وإحياء بلدها من جديد، والبحث عن عدالة اجتماعية جديدة”.
إذاً، في حينه، كان إيلين معارضاً لكل من الشيوعية السوفياتية، والديموقراطية الغربية. وتصور مساراً “خاصاً” لروسيا، يقوم على تعزيز الكنيسة الأرثوذكسية والقيم التقليدية التي من شأنها أن تحقق تجديداً روحياً للشعب الروسي، والذي كان يعتقد أنه أفسد تحت تأثير القيم السياسية والاجتماعية الغربية.
وحتى بعد الحرب العالمية الثانية، كتب إيلين عن الأخطاء التي ارتكبها هتلر، ولكن ليس عن عيوب أيديولوجيته. بل اعترف بالنازية باعتبارها فكرة وطنية عادلة، معرباً عن أمله أن يتجنب فرانكو في إسبانيا وسالازار في البرتغال الأخطاء التي ارتكبها هتلر.
لماذا يحب بوتين إيلين؟ لماذا استعاد رفاته من ألمانيا باحتفال ديني دولتي مهيب واستعاد تراثه من جامعة نيوجيرسي في الولايات المتحدة؟ ورغم كونه مجرد فيلسوف شعبوي ركيك صاخب، فقد توجه “على رأس القوى الشعبوية والفاشية والنازية الجديدة في أوروبا”.
في مقالة عام 1950، تنبأ إيلين بسقوط الاتحاد السوفياتي وأعطى تعليماته حول كيفية إنقاذ روسيا من شرور العالم الغربي. ويكفي الآن أن ننظر إلى الكليشيهات الدعائية للإعلام الروسي الرسمي. بسهولة إنها مجرد تكرار للنقاط الاثنتي عشرة التي أوردها إيلين كخريطة طريق لما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي تنبأ به.
فقد قال إنه، في حال سقوط روسيا، فإن ألمانيا “ستبتلع أوكرانيا ودول البلطيق، وستقضي إنكلترا على القوقاز وآسيا الوسطى، وستستهدف اليابان شواطئ الشرق الأقصى”. وبمجرد أن يضم الغرب، وبخاصة ألمانيا، أوكرانيا، فإنه سيستخدم الأراضي لتقويض قوة الدولة الروسية.
ومثل العديد من المفكرين المحافظين الروس الآخرين، لم يكن إيلين يعتقد أن هناك شيئاً اسمه أمة أوكرانية وأمة بولندية ولا كان لهما الحق بالتالي في تشكيل دولة. وبالنسبة إلى روسيا، فإن خسارة أوكرانيا ستكون قاتلة وتؤدي إلى مزيد من تقطيع أوصال الأمة وتفككها.
ثم يبادر إيلين إلى طرح حجج استباقية مضادة لليبرالية الغربية، إذ يقول بأنه خلال هذه العملية (تفكيك روسيا)، سيستخدم الغرب أفكار “التحول الديموقراطي” و”الفيدرالية” و”انتصار الحرية” و”المجتمع المدني” ضدها لغرض واحد فقط، هو جعلها ضعيفة، بحيث يمكن “اختطافها عمياء”.
ويجادل إيلين في أن “الديموقراطية مستحيلة في بلد ضخم ذي تنوع جغرافي وعرقي وثقافي مثل روسيا”، وفي أن تكوين السلطة الوحيد الممكن هو “دكتاتورية وطنية روسية”. ويعتبر أنها “لن تكون دكتاتورية شمولية، بل دكتاتورية”. وستكون “دولة تعلم شعبها “الحرية”، ولكنها تحد منها، بحيث لا تواجه روسيا الفوضى، بل النظام”. وذلك “استناداً إلى “سلطة الوطنية”، ومع وجود زعيم قوي في القمة، فإن مثل هذا النظام من شأنه أن يحمي روسيا من الثورات والفوضى”.
وكما فعل إيلين يكرر بوتين تعبير “كواليس العالم”، الذي استخدمه لوصف مؤامرة القادة الغربيين ضد روسيا. بما يعني ضمناً أن قادة الغرب المنتخبين هم مجرد دمى في أيدي حكام العالم الحقيقيين: رجال الأعمال، والعملاء الماسونيين، وغالباً المثليين وقوى المجتمع المدني.
هكذا أفادتني القراءة عن إيلين، ليس فقط في فهم بوتين، وفهم اليمين الأوروبي، بل وحزب “البعث العربي الاشتراكي” الخ…فتهانينا سيدي الكريم.
المصدر: “النهار”