ساطع نور الدين
لعل نسبة الـ51 % التي قِيس بها جمهور ثورة أو إنتفاضة 17 تشرين 2019 كانت متفائلة بعض الشيء، مثلها مثل نسبة 49 % التي قُدّر بها جمهور السلطة وأحزابها وقواها. لكن الحسم بات قريباً، ومعه حساب شريحة المقاطعين للانتخابات النيابية المرتقبة منتصف الشهر المقبل، التي يرجح أن تكون الاكبر في التاريخ الانتخابي اللبناني.
المبالغة كانت متبادلة، ولا تزال. القوى التي تدعي وراثة الانتفاضة كانت تتحدث في البداية عن غالبية ساحقة، وموجة جارفة، تقارب ثلثي اللبنانيين، وتزعم أن المعسكر الآخر يقتصر على الثلث الباقي الذي تقوده رموز خائفة، محاصرة، لا تستطيع مغادرة منازلها، والظهور في مكان عام، وتنتظر تحديد موعد الرحيل عن السلطة، دفعة واحدة، إستجابة لشعار “كلن يعني كلن”. لكن هذه القوى والاحزاب الممثلة للسلطة والمتمثلة بها، كان لها رأي آخر: “الثوار المزعومون” هم شراذم، شذاذ آفاق، أقلية ضئيلة تضم مراهقين سياسيين، يتلاعب بهم مأجورون للسفارات..
المفارقة ان المعسكرين المتصارعين، تواضعا معا، وتراجعا سويا عن تقديراتهما الاولية، التي بدلتها التجربة العملية طوال الاشهر الماضية، إلى أن حدد موعد الانتخابات ودخل الجميع، مكرهين ومحرجين، في عملية قياس يومي للاصوات والتحالفات والنتائج النهائية، التي لن تهز عروش السلطة، ولن تنزل معارضيها الى الشارع. وهو أول إنجاز سجل حتى الآن: ثمة عملية إنتخابية مقررة، في موعد محدد، تستبدل، كما هي العادة في مختلف دول العالم، اللجوء الى الشارع أو ما هو أسوأ.
وقد يكون هذا الانجاز بمثابة معجزة. فالاحتكام الى صناديق الاقتراع، حسب المعايير اللبنانية السابقة، وحسب المعطيات الخارجية الخطرة، هو إعجاز لبناني فعلا، خصوصا إذا ما جرت الانتخابات من دون عنف ومن دون دم، حسبما هو مرجح..في الوقت الذي يقف فيه لبنان على حافة الافلاس، وتشتعل في محيطه حروب اقليمية ودولية كبرى، تصل بعض شظاياها ونتائجها الى الداخل اللبناني.
حتى الآن يسير كل شيء على ما يرام. الوضع ليس نموذجياً ولا مثالياً، لكن، مرة أخرى، ان يتم التفاهم بين نصف اللبنانيين على اللجوء الى صناديق الاقتراع، يكفي وحده للاطمئنان الى أن لبنان لم يمت، ولن يموت.. طالما أنه إلتزم بهذا المسار السياسي، السلمي، وإحترم ضمناً قواعد اللعبة الانتخابية، مهما كانت الاعتراضات والملاحظات على القانون الانتخابي وما يبيحه من فساد إنتخابي أيضاً.
تلك هي السياسة على الطريقة اللبنانية التقليدية، الفريدة، وكل ما يصاحبها من مقارنات وإسقاطات ليس سوى أضغاث أحلام، ماضية، طالما أن معالم تشكل المعسكرين قد رسمت، بإنجاز الخطوة الاخيرة قبل فتح صناديق الاقتراع، وهي تشكيل اللوائح النهائية التي ستتنافس على أصوات نصف اللبنانيين تقريباً، فيما النصف الاخر يشهد الآن على حيوية قوى السلطة وعصبيتها وقدرتها على حماية تحالفاتها، كما يشهد على تشرذم قوى المعارضة وعجزها حتى عن إحياء الروابط الاولى التي أفرزتها انتفاضة تشرين 2019، بين مختلف المحافظات والدوائر الانتخابية. وهي بالمناسبة واحدة من أسوأ مظاهر المعركة الانتخابية الراهنة، حيث لا تجد لوائح قوى التغيير لغة مشتركة في ما بينها، ولا تشعر بإلحاح الحاجة للقاء والتعاون والتفاعل العابر للحدود بين الطوائف والمناطق اللبنانية.. بما يرسخ شعبية المعارضين جميعاً، ويسهم في تصور حجم ووزن الكتلة البرلمانية المعارضة التي ستفزرها صناديق الاقتراع الشهر المقبل.
لم يفت الاوان على مثل هذه اللقاءات، حتى ولو كانت استعراضية، أو مجرد تقليد لسلوك قوى السلطة التي جمعت زعيمين مارونيين من منطقتين مختلفتين، على مائدة إفطار شيعية مغلقة، غروب يوم الجمعة الماضي، لحماية حلف مقدس، لا يواجه تهديداً إنتخابيا جدياً..لكنه يستدعي التعامل معه بالمقدار نفسه من الانتهازية السياسية، التي تقتضيها ظروف الانتخابات وشروطها الراهنة.
السياسة على الطريقة اللبنانية، هي هذه المرة إختزال حيّ لصراع مضخّم بين سلطة ما زالت تملك نصف اللبنانيين، وبين معارضين أعيتهم الحيلة لكي ينتظموا في ما بينهم حتى يحصلوا على تفويض النصف الآخر من اللبنانيين.. وهي معجزة لن تكتمل في الانتخابات المقبلة، التي تتطلب الكثير من التواضع في قراءة نسب الاقبال على مراكز الاقتراع، وفي تحليل نتائج فرز أصوات السلطة وهمسات المعارضة.
المصدر: المدن