د- عبد الله تركماني
لايخفى على كل ذي بصر وبصيرة أنّ العجز العربي الذي بدا واضحاً في السنوات الأخيرة يعود إلى أسباب عديدة تغور في أعماق الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية العربية، ويبدو أنّ من أهم هذه الأسباب العلاقة الخاطئة بين المستويين الثقافي والسياسي، أو القطيعة العميقة بين أصحاب الرأي وأصحاب القرار.
ويعكس هذا الوضع أزمة خطيرة في الحياة العامة، فهو لا يشير إلى انعدام التواصل بين النخب العربية المختلفة التي يتوقف على تفاهمها تحقيق الأهداف الرئيسية للمجتمعات وتنوير الرأي العام فحسب، ولكنه يطرح أسئلة كثيرة حول أسلوب بناء السياسات العربية ذاتها. فهو يعكس إلى أيِّ حدٍّ يؤدي عدم التواصل بين النخب الثقافية والنخب السياسية إلى تفريغ السياسة ذاتها من محتواها، مما يعني أنها سياسات تقتصر على التلمس الذاتي الإرادوي للأوضاع والمشاكل والحلول ولا تقوم على أسس سليمة من التفكير الموضوعي، وتفتقر بالتالي للرؤية البعيدة والشاملة.
ويبدو تباعد الثقافي والسياسي أمر واقع، بسبب أنّ المثقف، النقدي خاصة، يحمل قيم الحق والخير والعدل ويتطلع إلى المستقبل، في حين أنّ السياسي سكوني يعيش الحدث الآني بمعزل عن سياقاته وآفاقه المستقبلية. وبالرغم من هذا الأمر الواقع، كلما انتهى مشروع عربي إلى فشل، تجد كثيراً من أصابع الاتهام تشير إلى المثقفين لتلقي على عاتقهم وزر الفشل وتجعل منهم السبب الأساس للخيبات والانتكاسات وضياع الأحلام، وكأنهم القائمون الفعليون على أمور مجتمعاتهم وأصحاب الحل والربط فيها.
إنّ السياسة التي ندعو إلى ممارستها ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار الاختلالات المتولدة عن المرحلة الانتقالية التي نعيشها، والناجمة عن تخلفنا الثقافي في المجال السياسي بالضبط، والمتمثلة في ترويج فكرة خاطئة حولها بتقديمها كمجال للصراعات الذاتية واللاعقلانية وغير المجدية وكمجال للأحقاد والكراهية والاتهامات الدنيئة وإسقاط العقد النفسية لأصحابها على من يتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام في مراحل معينة.
إنّ فلسفة الأنوار هي التي وفرت الأساس النظري للدولة الديمقراطية الحديثة التي عرفها الغرب منذ القرن الثامن عشر، بحيث يمكننا القول ” إنّ الأفكار والمقولات النظرية عندما تتحول إلى أدوات للتعبئة والتغيير تغدو فاعلة في صياغة الوقائع وتوجيه الرهان السياسي “، وبذلك يكون رجال الفكر فاعلين مؤثرين في الشأن السياسي.
وفي العالم العربي، عندما يقف البعض عند عجز السياسات العربية وانحدارها وإخفاقها وانحطاطها، لا نملك إلا التأكيد على أولوية وأسبقية السياسة التي تعني الديمقراطية والمواطنة والإرادة العامة. فالسياسة التي ندعو إليها كتلة من الأعمال والأفعال، تتعامل مع الحقل السياسي كمجال للمبادرة والخلق والإبداع وكفضاء لصياغة تمفصلات جديدة مع الواقع، فلا يمكن اختزالها في قبول الموجود كأمر واقع، إنها سياسة إرادة مستمرة للمزيد من العدالة والإنصاف لصالح المجتمع. ويقتضي ذلك ضرورة إعادة صياغة عقد جديد بين السلطات وبنى مجتمعاتها المدنية بكل تمفصلاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وخاصة إعادة تحديد طبيعة الحقل الاجتماعي واستقلاليته وحركيته وقواعده.
ويأخذ المثقفون، الحاملون لقضايا الشأن العام، على النخب الحاكمة ترهلها وفسادها وضعف إنجازاتها في جميع الميادين وتجاهلها للمصالح والحقوق الوطنية وتعلقها المتزايد بمصالحها الخاصة الفئوية وعجزها عن بناء استراتيجيات وطنية قادرة على الوقوف في وجه التحديات العاتية التي لا تكف المجتمعات العربية عن مواجهتها. وهم يعتقدون أنّ استمرار الأوضاع كما هي ورفض التغيير وقبول مشاركة الشعب ونخبه المختلفة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية سوف يقود حتماً إلى مضاعفة آثار الكارثة الوطنية، وأنّ شيئاً لا يبرر أن تُترك أمور اتخاذ القرار وبلورة السياسات العامة لنخب لم تحقق نجاحاً ملحوظاً في قيادة المسيرة الوطنية وفي إدارة الموارد البشرية والمادية. وهم يعتقدون أنّ ضمان الاستقرار لا يتحقق بكبت الحريات وبالبطش وتأبيد القوانين الاستثنائية وإنما بالإصلاح السريع والجدي الذي يعطي للشعوب فرصة تحسين أوضاعها ومشاركتها في حمل المسؤولية ويطمئنها على نفسها وعلى مستقبلها ويعزز ثقتها بقياداتها، أما الاستمرار على النهج القديم الذي أنتج الأوضاع الكارثية الحالية التي جعلت من العالم العربي آخر منطقة من حيث النمو في العالم أجمع فلن يقود إلا إلى موجات جديدة من ربيع الثورات، لتحقيق مطالب الشعوب في الحرية والكرامة.
إنّ السياسة حين تجتمع مع الثقافة يكون للقيادة معنى، وإذا حدث التباعد فيما بينهما تجدنا نقترب من الكارثة. فالسياسة بدون ثقافة لا تنتج أثراً فاعلاً، ولا تحلُّ الأمور الصعبة، وحين يضخُّ المجتمع إلى الساحة السياسية أفراداً غير مثقفين، جاؤوا بالصدفة، أو بالواسطة، أو كأهل ولاء، يحدث التضاد. والحل يكون في الضوابط التي يضعها المجتمع لفضائه العام: الاعتراف بالتعددية والحريات والقانون العام. وما لم نخرج من المعادلة التناقضية بين الثقافي والسياسي ونصل إلى أرضية تسمح بالتفاهم بين أهل الرأي وأهل السلطة للتعاون على بناء المجتمعات من الداخل، أي في الوعي والإرادة والضمير والوجدان، فلن نستطيع أن نخرج بشيء وسنجد أنفسنا ننحدر أكثر فأكثر في سلم الحضارة والمدنية.