حمادة إمام
عندما قامت الحرب العالمية الأولى كانت المصالح البريطانية العثمانية متعارضة وكان هدف الطرفين هو الاستحواذ على المنطقة العربية وليس الجزيرة العربية فقط. وكانت بريطانيا في موقف أضعف من تركيا التي كانت تسيطر على الشام والعراق وتهدد المستعمرة البريطانية في الهند عن طريق البحر الأحمر وخليج فارس لكن كل هذه الأخطار لم تكن بنفس درجة خطورة وخوف بريطانيا من إعلان الخليفة العثماني إعلان الجهاد للشعوب الإسلامية والتي كانت تستعمرها بريطانيا وخاصة أن تركيا لم تكن وحدها بل كانت ألمانيا حليفتها. وقتها اهتدى تفكير الساسة البريطانيين إلى ضرورة صناعة شخصية تصنع نوعاً من التوازن في حالة إقدام الخليفة العثماني على إعلان الجهاد ضد الإنجليز وذلك بهدف هزيمة تركيا من الداخل عن طريق رعاياها لإجبارها على الاحتفاظ بجيوشها داخل الدول التابعة لها. وكانت الشخصية التي وضعتها بريطانيا نصب عينيها للقيام بهذا الدور هي الشريف حسين، واختياره لم يكن من فراغ من نسب الرسول ويشرف على الأماكن المقدسة، فإذا نادى الخليفة بإعلان الجهاد فإن هذا الإعلان سيكون عديم الجدوى إذا لم يؤيده الشريف حسين. وكان المناخ السياسي مواتياً لتحريض الشريف حسين لإعلان ثورته لدرجة أن الشريف حسين لم يكن بحاجة لنصيحة إنجلترا للقيام بهذا الدور) فحدث في عام “1908” أن نجحت جمعية الاتحاد والترقي في تركيا في الوصول إلى الحكم ومع وصولهم للحكم ظهرت على السطح فكرة الطورانية وهي تعني إحياء أمجاد الأتراك وربط الأتراك المحدثين بتراثهم الحضاري القديم وتخليص التركي من كل رابطة تصله بالأدب الفارسي أو العربي وكانت قناعتهم بأن الأمة التركية كانت وستظل الأمة الحاكمة في السلطنة العثمانية وأن الترك يتمتعون بحقوق وامتيازات سامية بصفتهم فاتحين للدول الأخرى. لذا فإن الدستور الذي يجب أن يسود هو الدستور التركي، ومن هنا ظهرت معهم فكرة تتريك المستعمرات العثمانية، الأمر الذي يعني استعمال اللغة التركية كلغة رسمية في كل المستعمرات واستعمال الدستور التركي. وبدأ تطبيق هذه المفاهيم على الشكاوي التي كانت تقدم فأصبح لزاما على الجميع كتابة الشكوى باللغة التركية. وكانت أخطر الخطوات التي أقدمت عليها جمعية الاتحاد والترقي هي ترجمة القرآن إلى اللغة التركية عام “1913”، وأصبح سلوك الأتراك يتصادم مع الطبيعة العربية فأثناء إجراءات الانتخابات البرلمانية في المستعمرات التابعة لتركيا ينص الدستور التركي في المادة “72” منه على أنه من الواجب على الناخبين أن ينتخبوا المبعوثين من أهالي دائرة الولاية التي هم منها إلا أن الاتحاديين عمدوا إلى ترشيح المبعوثين من الترك في مختلف الولايات العربية وفاز فيها الأتراك الممثلون للعرب بـ”15″ مقعدا ليمثلوا الشعب العربي.. وبذلك نجحت سياسة جمعية الاتحاد والترقي في ربط الولايات العثمانية التي تتمتع بقدر من الاستقلال مثل مكة والحجاز بعاصمة الدولة العثمانية. وقتها أحس الشريف حسين بالخطر خاصة عندما عين وهيب باشا والياً على الحجاز وتم تفويضه بالقيام بكل السلطات بموجب ذلك والاستعداد لمد خطوط السكة الحديد لربط الشام بالمدينة بمكة. أصبحت الحجاز كلها في سلطة وهيب باشا واختفى وتضاءل دور الشريف حسين.
حدث هذا في الوقت الذي كانت بشائر الحرب العالمية تلوح في الأفق وظهرت تيارات سياسية تنادي بضرورة الثورة على الدولة العثمانية والارتباط بدولة عظمى وظهر تيار آخر ينادي بتشكيل جبهة إسلامية للوقوف ضد الدول الأوروبية وانتصر الرأي الأول وساعده في ذلك وجود حالة من السخط والغضب لدى العرب بسبب ممارسات وزير الحربية العثماني جمال باشا والذي أعدم الكثيرين من القوميين العربي في سوريا وسببت تلك الممارسات حالة من البركان، وأصبح البحث عن زعيم يتولى قيادة الثورة وعن مصدر خارجي للمساعدة هدف كل القوميين العرب، واختير للقيام بهذا الدور الشريف حسين نظراً لبعده عن مركز الثقل العثماني ونسبه للرسول “صلى الله عليه وسلم” ووجوده في مكان يسمح له بالقيام بالثورة ومع نشوب الحرب العالمية الأولى كان على العرب والشريف حسين اختيار حل من حلين إما الثورة على الأتراك والانحياز إلى جانب الحلفاء أو التزام الحياد وضياع لغتهم ودينهم. هذه الحيرة التي أصابت الوطن العربي كانت موضع رصد من قبل جهاز الاستخبارات البريطانية والذي كان يرصد هذه الحيرة خوفاً من وصول الألمان إلى المنطقة لعمل خط سكة حديد، وقام بتقريب وجهات النظر ضابط تركي اسمه الفاروقي كان يعمل لحساب المخابرات البريطانية، نقل رسالة إلى بريطانيا تؤكد على أن هناك مجموعة من الضباط يلتقون وسرا بالشريف حسين من أجل حثه على القيام بثورته ضد الخلافة العثمانية. وعلى الفور أرسلت بريطانيا برسالة إلى الشريف حسين عن طريق تاجر قطن يمني اسمه علي أصغر تستعلم فيها عن موقف الشريف حسين في حالة دخول تركيا الحرب ضد بريطانيا، ولم يرد الشريف حسين وظل متردداً في الرد خوفا من أن يقال أن رجلا من أهل الرسول تحالف مع الكفرة ولكن حدث أمر هام عجل بإعلان ثورته، وهو تصميم تركيا على تطبيق نظام الولايات ود خطوط السكة الحديدية وتهميش دوره بوضع كل السلطات في يد وهيب باشا، ورفض الاتحاد والترقي العدول عن فكرتهم هذه. كل ذلك زاد من حماسه لإعلان ثورته وكانت الحاجة لدعم خارجي ومساعدة هي شاغله إلا أن أعين أجهزة الاستخبارات البريطانية كانت في انتظاره، فأرسلت إليه العديد من الشخصيات العربية تحرضه على القيام بثورته وأرسلت إليه شخصيات ذات شعبية وجماهيرية مثل فوزي البكري ويوسف حيدر من سوريا، وأعلن الأمير سعود ومبارك الصباح والإداريون تأييده في حالة قيامه بثورة، وعلق الشريف حسين إعلانه الثورة مقابل قبول بريطانيا شروطه والتي وضعت في اتفاقية دمشق وكان أهم مطلب فيها هو استقلال الدول العربية ومنحه لقب الخليفة وقد وافقت بريطانيا على شروط الشريف حسين، وبموجب توقيع الاتفاقية أعلن الشريف حسين ثورته وثارت الشعوب ضد الخلافة العثمانية وبذلك تحقق الهدف البريطاني في إبقاء العديد من القوات التركية في أماكنها لقمع ثورات شعوبها، واستغلالا للموقف أرسلت بريطانيا إلى مبارك الصباح حاكم الكويت الكولونيل دلامين في 3 نوفمبر 1914 رسالة قال فيها: “قد أمرتني الحكومة البريطانية أن أبلغ سعادتكم الشكر لولائكم وعرضكم المساعدة وأطلب الآن أن تهاجموا أم القصير وصفوان ويوبيان خان وأن تحتلوها وعليكم التعاون مع الشيخ خزعل خان والأمير عبد العزيز وغيرهما من المشايخ لتحرروا البصرة”. وبمجرد وصول الرسالة قام مبارك الصباح بتجهيز الكويت كقاعدة لتموين القوات وساعد الجنرال أرثر باريت في الزحف على البصرة وكان دور عبد العزيز آل سعود هو منع الإمدادات من الوصول إلى الأتراك عبر الخليج والعمل على تحييد آل الرشيد الموالين في الجزيرة العربية. وباستخدام شعار القومية العربية ضد الخلافة الإسلامية تمكنت بريطانيا من تحجيم الأتراك وقواتهم وإجبارهم على البقاء في أماكنهم لقمع ومواجهة ثورات الشعوب ضدهم، الأمر الذي انتهى بانتصار بريطانيا في الحرب وهزيمة تركيا وانهيار الخلافة العثمانية، وبذلك يكون الشريف حسين قد أدى الدور المرسوم على أكمل وجه وثار العرب على الخلافة العثمانية وتحقق لانجلترا ما تريد، وعندما وضعت الحرب أوزارها استعد الشريف حسين للحساب والحصول على مقابل خدماته بتنفيذ انجلترا وعدها في اتفاقية دمشق.
وقتها لم يكن يعلم أن هناك اتفاقية وقعت في الخفاء بين دول الحلفاء لتوزيع المغانم والتركة العثمانية وأن هناك خلافا بين فرسنا وانجلترا على الاستحواذ على النصيب الأكبر من التركة بالإضافة إلى أن هناك اتفاقا بين انجلترا واليهود على إقامة دولة لهم في المنطقة العربية ليقوموا بدور الحارس لقناة السويس لحماية البوابة السرية للمستعمرات البريطانية في أفريقيا، تلك الاتفاقية التي كانت أول خطواتها عام 1914 عندما كتب حاييم وايزمان إلى صديقه رئيس تحرير المانشستر جارديان شارحا الخط الصهيوني وقال بالحرف الواحد “من الممكن الآن أن نقول أنه إذا وقعت فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني وإذا شجعت انجلترا بعد ذلك توطن اليهود كمستعمرة بريطانية، فإننا نستطيع أن نوجد خلال الثلاثين سنة القادمة حوالي مليون يهودي في تلك البلاد فيطورونها وينقلون الحضارة إليها ويكونون بمثابة حرس فعال لقناة السويس)).
وبناء على تلك الرسالة حددت أهداف الاتفاقيات السرية التي وقعت بين الإنجليز والفرنسيين من ناحية وبين الإنجليز واليهود حيث استهدفت الخطة:
1 ـ أن ينتصر الحلفاء وعلى رأسهم انجلترا.
2 ـ أن تكون فلسطين من نصيب انجلترا.
3 ـ أن تسهل انجلترا استيطان اليهود في فلسطين.
4 ـ أن ينتهي الأمر بسيطرة اليهود على فلسطين في مقابل استمرارهم في خدمة انجلترا بحراسة قناة السويس لحسابهم. وظلت تلك الاتفاقيات خفية على العرب حتّى قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 ونشر الثوار لكافة بنود الاتفاقيات السرية التي وقعها القيصر في جريدة برافدا في عددها الصادر في 23 نوفمبر 1917. ومنذ هذا التاريخ دخلت العلاقات البريطانية والشريف حسين منحنى جديداً بعد أن أنكرت بريطانيا وعدها للشريف حسين بتنفيذ اتفاقية دمشق، بل استهانت به وطلبوا منه أن يعترف بحقيقة وضعهم في مصر والعراق وفلسطين، وطلبوا منه أيضاً عقد معاهدة جديدة على هذا الأساس مقابل ترك حكم الحجاز له. ولم يكن في استطاعته الموافقة أمام الضغوط التي كان يتعرض لها من الشعوب التي استجابت لثورته ورفض الدخول في أية معاهدات جديدة مع بريطانيا وأصبح يطاردهم في كل مكان. الأمر الذي أصبح معه وجوده في الحكم ومكانته التي يتمتع بها وسط الشعوب الإسلامية مصدر إزعاج لبريطانيا، فكان لابد من التخلص منه لأنه أصبح لا يخدم مصالحها، ولم تكن تستطيع التخلص منه بنفسها لأن له مكانة مميزة وسط المسلمين وأيضاً لأن بريطانيا كانت تمر بظروف صعبة في مستعمراتها، فكان الحل هو بث الخلافات بين الدول العربية وتهديد عرش الشريف حسين لإجباره على قبول فكرة الوطن القومي لليهود.
المصدر: صفحة حمادة إمام